حكــايتان من اليمـن "السّعــيـــد"
أحببت اليمن وتفاعلت مع أهله الكرام خلال فترة عملي سفيرا لتونس في صنعاء، وشاطرتهم الأفراح والأتراح. ومن بين الحكايات التي شدتني وبقيت أتذكرها لتعبيرها العميق عن واقع يبعث على التفكير في مآسي لا اليمن فحسب، بل جل بلداننا العربية التي تعيش على وقع تمزقات هي في غنى عنها، حكايتان.
حكايتنا الأولى وردت خلال اجتماع جمع السفراء المعتمدين بصنعاء ورؤساء الهيئات المتفرعة عن منظمة الأمم المتحدة، خصّصه وزير الخارجيّة اليمني في ذلك الوقت لحشد الدعم المادي والإعانات لبلد يشكو من صراعات أنهكت قواه.
وللتعبير عن الحالة الحرجة لليمن، ختم الوزير مداخلته بحكاية مواطن يمني كان يعيش في إحدى القرى الجبلية زمن حكم الإمامة الزيدية (والإمام يعادل الحاكم في المصطلحات التقليدية)، التي استمرت لأكثر من تسعة قرون وانتهت بثورة سبتمبر 1962 والتي ساهمت فيها مصر بشكل مباشر.
بلغ لمسمع ذلك المواطن الذي أنهكه الفقر والخصاصة أن الإمام يمكن أن يمن ببعض الشيء لمن يراسله من الرعيّة. في القرية التي تعد بعض العشرات من السكان، لا يحسن الكتابة والقراءة سوى إمام المسجد. توجه إليه المواطن وطلب منه كتابة رسالة علّها تصل إلى الإمام ويغدق عليه بما تيسر.
طلب إمام المسجد من الرجل أن يحكي له قصته وشرع في الكتابة التي استمرت لزمن. وعند توقفه من سرد قصته البائسة، طلب من الإمام أن يقرأ عليه ما كتبه، لعله نسي بعض الجزئيات.
انتهى الإمام من القراءة فإذا بالرجل ينهار ويصرخ ويلطم وجهه ويبدأ في البكاء والعويل. صدم إمام المسجد وهب للرجل يسأله إن حصل له سوء، فأجابه أنه لم يكن يتصوّر أن حالته وصلت إلى هذا الحد من البؤس والشقاء. والسؤال الذي يتوجب أن نطرحه على أنفسنا هل نحن مدركون للمستوى المتردي الذي وصلنا له وقدنا أنفسنا إليه.
أما الحكاية الثانية فعشتها حين زرت احدى الشخصيات اليمنية. استعرضنا ما يحدث في بلداننا وخاصة استحواذ جحافل الإخوان المسلمين على الحكم ومدى صدق نواياهم في ما يخص إيمانهم بالديمقراطية والتعددية وغير ذلك. فأجابني القاضي بحكاية حصلت زمن الاجتياح العثماني لليمن.
وتتمثل القصة في وصول ضابط بالجيش العثماني إلى صنعاء دون عائلته. أجر بيتا وانتدب شغالة لتعنى بحاجياته. وفي البيت توجد هرّة تخرخر دائما، انزعج من ذلك الصوت الذي لم يتعوده وسأل الخادمة إن كانت الهرة مريضة. فأجابته أنها تحفظ القرآن، فصدق قولها.
وفي أحد الأيام تغيبت الخادمة واضطر الضابط إلى أن يطبخ بعض اللحم لغدائه، ثم غادر البيت ليجلب خبزا. وعند عودته لم يجد شيئا مما طبخه وعرف القصة، فالتفت إلى الهرة وقال لها: قرآن كثير، إيمان «يوك». وكلمة «يوك» باللغة التركية تعني غير موجود.
واستطرد القاضي أبو الرجال: جماعتنا مثل الهرة، لا تغرك مظاهرهم وأقوالهم.
فشتان بين الظاهر والباطن...
توفيق جابر
- اكتب تعليق
- تعليق