لم يتجاوز الثلاثين من عمره بكثير، ولكنّه يحمل في «رصيده» أكثر من عشر سنوات من الجهاد التكفيري المتوحش. تلطخت يداه بدماء الأبرياء في بلاد الشام وفي بلده المجاور لتونس وعلى أرض بلادنا. هو قائد إرهابي عنيف بسط نفوذه على جماعة مسلّحة وانتصب على رأسها في الجبال لفترة طويلة قبل أن يدفع بها إلى القتال في تونس.
خطّط واحتطب واستقطب وأقفل العقول، وأوغر الصدور ودرّب على السلاح وزرع الألغام ونصب الكمائن وذبح الجنود...وسفك الدماء بوحشية لا توصف.
كانت قواتنا المسلحة والأمنية تقتفي آثاره وتتعقّب أخباره باعتباره مجرما خطيرا لا بدّ من إلقاء القبض عليه و«كنزا» ثمينا من المعلومات يتأكد الحصول عليها منه لفكّ عديد الألغاز وتفكيك مزيد من المجموعات الإرهابية الأخرى.
هذا الإرهابي المتوحش كان يتوجّس خيفة من كلّ تحرك، فهو شديد الحذر، كثير التنقل والتخفّي يطلق النار بسرعة ويلوذ بالفرار، ولم يكن من السهل اصطياده والظفر به حيّا. ولكن ذلك لم يكن بعزيز على ذوي العزائم الصادقة.
أسابيع قليلة قبل أحداث بنقردان، قررت المجموعات الإرهابية تشديد الطوق على قوّاتنا المسلحة والأمنية وتكثيف هجماتها عليها في شتّى الجهات لتشتيت جهودها، متــــوقّعين بذلك تهيئـــة فـــرص الانقضـــاض عليهـــا.
وقد تنقّل هذا القائد الإرهابي ومجموعته بين الجبال المتاخمة للحدود مع الجزائر، وتحول إلى الحدود مع ليبيا قبل أن يعبر من جديد عديد المناطق الجنوبية الأخرى. وكانت عيون تونس اليقظة تتابع تحرّكاته بدقّة إلى أن توفقت إلى إحباط عمليّة كبرى كان يعدّ لتنفيذها وإلقاء القبض عليه.
أصابت المحققين الدهشة لكلّ ما وقفوا عليه من معلومات مذهلة وحصلوا عليه من اعترافات مثيرة. الرجل بسيط جدا في تفكيره، مغسول الدماغ، قد خلا قلبه من الإيمان وعقله من العلم والمعرفة، لا يعرف من الدين الإسلامي الحنيف إلا النزر القليل جدا حتى أنّه يعسر عليه تلاوة ما يمكن أن يتذكر من آيات وسور قرآنية.
كان في حالة رثّة لم يعرف النظافة منذ زمن طويل ولم يرتد من الثياب إلاّ البالي ولم يصب من الطعام إلاّ القليل. وكان في حالة ذعر وهلع كبيرين، مرتعشا، منقبضا، يخشى أن يذبح مثلما كان يفعل هو بضحاياه دون شفقة ولا رحمة.
استغرب كلّ ما يحدث له وكاد لا يصدّق
معاملة إنسانية راقية، بدأت بتمكينه من الاستحمام والحصول على ملابس تجنبه البرد القارس، وجبات طعام منتظمة وفراش مناسب...جنّ جنونه في صمت رهيب. هل هؤلاء هم «الطواغيت» الذين استباحوا دماءهم وشحنوا لإبادتهم؟ وهل أنّ الأمر يتعلّق بمجرد خدعة من المحققين لاستلطافه واستدراجه للبوح بالأسرار. حيرته كانت شديدة وتعجّبه كبير من حسن المعاملة ورفعة الأخلاق ولعلّ عذره في ذلك جهله بنبل عناصر قواتنا المسلّحة.
أفكار متضاربة كانت تتصارع في ذهنه مثلما أسرّ به بعد ذلك للمحقّقين، تذكّر أنّه أميّ لا يحسن القراءة والكتابة ولا يحفظ من القرآن الكريم إلاّ القليل القليل وتذكّر كيف قتل وذبّح...وكيف عثر الإرهابيون في جراب عسكري نكّلوا به على سجّادة صلاة ونسخة من القرآن، وتذكّر الصور المقيته المغلوطة عن الأمن والجيش التي زرعوها في ذهنه وأذهان رفاقه، تحفيزا لهم لاستهداف «الطاغوت».
بدأ الإرهابي يراجع نفسه وأضحى يجيب عن أسئلة المحققين بدقّة وإسهاب، ثمّ تحوّل في مرحلة ثانية إلى الإدلاء بمعلومات مهمّة عن أماكن المجموعات الإرهابية ومخيّماتها ومقابرها الجماعية، وأساليب استقطابها للشباب وطرق تخطيطها وتنقلها بين الجبال والسهول وأنظمة اتصالاتها وطرق الحصول على الأسلحة والأموال والتموين. وكان المحقّقون يلتقطون كلّ معلومة بانتباه شديد ويمعنون في التثبّت من صحّتها واستغلالها بدقة لتعقّب الإرهابيين وتقويض مخيّماتهم ونظمهم. وبالمقابل أصبح الإرهابي يشعربرغبة شديدة في أن يصدّق الجيش كلامه ويستفيد من معلوماته، علّه يخفّف بذلك، ولو قليلا، ممّا يشعر به من ذنب كبير ووزر آثم ثقيل.
انتهى التحقيق الأوّلي مع القائد الإرهابي الخطير في انتظار تسليمه إلى الفرق الأمنية المختصّة. وفجأة طلب أن يضيف شيئا لم يعد يقدر على كتمانه. حدّق مطوّلا في عيني مخاطبه ثم طأطأ رأسه وقال: «أعرف أنكم لن تصدّقوا ما سأقوله لكم من إني ندمت كلّ الندم عمّا اقترفته من جرم كبير في حق تونس وحق التونسيين ولا يمكن لي أن ألتمس لذلك أيّ عذر وأستحقّ من أجل ذلك أقصى العقاب، ولعلّ الموت ينقذني من وخز الضمير الذي يدمر نفسي في كلّ لحظة...».