صورة رجل غيّر العالم
الشّعراء والفلاسفة والثّوّار يحلمون بتغيير العالم، لكنّ مارك زوكربرغ يغيّره فعلا، فمنذ ظهور الفايسبوك لم تعد الحياة تُشبه ماضيها، واختلف العالم عمّا كان عليه، وما يزال هذا التغيّر سائرا إلى وجهة غير واضحة المعالم، كيف سيكون شكل الحياة في المستقبل؟ سؤال ليس من السّهل الإجابةُ عنه، فالتطور التقني الهائل الذي يميّز عصر ثورة المعلومات لن يتوقّف وتأثيراته على الانسان متواصلة، وقد يكون هذا المجهول هو سبب التخوّف الكبير الذي رافق ظهور صورة مؤسس الفايسبوك وهو يدخل القاعة يوم افتتاح المؤتمر العالمي للهواتف النقّالة في برشلونة بخطاه الواثقة ومظهره الرياضي وسط قاعة تعجّ بالأشخاص الذين يضعون خوْذات لمشاهدة شيء آخر في عالم افتراضي، فهل سنتجوّل في المستقبل داخل عالم معدني مصنوع لا علاقة له بالواقع الذي نضع عليه أقدامنا، وهل سيكون زعماؤنا الوحيدين الذين يُبصرون لنا؟
المبصر الوحيد في غابة من العميان
يميّز رولان بارط في كتابه «الغرفة المضيئة، تأمّلات في الفوتوغرافيا» بين الصّورة الهامدة والصّورة الحيّة، ويرى أن حياة الصّورة تقع في ما يسمّيه «الستوديوم» وهو العمق الذي يتحاور فيه المُشاهد مع المُصوّر وتتجلّى فيه انفعالات المُتلقي متراوحة بين الرّغبة الفاترة والحب. بارط يعتبر أن هذا العمق يُحتّم التعرف على نوايا المصوّر والتّناغم معها بصورة عكسية تبعا لإرادة المشاهد. ولا جدال في أنّ صورة مارك زوكربرغ في برشلونة يوم 21 فيفري 2016 هي من هذا النوع الذي تتّسع فيه مساحة العمق الدلالي لتستوعب انفعالات غامضة يتمازج فيها الإعجاب بالخوف والانبهار بالغموض. الصورة تنتمي إلى الصنف الوثائقي لكنها وقعت منذ صدورها في الحيّز الجمالي العام الذي تنتمي إليه الصّور الفنّية، فمكوّناتها تقوم على التقابل بين الفرد والمجموعة، مارك والجمهور، صاحب الشركة والحرفاء.. هذا التّـقابل يمتدّ ليتجاوز الصّفة الاجتماعية المهنية والبروتوكولية التي يفرضها الواقع المادي ليولّد دلالات رمزيّة لا تحصى، فالتّقابل كامن بين الفردانيّة والكلّيانية، بين السّكون والحركة، بين الضوء والعتمة، كلّ شيء في الصّورة ينتمي معرفيا إلى «الستوديوم» الذي تحدّث عنه بارط، فمكوناتها تعكس التناقض الحادّ بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي، الجالسون مكبّلون بخوذاتهم منقطعون عن الواقع بينما مارك زوكربرغ في العالم الواقعي الحيّ لا يشعر به أحد، هم سجناء المشهد الافتراضي وهو حرّ طليق، أليس ذلك هو أكثر ما يرعبنا في الصّورة لا سيّما إذا كنا مقتنعين تمام الاقتناع بأننا أيّا كان موقعنا ننتمي إلى هذه الفئة التي لا ترى إلى العالم بمشيئتها الخاصة؟!
عوالم ماتريكس
بمجرد نشرها على صفحة زوكربرغ التي يتابعها أكثر من مليار وخمسمائة مليون شخص عبر العالم أثارت الصورة سيلا من التعليقات جسّدت حالة هلع جماعي، أحد هذا التعليقات كان بمثابة صرخة إنسانية حادة وعميقة تمزق مادية الأشياء من حولنا وتَلوّث المجال الطبيعي بكل ما هو رنين وشعاع وليزر. «لا أريد أن أعيش في عالم كهذا، أريد أن ألمس الزهرة وهي تتفتح وأن أشمها، أريد أن أحضن شخصا بين ذراعي وأقول له أحبك وجها لوجه، أريد أن أرى الشمس تغرب ودمعة تنساب على خدّي، أريد أن أكون قادرا على الإحساس بالشّعاع على وجهي وأن أتضوّع رائحة غداء أعدّه، لا أريد أن أكون مرتديا لباسا رماديا بينما يشرحون لي ما هو جيّد في قاعة مكيفة تضيئها مصابيح اللاّد وتسجّل فيها أجهزةٌ كهربائية كل حركات عيني، أن تكون انسانا معناه أن تكون حرّا». واهتمت صحيفة لوموند في عددها الصادر في اليوم الموالي بهذه الصورة مشيرة إلى أن عنصر التخوف الأساسي يتمثل في هاجس الارتهان إلى الآلة، والتنازل طوعا عن الحرية الشخصية، فالنّاس بقدر ما تُغريهم الخوذة تزرع في نفوسهم الخوف، وقد ربطت الصحيفة بين الصورة وشريط ماتريكس الذي يقوم على فكرة الحياة داخل البرنامج أو الانصهار في عالم الذكاء الصناعي، بما يرمز إلى اضمحلال مفهوم الحرية والاستقلالية المرادفين للحياة، فمارك زوكربرغ في الصورة يبدو الانسان الوحيد الواعي وسط مجموعة من الأشخاص الضائعين في عالم افتراضي لا وجود له في الواقع. وتعود جذور هذا التخوف الأولى إلى ثمانينات القرن الماضي حيث أطلق «ويليام جيبسون» أحد أبرز كتاب الخيال العلمي مفهوم «الهلوسة الطوعية» انطلاقا من مشاهدته الأطفال الصغار منغمسين في طرفيات اللعب الالكترونية تعبيرا عن هذه العبودية الجديدة والتسليم بالتراضي في الحرية أهم شرط من شروط الوجود البشري.
لم ينطلق هذا الهاجس من الثمانينات عصر الحواسيب الشخصية والماكينتوش، بل إن صورة من صور الستينات تظهر ركاب عربة ميترو منغمسين في قراءة الصحف أثارت من جديد جدلا كبيرا في السنوات الأخيرة بوصفها دليلا على أن العزلة قد بدأت من تلك اللحظة وأن تلك الوسائط كلها تمنع التواصل الاجتماعي الحقيقي، ولا فرق عندئذ بين من يقرأ كتابا أو من يرشق عينيه في الكمبيوتر اللّوحي أو الهاتف النقال في رحلة الميترو اليومية أو الاجتماع العائلي. وبنبرة ساخرة تؤكد لوموند أن التّخوف من الخوذة بلا طائل فسعرها لن يكون في متناول الجميع، وهي تتجاهل بهذه الفكرة الحقيقة الثابتة في عالم الذكاء التكنولوجي والمعلومات والتي تجعل كل الأشياء تبدأ دائما بأسعار خيالية لتنتهي في كل البيوت بأسعار لا يتوقعها أحد.
لكن صحيفة الملاحظ الفرنسية قلّلت من أهمية الضجة التي أحاطت بهذه الصورة مؤكدة أن التطبيقات المتوفرة حاليا لتكنولوجيا الواقع الافتراضي منحصرة في مجال الألعاب وأنه من غير المتوقع على المدى القريب أن ترى الناس يتجولون في الشوارع مرتدين الخوذات التي تعزلهم عن الواقع المادي، وهي تؤكد أن ما تم عرضه في برشلونة لا يتجاوز مجرد إلقاء الضوء على تقنية التصوير بالهاتف عبر 360 درجة، بينما ما تزال في حيّز الفكرة وعودُ مارك زوكربرغ بنقل التواصل الاجتماعي إلى حيز الواقع الافتراضي، لكن ألم تكُن كلّ المنتجات التي نستخدمها اليوم في البدء مجرد أفكار ومادة مُسلية في مسلسلات الخيال العلمي؟ ألم تتحول تصورات بيل غيتس في كتابـــه «المعلوماتية بعد الانترنت: طريق المستقبل» الذي كتبه أواسط تسعينات القرن الماضي عن الطريق السيارة للمعلومات وعن منزل المستقبل وإمكانات الإدارة والتحكم في الأشياء عن بُعد إلى ماضٍ نتأهب لتجاوزه في اتجاه مستقبل مجهول؟
هل صار العالم مكانا أفضل؟
يغيّر الشعراء والفلاسفة والثوار الانسان ورؤيته إلى العالم عبر تراكم المعرفة وتضافر المنجز البشري، لكننا هاهنا في السياق التكنولوجي حيث تبدو الألفية الجديدة المعادل الرمزي لآلاف من السنين الماضية، لقد غيرت شبكات التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها شبكة الفايسبوك شكل الحياة، وأسهم في هذا التغيّر تطور الهواتف الذكية التي جعلت الانسان متصلا عبر الانترنت، يستخدم باستمرار ذاكرة الكترونية امتدادا للذاكرة البشرية التي أخذت تضمر وتفقد قدرتها على الاحتفاظ بكم هائل من المعلومات، امتزاج الرغبة بالخوف في تجربة الخوذة كما كشفتها الصورة تعكس هذا التلازم بين النقيضين في عصر الهاتف الذكي والتواصل الاجتماعي الالكتروني، فبينما يحصي أحدهم آلاف الأصدقاء على الشبكة الافتراضية يغرق تدريجيا في العزلة، وبينما يشعر عبر امتلاكه آلية النفاذ إلى محرك البحث غوغل في كل وقت بأنه يمتلك القدرة على معرفة كل شيء يقع بسهولة في النمطية وتوهم المعرفة ويفقد الحصانة العقلية التي يمنحها إياه التكوين الأكاديمي أو الذاتي بالأساليب التقليدية، وكم هو مؤسف اليوم أن تصبح موسوعة ويكيبيديا أحد أهم مصادر المعرفة الموثوقة لدى قطاع عريض من الأشخاص، بل كم يبدو من السهل إجراء غسيل الدماغ وتوجيه الرأي العام عـبر الفايسبوك في ظلّ تراجع الاهتمام بالصحافة التقليدية وفقدان الثقة في ما تنشره من أخبار وآراء وتحاليل.
حلم مارك زوكربرغ بنقل التواصل الاجتماعي إلى الواقع الافتراضي قد يجعل غدا الخوذة جزءا من حياة الناس بما تتيحه من إمكانات لتغذية الوهم وتعميق الهوة بين الحقيقة المادية والخيال الصناعي، وقد يكون هذا هو الجزء الثاني من الكابوس حيث يفقد كل قيمة ومعنى ذلك السؤال التقليدي عمّا إذا كان العالم قد أصبح مكانا أفضل أو أجمل.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق