اليابان : قصة الألم.. والتفوق..
عندما كانت الطائرة تتجه ببطء لتقف عند منتهى رحلتها على مدرج «هانيدا» في طوكيو، لمحت من النافذة صفا من عمال المطار ينحنون تحية للقادمين على متنها.. يفعلون ذلك مع كل طائرة.. مع كل رحلة. كنت على موعد مع بلد مختلف منذ اللحظة الأولى.
لا يقع اليابان على بحيرة نفط، ولا يملك مناجم للذهب.. بل هو مجرد أرخبيل ينزوي في المحيط الهادئ عند أقصى الشرق الآسيوي فوق صفيحة بركانية نشطة.. بلد ربعه أراض وعرة، وثلاثة أرباعه جبال، لكنه يمارس أنجح أنواع الزراعة: زراعة العقول.
كنت محظوظا أن صادف وجودي في اليابان موكب المسيرة السنوية التي تنظم بداية كل خريف من بلدة «هاكوني» الريفية باتجاه طوكيو.. مهرجان من الأزياء والألوان.. كرنفالات لعربات تجرها الخيول، وبعضها يجرها رجال يضعون أقنعة تذكر بعصر محاربي الساموراي.. كان المحاربون وزعماء الإقطاع يسيرون كل عــــــام نحو قصر الإمبراطور في «إيدو»، الاسم التاريخي لطوكيو، ليجددوا ولاءهم له، ولتبديد شكوكه الدائمة فيهـــم. التاريخ الياباني هو في بعض فصوله أيضا تاريخ من الريبة بين الحكام والمحكومين لحقب طويلة من الزمن.. وكان الانتقام من المتمردين يتم بطرق دموية لا مثيل لها..
شيفرة التفوق..
عندما نتقدم في هذه المنطقة ونحن نترك «هاكوني» ونتجه غربا، نلامس سلسة الجبال التي تعتبر الأكثر شهرة في اليابان.. يتوسطها جبل «فوجي» الذي يعتبر سقف اليابان بارتفاع يقارب الثلاثة آلاف وثمان مائة مترا..
في الجبال المحيطة بفوجي، من الممكن أن تظهر على أحد جوانب الطريق الغابية ورشة للمشغولات اليدوية الخشبية.. زرت إحداها..
إلى جانب المنحوتات التي مازال الحرفيون اليابانيون يمارسونها بتفان وإتقان كما كان يفعل أجدادهم منذ مئات السنين، يصنع الرجل صناديق خشبية ذات أدراج متعددة.. ولكي يفتح الدرج الذي يحوي السر المخبأ داخل الصندوق، يقتضي الأمر سلسلة من الحركات الدقيقة بين الأدراج.. وهناك لكل صندوق سر خاص ووحيد للوصول إلى فتحه.. إنها عميلة تشبه مبدأ «التشفير» لفتح خزانة نقود، أو هاتف جوال مثلا.. اليابانيون دخلوا عصر التشفير منذ قرون!
غير أن التفوق الياباني الحديث لا يخفي أسرارا كثيرة، أو هكذ بدا لي الأمر.. في طوكيو مثلا، حيث يعيش ثلاثة عشر مليون نسمة، الأمور شديدة الوضوح: شعب منضبط يندفع بنهم نحو مواقع العمل فجر كل يوم.. عند التقاطعات الرئيسية، حوار صامت بين الجموع والإشارات الضوئية.. شبكة مترو الأنفاق التي تعتبر الأكثر تطورا في العالم تدفع بآلاف الموظفين والطلبة نحو الشارع بين لحظة وأخرى.. الموارد البشرية هي قوة الدفع للاقتصاد الياباني الذي يحتل ثالث مرتبة في العالم بعد الولايات المتحدة والصين.. وقبل ألمانيا وفرنسا..
حجر الزاوية..
والزائر لطوكيو، كما لأي مدينة يابانية أخرى، لا بد أن يستوقفه مشهد الأطفال بزيهم المدرسي، يصطحبهم المربون في درس ميداني.. ليست هذه الجولات ترفــا للطلاب أو المدرسين، بل هي تقع في قلب العملية التعليمية المرتكزة على ربط المدرسة بمحيطها.. في اليابان، لا يغادر الطلبة مدرستهم قبل أن يقوموا بواجب تنظيف فصولهم. منذ البداية، يتعلم الطلبة أن تكون النظافة خاتمة يومهم، هكذا حدثني مدير إحدى المدارس الثانوية في «كيــــوتو»، العاصمة التـــاريخية لليابان.
وما يتعوده الطلاب في المدارس والجامعات، يتحـول إلى سلوك اجتماعي في مواقع العمل.. زرت إحدى الشركات المصنعة لأنظمة إليكترونية دقيقة للأقمار الصناعية في مدينة أوساكا.. يبدأ صباح المهندسين ورئيسهم بتنظيف المكاتب، ثم بالنشيد الرسمي لليابان. يليه اجتماع مختصر – وقوفا – لتحديــد أهداف اليوم، مع استعـراض مختصــر لمصاعب الأمس.. يمضي إثر ذلك كل إلى عمله: الموظفون إلى مكاتبهم، والمهندسون إلى ورشتهم متعددة الاختصاصات.
في «ناغويا»، على مسافة ساعتين بقطار «الشـــين كانســن» السريع جنوب غرب طوكيو، كنت على موعد مع قصة أخرى، أكثر دلالة ورموزا.. قصة مصنع بسيط للنسيج أوائل القرن العشرين، تحول، بحلم رجل وعزيمة أسرة، إلى أسطورة نجاح في الصناعة الحديثة: مصنع تويوتا للسيارات..
خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، سافر السيد «كييشيــرو تويودا» إلى الولايات المتحدة.. عاد محملا بدهشة.. ومشروع..حوّل مصنــع الغـزل الذي يمكله والده لورشة لصناعة السيارات.. عام 1935 ولدت السيارة الأولى.. ورغم ظروف الحرب العالمية الثانية، وهزيمة اليابان المرة، دار المحرك من جديد.. في طبيعة الحكاية اليابانية أن يأتي النهوض الكبير، بعد السقوط المدوي..
رياضات الروح.. والجسد..
وفي بلد يكاد أن يكون التفوق قدره الدائم، يحتاج اليابانيون إلى الكثير مما يهدئ النفس، ويذهب الضغط، ويروح عن القلوب.. الرياضات القديمة مثلا تقوم بدورها في هذا المجال. في كيويتو ، لم تكن الفرصة لتفوتني لزيارة ناد لرياضة (الأي دو)، أحد الفنون القتالية القديمة في اليابان. في المبنى الخشبي الداكن، يبدو التاريخ وكأنه يتجلى أمامك دفعة واحدة: الأزياء السوداء، والوجوه الصارمة، والانضباط التام.. هنا، يغرق الجميع في رياضة روحية وجسمانية تجمع بين الحركة، والتنفس العميق، والهدوء التام..
ليس بعيدا عن هذا النادي، يتراءى أحد معابد ديانة «الشينتو»، الديانة القديمة لسكان اليابان. لكن توجد أيضا الديانات البوذية والكنفشيوسية، وهناك أقليتان مسيحية ومسلمة.
من أغرب معابد الشينتو ذلك الذي زرته جنوب غرب «هونشو» كبرى جزر الأرخبيل الياباني.. بني معبد «التوري» خلال حقبة العزلة اليابانية الطويلة.. وقواعده غارقة في مياه بحيرة «آشينو».. بوابته الرئيسية مفصولة عنه ببضع عشرات الأمتار داخل البحيرة.. هي عبارة عن أربع سواري ينام فوقها قوس يتجه طرفاه المذببان نحو السماء.. وإن كنت لم أتبين العلاقة بين اسم «التوري» و«الثور»، مع ما يوحي به البقر في شرق آسيا من مجال المقدس، فإن الأمر الواضح على الأقل أن شعار شركة تويوتا مستوحى بلا شك من رمز ديانة الشينتو..
طائر الفنيق..
على ضفـاف البحيرة، حيث تزدحم السفن السياحية والمراكب واليخوت، ألقيت بنفسي داخل إحداها لتأخذني إلى أكثر مدن اليابان الحديث إثارة.. ودهشة: هيروشيما..
عندما تلوح المدينة من بعيد، تكثر الطيور من حولنا، فيما يشبه احتفالية للترحيب بالزائرين.. نقترب.. وينساب المركب متبعا مسار البحيرة التي تتفرع بين ثنايا المدينة، فنعبر بين المباني الضخمة، وتحت جسور عملاقة تربط بين مفاصل المدينة الممتدة بلا نهاية تقريبا.. كنت في كل مرة أنتظر أن يطل المبنى الشهير.. أخيرا: ها هو!..
قبة جينباكو.. التي تحتفظ هيروشيما بها وشما في الذاكرة منذ قصف المدينة صباح الاثنين السادس من أغسطس عام خمسة وأربعين.. سقطت القنبلة النووية الأمريكية little boy قرب المبنى الذي يحتضن المعرض الصناعي.. من الغريب أن المبنى الذي كان قريبا من مركز الانفجار، ظل صامدا حتى اليوم!
التقيت السيدة «يوشيكو كاجي موتو»، واحدة من مجموعة صغيرة ممّن شهدوا ذلك اليوم المرعب ومازالو على قيد الحياة.. كان عمرها أربعة عشر عاما، وكانت مثل بنات جيلها في اليابان حينها، قد دعيت لتعمل في أحد مصانع قطع الغيار الحربية. لا تعرف كيف نجت من الموت.. ظلت لأيام تائهة بين ركام المدينة التي سويت بالأرض، حتى عثر عليها والدها الذي فارق الحياة بعد أشهر، متأثرا بمضاعفات الإشعاعات النووية.
لاحقـــت اشعــاعات القنبلة عددا من أفراد عائلتها، وتوفوا الواحد تلو الآخر.. كبرت، وتزوجت، وأنجبت، وأصبــح لهـــا أحفاد.. اتخــذت قرارا واحدا وصارما: قررت أن تروي قصة ذلك اليوم في كل مكان، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها. سرنا إلى متحف الحرب في هيروشيما.. الذكـرى كلها مرســـــومة وموثقة..كل التكنولوجيا اليابانية تم استغلالها في المتحف لتروي للزائرين تفـــاصل اليوم المشؤوم الذي أودى بحياة أكثر من مائة وعشرين ألف شخص، تلتها قنبلة ناغازاكي التي أودت بحياة ثمانين ألفا.
ساعة يــــد متوقفـــة عند لحظة سقوط القنبلة.. ودراجة هوائية متفحمة لطفل التهمه حريق الهجوم الذري.. تماثيل تحاكي في الحقيقة أجساما ملتهبة، تسيل منها الدماء والجلود والملابس.. في حديقة السلام قبالة المتحف، جرس ضخم، يقرعه اليابانيون والسياح الأجانب كلما مروا به.. لا أحد ينسى الهجوم النووي في هيروشيما!
عبء الجوار.. والتاريخ..
ودعت هيروشيا على صدى أصوات مجموعة من التلاميذ من الواضح أنهم كانو ا في رحلة مع مدرّسة مادة التاريخ للوقوف عن قرب على آثار الجريمة النووية في بلادهم، وأسرعت نحو محطة القطار باتجاه مدينة أوساكا، ثانية كبرى مدن اليابان، وربما أكثرها إثارة والتصاقا بتكنولوجيات العصر.. في رحلة قطار «الشين كانسن» فائق السرعة، هدوء تام، وركاب مستغرقون في قراءة كتب «المانغا»، قصص الكرتون المصورة ، شديدة الانتشار بين اليابانيين.
في بهو الفندق، صففت الصحف اليومية باللغتين اليابانية والانجليزية بعناية.. موضوع رئيسي يكاد يتصدرها جميعا في ذلك اليوم: اصطدام سفينة صيد صينية وقاربين لخفر سواحل يابانيين، والصين تلقي القبض على صياد ياباني!..
لا يهتم اليابانيون كثيرا بالخبر العالمي.. لكن نزاعا بسيطا بين الصيادين قرب الجزر المتنازع عليها مع الصين تشكل بؤرة اهمتام، وتوتر. جراح الاحتلال الياباني للصين لم تندمل بعد.. والحرب الصامتة بين القوتين لم تخبو نيرانها أبدا.. والصفيحة البركانية النشطة في تلك المناطق لم تكمل زلازلها بعد.
عبد الدايم الصماري
- اكتب تعليق
- تعليق