المؤتمر الأفخارستي أو الحملة الصليبية التاسعة
منذ سنة 1881 بسطت فرنسا سيطرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية الشاملة على تونس بعد أن أصبحت إيالة ومحمية لها.
كان أعضاء حزب الدستور التونسي في سبات وفي عطلة نضالية. وكان زعيم هذا الحزب الوطني عبد العزيز الثعالبي الذي اشتهر بجرأته ومقاومته للاستعمار لاجئا مناضلا مدافعا عن القضايا العربية سنة 1927 بالمشرق العربي.
وكان الحبيب بورقيبة اليافع المتدفق حيوية وشبابا في مقدمة مجموعة من المستنيرين مثل الدكتور محمودالماطري ومحمد بورقيبة والبحري قيقة والطاهر صفر وآخرون منخرطون بالحزب الدستوري التونسي يتابعون الأحداث متحفزين لمساعي فرنسا ومحاولاتها الاستحواذ على العقل التونسي والنيل من مقدساته ودينه.
ففي مثل هذا الشهر من سنة 1930 اتخذت الأوساط الكاثوليكية العالمية قرارها بعقد المؤتمر الأفخارستي بقرطاج، برغبة ملحة من اللجنة العالمية للمؤتمرات الأفخارستية، قرر إثرها البابا أن تحتضن هذه المدينة المؤتمر.
وبما أن قرطاج تعد عاصمة تاريخية للمسيحية. ولأن لويس التاسع خاب في حملته الصليبية الثامنة لاحتلال تونس سنة 1270.فإن الهدف من عقد المؤتمر الأفخارستي الـثلاثين بالمدينة التاريخية قرطاج هو الثأر للكنيسة واستعادة مجدها الروماني، ومحاولة محو 13 قرن من الإسلام بأفريقيا، ودعوة صريحة للتونسيين لاعتناق المسيحية ولتجذير الاستعمار الفرنسي.
كما أن هذا الحدث يأتي ليخدم أيضا طموحات المقيم العام وبعض رجالات الكنيسة كأسقف قرطاج "لوماتر"
الإعداد للمؤتمر
ولقد بدأ الإعداد للاحتفالات المصاحبة للمؤتمر الذي انعقد من يوم7 إلى يوم 11 ماي سنة 1930 بدعم سخي من الحكومة الفرنسية حيث سخرت أموالا ضخمة (2 مليون فرنك فرنسي) كما أن المقيم العام "مانصرون" دعم بكل ثقله العمليات التحضيرية التي تضمن نجاح المؤتمر، إذ "سخرت لمنظمي المؤتمر إمكانات هائلة برزت في شكل خدمات واعتمادات. وبالفعل فإن المديرين بالأشغال العامة، والأمن، وبلدية تونس ساهموا في التحضيرات المادية للمؤتمر (طرقات، صحة، نقل، سكن، تموين، لجنة نظام)"
والملفت للانتباه أنه تكونت لجنة شرفية لتامين نجاح المؤتمر تألفت من شخصيات مرموقة تحتل مناصب هامة في السلطة الاستعمارية كما أقحمت معها إضفاء للشرعية رموز العرش الحسيني .فأسندت الرئاسة الشرفية للمؤتمر لأحمد باي الثاني بالتوازي مع أسقف قرطاج والمقيم العام "مانصرون" ،وتولى خطة مساعد رئيس شرفي شخصيات عديدة من بينها الوزير الأول خليل بوحاجب، وشيخ مدينة تونس الشاذلي العقبي، ووزير القلم الهادي الأخوة ،والوزير السابق الطيب الجلولي، وصلاح الدين البكوش قائد ضاحية تونس، ومحمد بيرم، وغيرهم . والذي يدعو إلى الاستغراب هو إسناد الدولة التونسية اعتمادا من ميزانيتها (جيب التونسي) لدعم المؤتمر.
وحل إذا بتونس أكثر من عشرة آلاف مؤتمر، من كل الأعمار، أتوا من أوروبا خصيصا للحدث وأقيمت الاحتفالات طيلة أربعة أيام "جاب خلالها خمسة آلاف شاب كاثوليكي شوارع تونس حاملين أزياء خاصة بالصليبين قبل أن يتجمهروا بحديقة البلفيدير، حيث ركزوا وسطه صليبا عملاقا" الدعاية لهذا الحدث "كما تولت جريدة "تونس الفرنسية" والدعوة لدعمه قبل انعقاد المؤتمر وبعده والدفاع عن الكنيسة ضد خصومها والمسلمين الملحدين واللائكيين" .
رد فعل الوطنيين
ولقد تزامن عقد هذا المؤتمر مع الاحتفالات بمئوية احتلال الجزائر وإعلان الظهير البربري في المغرب الأقصى، ومع خمسينية انتصاب الحماية بتونس. وأمام خطورة الوضع تعددت ردود فعل الوطنيين المنددة وفي مقدمتهم الحزب الدستوري الذي عقد اجتماعات، ووجه نداءات إلى الباي وأعضاده، في شكل لوائح ممضاة من العديد من الشخصيات. كما أضرب عمال الرصيف ببنزرت وطلبة جامع الزيتونة الذين اعتبروا هذا حملة صليبية تاسعة وامتدادا لحملة التجنيس سنة 1923 .
وأضربت المدرسة الصادقية ومعهد" كارنو" والمدرسة العلوية. كما أن" البعض من الطلبة الزيتونيين حاول فكّ ا تمثال الكاردينال لافيجري الحامل لصليب من الحجم الكبير الذي وقع نصبه بساحة العملة سنة1925 بمدخل المدينة" .
الاعتقالات
قامت الجندرمة الفرنسية بحملة اعتقالات طالت خاصة الشباب وطلبة الزيتونة كمحمد بن صالح قزقز والصادق بن مفتاح والطاهر بن علي بن سعد وعمار الخذيري الجلاصي وأحمد زروق بن محمد المداني من الجزائر وعمار بن عمر البجاوي وعبد الوهاب بن الطيب بن سليمان ومحمد بن سيك... وتلاميذ من المدرسة العلوية كالبشير الشابي، وتلاميذ معهد كارنو الذين اعتقلوا مرارا بسجن البوليس ثم اطلق سراحهم كسالم شعبان وصالح بن يوسف وصالح العنري ومحمد المحرزي وعبد العزيز البراملي والطيب سليم الذي كانت سنه لا تزيد عن 12 عاما.
وقد سأله محافظ الشرطة الفرنسي عمّا دفعه إلى التظاهر وتحريض رفاقه من الطلبة على الإضراب فأجابه بأنه قام بذلك دفاعا عن دينه الإسلام فقال له محافظ الشرطة الفرنسي من أين تعرف الإسلام حتى تدافع عنه? فأجابه قائلا "رضعته من لبن أمي"،آخرون:
كما اعتقل آخرون وهم :عبد العزيز بن علجية (عامل) والشاذلي العباسي (سائق سيارة) والطاهر بن علي بن سعد وإسماعيل عزيز تاج.
وأغلق التجار دكاكينهم احتجاجا على وقاحة الاستعمار الذي لم يعد يعتبر أو يقدر المشاعر الإسلامية.
ولقد صرح محمود الماطري بقوله:" إن الشعب والشباب في مقدمته عقد العزم على مقاومة السياسة الاستعمارية التي عاضدتها حملة صليبية في وضح النهار ضد الإسلام" .
ولعبت مرة أخرى الصحافة الوطنية دورا رئيسيا لتوعية المواطنين بالخطر المحدق بهم وبوطنهم.
وقد لاقى المؤتمر وتداعياته صدى كبيرا بالصحافة الوطنية التي لعبت دورا رئيسيا في توعية المواطنين وكذلك الأجنبية، نقتصر منها على ما ورد بصحيفة "النهضة التونسية" التي عقّبت على ما كتب في جريدة "تونس الفرنساوية "التي قالت "إن رجال المؤتمر لم يأتوا قصد الدعاية، وإن كل نشرة وجدت من هذا القبيل هي مفتعلة مدسوسة عليهم." ولكن لدينا رسالة بعنوان"هل أنت مؤمن؟" وأخرى بعنوان"الآيات الإلهية في العقيدة المسيحية" وغيرها كثير وقد وقع نشرها من طرف الكنيسة ورجالها،ووزعت على الناس ،فماذا تقول تونس الفرنساوية عن هذه النشرات؟".
أما جريدة "لوبسيرفاتور رومانو" لسان حال الفاتيكان فقد ورد فيها مايلي: " لم يبلغنا قط ولم يطرق مسامعنا أن هناك مسلما من المسلمين قد اعترض باسم المبادئ والحرية على المؤتمر بل إننا نعلم أن سمو باي تونس الذي لا يخفى تشبثه بعقيدته الإسلامية قد قبل بان يكون رئيسا للجنة الشرفية بجانب المقيم العام الذي هو وزير فرنسا بتونس والأسقف عميد افريقية ،وأن شيخ المدينة العربية التونسية وكذلك بعض زملائه بأحوازها قد عرضوا أنفسهم للبحث عن مساكن للمؤتمرين لدى مسلمي تونس.ونعلم أيضا أن كثيرا من الأمراء والأميرات من العائلة الحسينية أعربوا من تلقاء أنفسهم عن رغبتهم في إيواء الرهبان الكاتوليكيين المشاركين في المؤتمر بمنازلهم وان أميرا واحدا منهم وضع تحت طلب لجنة تنظيم المؤتمر نصف قصره مع ستة مساكن أخرى بشاطئ البحر.
اما صوت التونسي الناطقة بالفرنسية فقد صدر عنها عدة مقالات بتاريخ 3 و10 و24 ماي1930 وعناوينها كالتالي:
«Le congrés Eucharistiqurque de Carthage et les Musulmans»
«Le congrés Eucharstique,une folie»
«La laïcité aux vestiaires»
«Le musulman tu l’évangéliseras»
وهكذا تبرز حقيقة العلاقة القائمة بين الكنيسة وجمهورية فرنسا الثالثة التي تدعي اللائكية رغم مصادقة برلمانها سنة 1905 بفصل الكنيسة عن الدولة باقتراح من "أرستيد بريان"
إن جدلية التكامل والتآزر وتلاقي المصالح بين الكنيسة والاستعمار باتت مؤكدة و جلية، حتى أن سياسة المستعمر لم تعد ترتكز على المجالين الاقتصادي والعسكري فقط، بل تطورت لتعتمد على الكنيسة الكاثوليكية وتعول عليها بصفة رسمية مستجلبة معها عرش الباي وحكومته وأنصاره ولقد أدى إلى رفض الاشتراكيين الفرنسيين لهذا الاتجاه الذي يعتبر تراجعا وتجاوزا للائكية الدولة الذي يعد مكسبا فرنسيا في مجال حقوق الإنسان..
فاخر الرويسي
- اكتب تعليق
- تعليق