مائة عام على اتفاق سايكس بيكو جراحة جديدة لتقسيم المُقسم؟
تكتمل هذه الأيام الذكرى المئوية لأشهر اتفاق سياسي في تاريخ العرب المعاصر، وهو اتفاق سايكس بيكو الذي توصلت إليه بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، ووقع على هذه الوثيقة يوم 16 ماي 1916 في داونينغ ستريت شخصان غامضان كانا بعيدين عن واجهة الأحداث، هما السير البريطاني مارك سايكس Mark Sykes الموظف السامي في وزارة الخارجية البريطانية والسكرتير الأول في السفارة الفرنسية بلندن فرنسوا جورج بيكو François Georges-Picot . وقبل التوقيع قاد المفاوضات التي استمرت شهرا عبر تبادل الرسائل، السير ادوارد غراي Sir Edward Greyوزير الدولة للشؤون الخارجية من الجانب البريطاني، والسفير بول كومبون Paul Cambon سفير فرنسا لدى بريطانيا من الجانب الفرنسي.
الاتفاق في أوج الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) وكان الهدف منه تقاسُم الولايات العربية للدولة العثمانية، وخاصة الشام والعراق، بين المنتصرين في الحرب، بالاضافة إلى منطقة الأناضول التركية. وكان من أبرز نتائجه ظهور كيانات جديدة منها سوريا ولبنان والأردن أضحت أوطانا لها رموزُها وراياتُها وشخصيتها القانونية ودساتيرُها ونشيدُها الوطني بعدما كانت تُعرف ب «الشام » أو «سوريا الكبرى» .
انتهى العالم القديم ووُلد آخر مختلف رُسمت حدوده بمسطرة على مائدة الرجلين الغامضين في صباح لندني غائم . وضع الرجلان بمقصهما الخارطة الجديدة للمنطقة، فكانت حصة بريطانيا تشمل فلسطين والعراق والأردن، إلى جانب مصر، أما سوريا الحالية ولبنان وشمال العراق )الموصل(، إضافة إلى المغرب العربي، فكان من حصة فرنسا. كان هذا تغييرا شاملا للمشهد الاقليمي يُكرس انتهاء التنافس للسيطرة على المستعمرات. فألمانيا حاولت الاستحواذ على المغرب مما أدى إلى أزمة مع فرنسا بعدما أعلن الامبراطور غليوم الثاني خلال زيارته لطنجة في 1905 معارضته بشدة لفرض حماية فرنسية على المغرب، ولم تتسن تسوية الأزمة، مؤقتا، إلا في إطار «مؤتمر الجزيرة » الدولي (d’Algesiras Conférence) الذي أطاح بوزير خارجية فرنسا تيوفيل دالكاسي (Théophile Delcassé) استجابة لرغبة ألمانيا. وتجددت الأزمة في أغادير جنوب المغرب إلى درجة أوشكت معها الحرب على الاندلاع بين باريس وبرلين. ثم توصل الغريمان إلى اتفاق استطاعت فرنسا أن تنتزع بموجبه المغرب من منافسيها في آخر المطاف، وفرضت معاهدة فاس (30 مارس 1912)، في مقابل التخلي عن مصر لبريطانيا. أما المشروع الألماني لمد خط حديدي بين برلين وبغداد وصولا إلى البصرة، والمعروف بخط BBB، فرأى فيه البريطانيون تقويضا لخط الحرير وضربا لإمبراطوريتهم الآسيوية، إذا ما سيطر غُرماؤهم الألمان على المنافذ الاستراتيجية وخطوط الاتصالات والنقل، التي باتت حيوية في اقتصاد النفط لدى الدول الصناعية منذ تلك الفترة. كما أن الغزو الإيطالي لليبيا في 1911 شكل بدوره أحد القوادح التي أشعلت فتيل الحرب العالمية، فاجتياح ليبيا وضع الدولة العثمانية، حليفة ألمانيا، في مواجهة مفتوحة مع إيطاليا. وشكلت هزيمة سليمان الباروني قائد المقاومة بطرابلس يوم 23 مارس 1913 ، نجاحا مهما بالنسبة إلى الاستعمار الايطالي، فعلى اثرها دخلت القوات الايطالية يوم 27 مارس 1913 مدينة مصراتة التي كان سليمان الباروني يعتزم أن يجعل منها عاصمة لدولته المستقلة باقليم طرابلس كما يقول المؤرخ الدكتور عبد المجيد الجمل في أحد أبحاثه.
ولم يخضع تقويض بنية المشرق العربي ووضع الخارطة الجديدة إلى أية معايير موضوعية فاتفاق سايكس بيكو لم يرسم بدقة الحدود الجديدة للشرق الأوسط وإنما حدد مناطق النفوذ، التي تغيرت كثيرا بعد نهاية الحرب خلال المفاوضات التي أسفرت عن إحداث دولٍ بالصيغة التي عرفناها في القرن العشرين. وحلت محل التنوع الاثني والتعايش الطائفي اللذين كانا سائدين في ظل الدولة العثمانية كياناتٌ وطنية معاصرة أقربُ إلى الدولة/الأمة، على حد تعبير المؤرخ الفرنسي هنري لورانس. وهي كيانات استندت في أساسها الفكري إما إلى النزعة القومية العروبية أو إلى الرؤية الاسلامية. بهذا المعنى كرس اتفاق سايكس بيكو تقاسُم ما بات يُعرف لاحقا بالشرق الأوسط إلى خمس مناطق. وكان يُقصد ب «الشرق الأوسط» الفضاء المُمتد من البحر الأسود شمالا إلى المتوسط جنوبا، ومن البحر الأحمر غربا إلى المحيط الهندي شرقا فبحر قزوين، مع المحافظة على الوضع القائم في شبه جزيرة العرب. وفي أعقاب انتصار الثورة البلشفية التي اندلعت في روسيا في السنة الموالية رُفع النقاب عن الاتفاق السري، الذي نَشرَت فحواه لاحقا صحيفة «مانشستر غارديان Manchester Guardian» البريطانية. وفي سياق تلك التفاعلات أصدر وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور وَعدهُ التاريخي بمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين. ثم ما لبثت القوات البريطانية أن دخلت القدس يوم 11 ديسمبر 1917 ، أي بعد شهر واحد من وعد بلفور، فيما أنزلت قوات فرنسية على الساحل السوري، مع تقسيم بلاد الشام إلى ثلاث مناطق عسكرية، تمهيدا لفرض نظام الانتداب على المشرق العربي واقتسامه بين فرنسا وبريطانيا. وعلى رغم وعود الاستقلال التي أعطيت للعرب، مقابل نُصرة الحلفاء أثناء الحرب الكبرى فإنهم خرجوا من الحرب صفر اليدين، بل رفض مؤتمر الصلح الإستماع إلى وفودهم. وعلى الرغم من إطلاق الرئيس الأمريكي توماس ويلسون إعلانه التاريخي في 1917 الذي أقرَّ بحق الشعوب في تقرير مصيرها،على خلفية الثورة الروسية، فإن العرب لم يَجنُوا شيئا من ذلك الإعلان، إذ بقوا في الغرف الخلفية لمؤتمرات الصلح والسلام، وخاصة مؤتمري فرساي (Versailles 1919) وسان ريمو (Sanrem1920) الذي رسم مصير الولايات العربية العثمانية، ومَهَّد لوضع اتفاقية سلام مع تركيا بعد أشهر قليلة، خلال مؤتمر سيفر Sèvres . وبموجب اتفاق سان ريمو وُضعت فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني «لمساعدة اليهود على بناء وطنهم القومي في هذا البلد»، فيما وُضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.
وبين جويلية 1920 وفيفري 1921 شهدت الأرض المعروفة لدى البريطانيين باسم بلاد الرافدين، أو العراق راهناً، انتفاضة عربية كادت تُلحق هزيمة ساحقة بالإمبراطورية البريطانية. وكتب عالم الاقتصاد والمؤرّخ البريطاني أيان روتلدج في كتاب صدر مؤخرا بعنوان «عدوّ في الفرات» : الاحتلال البريطاني للعراق والثورة العربية الكبرى بين 1914 و 1921 ، أنّ ثورة عام 1920 في العراق شكّلت الانتفاضة المسلحة الأخطر على الحكم البريطاني في القرن العشرين.
ويمكن القول إن ملامح سايكس بيكو بدأت تتغير بعد مائة عام في أعقاب سيطرة تنظيم «داعش» على مناطق واسعة من سوريا والعراق واتخاذه كلا من الرقة والموصل عاصمتين ل «ولايتيه» هناك. فهل المنطقة مُقبلة على سايكس بيكو جديد مثلما هو متداولٌ في وسائل الإعلام منذ فترة؟ الأرجح أنها تسير فعلا نحو جراحة جديدة لتقسيم المُقسم.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق