مــــن أســــــرار جــبــل الشعــــانبـي (فيديو)
«هل تعتقدون أننا نجري مقابلة كرة قدم، على ملعب المنزه المعشب، تحت الأضواء الكاشفة وفي النسيم العليل؟! إنها حرب ضروس، نخوضها في أعالي الجبال بين التضاريس الغابية المرتفعة والوهاد العميقة، في ظلام الليل الدامس وتحت أشعّة الشمس الوهّاجة الحارقة. قواتنا العتيدة، المشبعة وطنية وقيما إنسانية، تواجه عدوّا متوحشا شرسا، يخشى الاشتباك المباشر ولا يعرف سوى الغدر والتقتيل، والذبح والتنكيل بالجثث...عدو جبان، منغلق العقل، يدّعي الإسلام وهو أجهل ما يكون بتعاليم ديننا الحنيف، غادر، دموي، سفّاك...»
متابعة العمليات المنجزة منذ شهر جوان الماضي تؤكد أهمية العمل اليومي الشاق الذي تقوم به القوات المسلحة في مواجهة الإرهاب واستئصاله:
• رمايات : 4458
• كمائن : 197
• دوريات : 236
• مداهمات : 48
• عمليات كبرى : 36
• تفتيش : 92
في أعـــالي جبـــل الشعـــانبي الشامخ على ارتفاع 1.544 مترا، يصيبك الذهول وأنت تصغي إلى هذا الضابط بالجيش الوطني يروي على مسامعك حقائق مدهشة عن الإرهابيين المتخفّين في الشعاب والمغارات، وعن بطولات جيشنا الأبّي، قيادة وأفرادا، واستبسالهم جميعا في دحر الإرهاب وتطهير كل شبر من أرض تونس من شرهم.
أكثر من أربع ساعات تقطعها انطلاقا من العاصمة وأنت في طريقـــك إلى القصـــرين (300 كلم) عبر القيروان وسبيطلة، لتمرّ أمام جبل المغيلة وسلسلة الجبال المجاورة، قبل أن تنعطف شمالا نحو محميّة الشعانبي. الجبل يمسح بارتفاعه الشاهق وتضاريسه الوعرة حوالي 140 كلم2، (20 كلم طولا و7 كلم عرضا) وأخطر ما فيه هي تلك الألغام المزروعة هنا وهناك، لا فقط في المسالك وإنما أيضا وسط الغابات، ولا يظهر من الألغام سوى رأس لا يكاد يتجاوز السنتيمتر الواحد أو إبرة دقيقة، تتوارى بين الأعشاب والأوراق والأحجار والأتربة. تتقدم خطوة واحدة وأنت لا تعرف أين تضع قدميك، فما بالك عندما يسدل الليل أستاره على المكان! تمرّ السيارة العسكرية دون التأكد من عدم دوس الرأس أو الإبرة التي تفجّر اللغم ولكم كبّدت هذه الألغام قواتنا من خسائر جسام.
لذلك فالحلّ الوحيد هو التمشيط، مترا مربعا بمتر مربـــع. فريـــق عسكـــري متمــرس يؤدي أفراده يوميّا هذه المهمّة بيقظة لا تنقطـــع، وقد جهّزوا بأدوات متخصصة لكشف الألغام ويعتمدون على النظــــر الثاقب. يتقـــدم كل واحد منهم رويدا رويدا لتمشيط المنطقــــة بصبر وأناة، وغـــالبا ما يعـــود من جديد لإعادة تمشيـــط المساحة ذاتها ، توقّيا من حيــــل الإرهابيين وغـــدرهم.
أكثر من 400 لغم ضد الأشخاص وضد العربات تم الكشـــف عنهــا وإزالتها إلى حد الآن، والرقم وحده يكفي للدلالة على إثم الإرهابيين، وفي المقابل عن مدى كفاءة جيشنا. وبالتوازي مع ذلك، يتولّى فريق عسكري آخر تأمين فريق التمشيط متمركزا في أدغال الغابة، ويقوم باستكشاف المنطقة واقتفاء آثار الإرهابيين، ملتقطا أبسط دليل، مرهفا السمع لأي حفيف، ممعنا النظر في كل الجزئيات...
فوج عتيد وقوة عسكرية فاعلة
هذا هو قدر جيشنا الوطني : عمل دؤوب دون كلل ولا ملل ترافقه عديد العمليات الأخرى من دوريات متواصلة وتفتيش دقيق ونصب كمائن ذكيّة ومداهمات للأوكار والمخيمات، إلى جانب الرمايات المدفعية.
الفوج 11 الميكانيكي للمشاة المتمركز بالقصرين يعمل دون هوادة وفي حالة تأهب تام، على مدار اليوم وكامل أيام السنة. في ثكنة الفوج بمدخل المدينة، مركز الرصــــد والتحليـــل والقيــادة، لا تغفل عنه لا شاردة ولا واردة وهو على اتصال فوري بكل العناصر على الميدان، معتمدا على فريق متمرس من كبار الضباط العسكريين ومستخدما أدوات تكنولوجية حديثة.
العقيد آمر الفوج يكاد لا يعرف النوم ولكنه يحتفظ بهدوء عجيب ويتحلى بقدرة فائقة على مغالبة الإرهاق وكفاءة عالية في مواجهة الصعاب، متشبعا بقيم وخصال تؤسس عقيدة الجيش ويتقاسمها الجميع.
وتعزز الفوج 11 التابع للّواء الثالث بقفصة في آداء مهامه بالقوّة العسكرية بالوسط المتخصصة في مقاومة الإرهاب وتنتمي عناصر هذه القوة إلى مختلف التشكيلات الموجودة ضمن اللواء وإلى عديد الفرق المختصة المتأهبة دوما في المراكز الأخرى. وهو يستدعي، حسب العمليات المبرمجة، مشاركة القوات الخاصة والطيران الحربي وغيرها ويشكل بذلك قوة ضاربة، خبر العدو مهاراتها وقدراتها القتــــالية وأصبـــح يخشى عملياتها، ساعيا إلى الاختفاء عن أنظارها.
العقيد آمر القوة العسكرية، العقيد الغالي، يشترك مع آمر الفوج 11 في نفس الكفاءة العالية والخصال، يعمل هو أيضا بصمت ليلا نهارا ( خاصة في الليل) لتكثيف المحاصرة اللصيقة للإرهابيين وتنفيذ العمليات الكبرى ضدهم.
استراتيجية صعبــة تؤســس لنمـــوذج تونســـي ناجـــح
جبل الشعانبي هو واحد من سلسلة أربعة جبال تحيط بالقصرين وهي :
• الشعانبي: 140 كلم2
• السمامة: 172 كلم2
• السلّوم: 105 كلم2
• المغيلة: 162 كلم2
وقد تم إعلان كامل الجهة منطقة عسكرية مغلقة بموجب أمر رئاسي (جويلية 2015 ) يضعها تحت إمرة الجيش الوطني ويستوجب دخول الأشخاص إليها الحصول على ترخيص من المؤسسة العسكرية.
على عكس عديد الدول الأخرى في العالم التي تواجه نفس الوضع، لم تقبل القيادة العسكرية التونسية باستراتيجية تتمثل في الاكتفاء بتطويق الجبل عند أسفله واستخدام المدفعيات أرضا ورمي القنابل من الجو وترك الإرهابيين يسيطرون على المنطقة يرتعون فيها كما يشاؤون، في انتظار إبادة العدو في يوم من الأيام وقد يستغرق ذلك سنوات.
أما الخيار التونسي فهو عدم التفريط في أي شبر من تراب تونس، والحرص على تسلق الجبال وتمشيطها وتتبّع الإرهابيين ومداهمتهم حيثما وجدوا، وهو خيار شاق ومكلف، يستدعي تنظيما فاعلا وإمكانيات هامة وحرفية عالية وتضحيات جسام. وهو القرار الصائب الذي بدأ يؤتي أكله.
من الاستطلاع إلى المبادرة والهجوم
ذكّرني ضابط عسكري سام بأن العمليات في الشعانبي والجبال المحيطة به مرت، منذ ظهور الإرهاب إلى اليوم، بثلاث مراحل. الأولى كانت مرحلة استطلاع واستكشاف مع توخي عنصر المباغتة، بدأت في 29 أفريل 2013 وتواصلت إلى غاية موفى جويلية من السنة نفسها، مسفرة عن استشهاد 12 عسكريا وإصابة 14 آخرين بجروح.
المرحلة الثانية، تزامنت مع تركيز القوة العسكرية في جبل الشعانبي، يوم غرّة أوت 2013 ، وتواصلت سنة كاملة لغاية 31 أوت 2014. ولئن أسفرت عن استشهاد 18 عسكريا وإصابة 31 آخرين بجروح، فقد مكنت من القضاء على عديد العناصر الإرهابية وتدمير عدد من المخيمات والمخابئ.
وقد دخل جيشنا الوطني منذ غرة سبتمبر 2014 مرحلة ثالثة تتواصل إلى اليوم تحت شعار المبادرة والهجوم، مكّنت من القضاء على 18 إرهابيا والقبض على العديد منهم. وعلى الرغم من دفع الثمن غاليا باستشهاد 8 عسكريين وإصابة 16 آخرين بجروح، فقد أحكم الجيش الوطني سيطرته على جبل الشعانبي ويمكن القول إنه أشرف على تطهيره بالكامل من الأوغاد.
الهندسة العسكرية تعبّد الطريق
في محطة الإرسال الإذاعي والتلفزي على قمّة الجبل، ونسمات الربيع الباردة تلفح الوجه وضباب الصباح يلف المرتفعات والسهول بعد أن ذابت ثلوج الشتاء وكست الخضرة المزركشة غطاء الأرض، وعلى سطوح مباني المحطة، يتمركز عناصر الجيش بكل يقظة، كما اعتادوا على ذلك، شتاء وصيفا، ليلا ونهارا. وإلى جانب المحطة بأعمدتها الشاهقة التي تعلوها اسطوانات الالتقاط والبث الضخمة، تشتغل عناصر الهندسة العسكرية كخلايا نمل دؤوبة لاستكمال آخر أمتار الطريق المعبّدة الجديدة التي تم إنشاؤها على طول أكثر من 7 كلم وسط الشعاب الجبلية. وأصعب ما فيها هو تمشيط الطريق والتوقي من الألغام. كان المسلك في السابق وعرا لا تقدر أن تعبره سوى الشاحنات الضخمة المجهزة والسيارات الكبرى، رباعية الدفع. وكثيرا ما تتسبب الثلوج والأمطار في قطع الطريق وعزل العاملين في المحطة الذين يستنجدون بالدواب لجلب مؤونتهم. ومع تنامي الإرهاب أضحى تفخيخ المسلك بالألغام مصدر خطر حقيقى. ولذلك يمثل إحداث هذه الطريق بجودة عالية، حيث يصعب زرع الألغام فيها، مكسبا هامّا يثمن الجميع قيمته.
قمة تونس وقمة الولاء لتونس
تنزل من الشعانبي وقد امتلأت الرئتان هواء صافيا نقيا وغزا القلب إيمان قويّ بعزّة تونس وشموخها واستعصائها على كل وغد غدار، وسكن الوجدان إكبار عظيم لقواتنا المسلحة البطلة، نستلهم من استبسالها في الدفاع عن حياض الوطن معاني الوطنية، والإخلاص لهذا الشعب، والولاء لهذه البلاد.
الشعانبي دخل تاريخ تونس مرّة أخرى. فهو ليس فقط أعلى قمة على أرض الخضراء، وإنمّا أصبح قمّة الوطنية، ورمزا لمناعة تونس.
توفيق الحبيب
- اكتب تعليق
- تعليق