قرن بعد سايكس-بيكو
السادس عشر من مايو لسنة ستة عشر و تسعمائة و ألف كان يوما مصيريا في التاريخ المعاصر للعالم العربي فقد حدّد فيه مصير هذه الأمة إلى يوم الناس هذا، انه يوم إبرام اتفاقية سايكس-بيكو. آنذاك في أوج الحرب العالمية الاولى، كانت المفاوضات تجري على قدم و ساق في كنف السرية بين بريطانيا و فرنسا على تقسيم الأقاليم التابعة للدولة العثمانية. فكلا القوتين الاستعماريتين كانتا تراهنان على سقوط مما كان يسمى في تلك الفترة برجل أوروبا المريض. دارت المفاوضات طيلة اشهر بين الجانب الفرنسي الذي مثله الديبلوماسي فرانسوا جورج بيكو و الجانب البريطاني الذي مثله العقيد مارك سايكس وانتهت بالاتفاقية التي حملت اسمهما.
بعد ثلاث سنوات، حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها و مثلت نهايتها انطلاقة مرحلة جديدة للتاريخ المعاصر نظرا للتغيرات الحاسمة التي لحقت بالعالم من جرائها فثلاث إمبراطوريات ذات الأهمية الكبرى تفككت و اندثرت و هي الإمبراطورية الألمانية، الامبراطورية النمساوية المجرية و الامبراطورية العثمانية. كذلك لا يمكن ان ننسى ان هذه الحرب مثلت نقطة انطلاق للدور الريادي الذي ستضطلع به الولايات المتحدة الامريكية في العقود اللاحقة على الصعيد الدولي فدخول أمريكا الحرب سنة 1917 كان مفصليا. شهدت هذه السنوات أيضاً الثورة البلشفية فاضمحلَّت روسيا القيصرية و حل محلها الاتحاد السوفيتي.
المهم ان العالم تغير بشكل لافت و الأهم ان العالم العربي شهد تطبيق اتفاقية سايكس-بيكو بعد نهاية الحرب فتفككت الدولة العثمانية و نشأت على أنقاضها دول و دويلات و ممالك و إمارات. بقيت هذه الأخيرة تحت وطأة الاستعمار لفترة من الزمن ثم نالت استقلالها و ان كان شكليا في عدد من الحالات. و هنا دخل مفهوم جديد كان غائبا تماما في المشرق و شبه الجزيرة العربية و هو مفهوم الدولة الوطنية. فسايكس-بيكو أدخل و بكل قوة هذا المفهوم إلى العالم العربي فلسائل ان يسأل، هل العالم العربي كان جاهزا لهذا التقسيم خاصة و ان طبيعته القبلية و التقليدية قد تتنافى وهذا المفهوم ؟ و اليوم و بعد مضي قرن من الزمن، الى أي مدى تمّ استيعاب هذا المفهوم؟
الحقيقة أن ما ان سقطت الدولة العثمانية و شرعت القوى الاستعمارية في تنفيذ اتفاقيتها حتى بدأ حلم الخلافة يراود من جديد الكثير من العرب. فالحركات الاسلامية و على رأسها جماعة الاخوان المسلمين نشأت مبكرا، سنة 1928 و مشروعها هو اعادة احياء فكرة الأمة و العمل على اعادة توحيد العالم الاسلامي و اعادة الخلافة. كذلك هو الامر بالنسبة للحركات الاسلامية المتطرفة مثل السلفية الجهادية لكن باستعمال العنف و بالابتعاد عن المرحلية التي يعتمدها الاخوان.
رفض فكرة الدولة الوطنية نجده ايضا متواجدا وان كان الامر مذهلا عند بعض من خلقهم سايكس-بيكو فبعض الممالك تتحدث عن الأمة الممزقة و المشتتة و تتفنن في الخطابات الشعبوية التي تأجج غرائز الجماهير. اذن في المخيال العربي العام هناك رفض لفكرة الدولة الوطنية لأنهم يعتبرونها فكرة استعمارية بحتة و ليست إرادة نابعة من العرب انفسهم. لكن في نفس الوقت، يجب ان نكون واقعيين فهل في هذا العالم المتشعب يمكن لدولة واحدة ان تستوعب كل البلاد العربية؟ أظن انه ليس من الممكن ان نرجع الى الوراء و ان نسبح عكس التيار فهذا غير ممكن و على من يظنون العكس ان يراجعوا أنفسهم فالبقاء خارج الزمن ليسا حلاّ.
فما قامت به القوى الاستعمارية قبل قرن من الزمن صار مُلهما لمن خلفوها في قيادة العالم فشهدت منطقتنا مشروع الشرق الاوسط الجديد و لا زالت تمثل مطمعاً و مسرحا للصراعات الدولية و للحروب بالوكالة. كيف سيكون العالم العربي بعد عقود، بعد قرن من الزمن؟ هل ستبقى الدول التي صنعها سايكس-بيكو؟ أسئلة لا يمكن لأحد ان يجيب عنها اليوم و سنرى ماذا يحمل المستقبل في طياته.
الشاذلي مامغلي
- اكتب تعليق
- تعليق