كرة الـنار
تذكرني وضعيــة الحبيـــب الصيد، رئيس الحكومة بمقولة الفرزدق للحسين بن علي في منصرفه من الكوفة : «...أمّا القلوب فمعك وأمّا السيوف فمع بني أميّة».
ذلك أنّ الأحزاب السياسيّة المشاركة في الحكم لا تبدي حماسا فياضا في الوقوف إلى جانبه وتيسير مهمّتـــه، على الرغـــم ممّا تعلنه، على مستوى الخطاب، من دعم له ولحكومته.
ولم يعد خافيا على أحد أنّ سياسيين، ومنهم قياديون من نداء تونس، يناورون منذ مدّة للإطاحة به وبحكومته، علّهم يعيدون توزيع الأوراق ويحقّقون مغانم عند تشكيل الفريق الوزاري الجديد.ويذهب الاعتقاد بهؤلاء إلى أنّ رحيل الصيد عن قصر القصبة من شأنه كذلك أن يفتح أفقا جديدا أمام العمل الحكومي وأن يحدث رجّة نفسية، كتلك التي يبحث عنها ناد رياضي يشكو أزمة نتائج من خلال إقالة المدرّب.
ولنفترض جدلا أنّه ثمّة أسبابا موضوعية لتغيير الحبيب الصيد، على الرغم ممّا أظهره من جدية وصدق نوايا في أداء مهامه، فهل أنّ تعيين خلف له يمثّل الحلّ الأنسب لإصلاح الأوضاع الراهنة، سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وأمنيّا، ولإشاعة الأمل لدى شعب ينتابه شعور متزايد بالانكسار والإحباط؟
لا مناص من الاعتراف بأنّ الإقدام على هذه الخطوة ليس بالأمر الهيّن، في ظلّ توازنات سياسيّة هشّة وغلبة منطق المحاصصة الحزبية كلّما تعلّق الأمر بتوزيع المناصب الوزارية، علما وأنّ تشكيل الحكومة قد يستغرق أسابيع وربّما أشهر. والمتوقّع أن يكون مدار الصراع كالعادة وزارات السيادة ووزارات أخرى يعتبر البعض الفوز بها أمرا استراتيجيّا، إلى غير ذلك من الإشكالات. فهل تحتمل أوضاع البلاد إضاعة المزيد من الوقت في جدال قد يطول أمده؟
ومهما توفّر في أيّ رئيس حكومة قادم من حنكة سياسيّة وكفاءة عالية وقدرة على التواصل والإقناع ، فإنّه لن يقوى، في رأيي، على مجابهة مشاكل متراكمة ومتشعّبة سبق أن أوضحت أنّها ولّدت أزمة مبطّنة، مخاتلة، لعلّها الأخطر والأشدّ مُكرا في تاريخ تونس منذ الاستقلال.
والحقيقة أنّ من يجلس اليوم على كرسي رئاسة الحكومة هو أشبه ما يكون بمن يمسك في يده بكرة من نار، فإن أحكم قبضته عليها ليمارس سلطته، بعزم وتصميم، اكتوى بلظاها، وإن آثر العافية والسلامة، ودفع بكرة النار بعيدا عنه كان سببا في اندلاع حريق مستعر في كيان الدولة يستعصى إخماده.
فهل بمقدور رئيس الحكومة أن يتجاوز عبثية الدور وأن يعالج، هو ومن معه، أوضاعا غاية في التعقيد وقضايا متداخلة ينبغي حلّها وفق تنظيم هرمي ومسار عمودي متدرّج؟
وأولى هذه القضايا، وأخطرها على الإطلاق، قضية التشغيل التي لا يمكن مقاربتها بمجرّد عقد ندوة وطنية تفضي في نهاية الأمر إلى إنتاج نصّ إنشائي، وإنّما بالسعي الجدّي إلى إعادة الروح إلى محرّكات التنمية المعطّلة، وفي مقدّمتها الاستثمار الداخلي والخارجي الذي من شأنه خلق مواطن الشغل.
ومن شروط دفع الاستثمار، الذي تقلّص حجمه في السنوات الأخيرة بنسبة عالية، توفير الأمن والاستقرار في البلاد. ولن يتأتّى ذلك إلّا ببناء أمن جمهوري وتعزيز قدرات الجيش وقوّات الأمن الداخلي على محاربة الإرهاب،إضافة إلى استتباب السلم الاجتماعي الذي يستوجب تحقيقه جرأة كبيرة في التعامل مع الانفلات النقابي وظاهرتي المطلبية المجحفة وتعطيل الانتاج في قطاعات استراتيجية كالفسفاط والنفط.
كما أنّ من متطلبات النهوض بالاستثمار تحسين مناخ الأعمال وإصلاح الإدارة وتطوير البنى التحتية ومكافحة الفساد المستشري وتفكيك شبكات المافيا التي أصبحت تتحكّم في قطاعات الاقتصاد والمال والسياسة والإعلام.
ومن البديهي القول إنّ هذا العمل الجبّار الذي يتعيّن القيام به، على أكثر من جبهة، لا بدّ أن يستند إلى إرادة سياسيّة صلبة وأن ترفده وسائل إعلام مسؤولة، تساهم في نشر الوعي الاجتماعي وتغذية الحسّ الوطني في هذا الظرف الاستثنائي الذي تمرّ به البلاد، بدل توخي أساليب الإثارة الرخيصة والنفخ في المواضيع التافهة لتضخيمها وتحويلها إلى قضايا رأي عام.
ويستدعي هذا التمشي المنهجي في معالجة مشاكل البلاد وشواغل الشعب وجود قيادة قويّة تسندها وحدة وطنيّة صماء وتتحرّك وفق خارطة طريق واضحة المعالم لإنجاز مشروع وطني تحديثي يُحَدّد في إطار عقد سياسي تلتزم الأطراف السياسيّة والاجتماعيّة باحترامه والسهر على تنفيذه. وفي غياب ذلك، ستظلّ دار لقمان على حالها وستزداد أوضاع تونس تأزّما وتعقيدا.
- اكتب تعليق
- تعليق