كيف يتراءى مستقبل تــونـــــــــس في المجال الاقتصادي؟
تتلاحق بنسق سريع محاولات استشراف المستقبل، ففي ظرف أشهر قليلة يجد المرء بين يديه على الأقل ثلاث دراسات استشرافية، تحاول أن تتلمس ملمح الصيرورة التونسية في الغد على المستوى المتوسط والأبعد. وإزاء توفر المعطيات الاقتصادية والاجتماعية بكل أبعادها، وبالدقة اللامتناهية، وتطور العلوم بفروعها، أصبح بالإمكان رسم صورة للمستقبل بنواحيه المختلفة، وبالتالي العمل على اعتماد الأدوات التي باتت متاحة بشكل كبير في تصور الوسائل التنموية وضبطها، وفقا لسياسات مؤدية إلى غايات، لم تعد من ضرب المجهول.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، أمكن للبلاد التونسية أن تضبط على الأقل ثلاث دراسات تولتها جهات حكومية أو من المجتمع المدني، جديرة بأن تدرس، ويجري تقييم مدى جدية كل منها، وقدرتها على تحديد السياسات التي تضمن نجاح الفعل الاقتصادي والاجتماعي، المحدد لعملية التنمية بكل أبعادها.
الوثيقة التوجيهية للمخطط
وفي فترة أولى، وبعد تلمس متردد، صدرت الوثيقة التوجيهية للمخطط الخماسي 2016/2020 عن وزارة التنمية والتعاون الدولي في نسخة أولى وصفت بأنها ضعيفة، ولم تستطع نسخة ثانية تولتها مصالح الوزارة، التي تزخر بكفاءات عالية أشبه ما تكون بمكتب دراسات، أن تتلافى كل الهنات، لنقص في التأطير السياسي بالذات، فلم تتوفق إلى تشخيص للحالة مقنع ولا لتحديد التحديات، ولا لضبط الأهداف الكبرى ذات الأولوية، والقادرة على وضع أسس لعمل إرادي واضح، ولعملية التنمية المحددة بكل جوانبها، ولا وسائل التحرك اللازم، وبالمقارنة تبدو هذه الوثيقة هي الأضعف بالقياس إلى الوثائق التوجيهية التي تم ضبطها خلال العشرين أو الخمس وعشرين سنة الماضية.
البرنامج الوطني للإصلاحات الكبرى
وفي ما كان يجري الإعداد للمخطط الخماسي، على قدم وساق من دون ركيزة واضحة من مذكرة توجيهية صلبة، تولت رئاسة الحكومة عن طريق جهاز محدث لديها يتمثل في «مجلس التحاليل الاقتصادية» نشر «برنامج وطني للإصلاحات الكبرى» 2016 /2020، بإشراف المستشار برتبة وزير توفيق الراجحي، وبمشاركة ثلة من كبار الأساتذة الجامعيين والخبراء الاقتصاديين.
وقد نجح هذا التقرير في تشخيـــص مجموعة مهمـــة من الأهــداف تتجــاوز المائة، ولكنه توقف قبل الوصول إلى وسائل وأدوات إنجازها، بينما كان مفروضا، وهو جهــاز حكومي، أن يحدد لا الأهداف وتعدادها فقط، ولكن أيضا الوسائل والأدوات التنفيـــذية لطـــرحهـــا على الحكــــومة، وإن بـــدا هذا العمل، على أهميتـــه النظـــرية، إلى حـــد مـــا تكـــرارا لما تقوم به وزارة التخطيط وسحب للبساط من تحت قدميها، ولعل ذلك ناتج عن الضعـــف الملاحظ في المذكـــرة التوجيهية للمخطــط، وإن لم يكن من المفـــروض أن تتـــوزع وتتشـــتت التحركات الرسمية للحكومة، على الرغم من الوعي بأنّ الفــارق واضح بين مذكرة توجيهية واعتماد برنامج للإصلاحات الكبرى.
استشراف للقطاع الخاص ناتج عن عمل جمعياتي
وفي انتظار تقرير متوقع استشرافي للحالة التونسية في أفق 2025، يتولى إعداده المركز التونسي للدراسات الإستراتجية التابع لرئاسة الجمهورية، تحت إشراف مديره العام حاتم بن سالم، والإسقاطات السكانية لأفق 2040 الذي يعده معهد الإحصـاء، فإن المفترض أن يكون التنسيق كاملا بين هذه الأجهزة وكلها حكومية، بقطع النظر عن عطاء مهم لمؤسسات المجتمع المدني.
وفي هذا النطاق، فإن نتائج «منتدى المستقبل» الذي انتظم في أواخر شهر فيفري المنقضي جديرة بالتوقف، ولعلّ تلك النتائج كانت الأكثر نجاحا في رسم التحديات وضبط الأولويات من منطلق تشخيص شامل اقتصادي واجتماعي للحالة التونسية الراهنة في إطار من توافق كبير بين قيادات عمومية وخاصة ذات وزن في المجتمع، أتت بتجربتها العميقة، وأسهمت في إثراء خط مرسوم مسبّقا ومؤطر تأطيرا جيّدا عبر ورقات عمل أعدتها جمعية الاقتصاديين التونسيين، واعتمدت هذه الورقات قاعدة للتفاعل وتبادل الرأي بما يعتمل في المجتمع من مواقف وآراء بدت أحيانا متناقضة، ولكنها تستبطن المصلحة الوطنية عبر تحقيق تنمية مستدامة وشاملة.
وإذ ما زالت هناك دعوات لاعتماد اقتصاد موجه، فإنّ غالبية الآراء لمئات المشاركين حددت للدولة مجالات نشاطها، واعتبرت أنّ الحل للبلاد يكمن في قطاع خاص ديناميكي، قادر على رفع تحديات كبرى للاستثمار والتشغيل وخلق الثروة قبل الحديث عن التوزيع وعدالته.
ويمكن القول هنا إن الملخص التأليفي المركّز، الذي جاء في 12 توصية، قد أصاب الهدف من حيث تلخيص الهموم الرئيسية التي تعتبر أولويات مطلقة، والتي أتت على اهتمامات المنتدى خلال يومين كاملين من الأشغال المركزة، وكم كانت عميقة ومفيدة.
وقد أكدّ الدكتور محمد الهدار، رئيس جمعية الاقتصاديين، أهمية الحوار الوطني كسبيل لتحقيق تنمية البلاد بقناعة كاملة تجاه التوجهات والسياسات والأهداف والوسائل ومضمون الإصلاحات. وبيّن محاور اهتمام المنتدى، وهو الأول من نوعه، ومن بينها أهمية المؤسسة وتطوير القطاع الخاص، محرك النمو، والعلاقات الشغلية، وضمان تنمية أكثر عدالة، ضمن عدة عناصر من بينها عدالة جبائية ضرورية بما يتطلب إصلاحا جبائيا عميقا، في بلد تُثقل فيه نسبة 80 من موارد الضرائب كاهل الأجراء وحدهم. وأضاف إلى ذلك ضرورات النجاعة في الفعل الاقتصادي، واعتماد إصلاحات قد تكون موجعة ولكن لم تعد هناك مندوحة من إنجازها، بما في ذلك إصلاح الإدارة التي باتت تشكل عبئـــا على كاهـــل نفقـــات الدولــة فـــوق طــــاقة الاحتمــال بما يتطلب المراجعــة، وضرورات الحوكمة الرشيدة. وقد جرى نقاش مستفيض بعد تلك المداخلة المركزية، تطرق فيها الحوار بقوة إلى محوري النمو وتشخيص الحالة بدقة.
تشخيص طريف
ومن جهته، فإنّ الدكتور مصطفى كمال النابلي، الذي تقلد مناصب عليا في الدولة التونسية وفي البنك الدولي، اتخذ مدخلين لمحاضرته: أولهما نظري، والثاني عملي بصفة جعلها بمثابة الإطار العام للمنتدى، وقد تعرض لأثر النمو كمدخل ضروري لفهم إشكالية التنمية، ملاحظا أنّ النمو لا يشكل بالضرورة تنمية، وأنّ التنمية لا يمكن أن تحصل من دون نمو. واستعرض مقارنات عالمية، ففي تونس والمغرب ومصر حصل تطور بمرتين في نسبة النمو، بينما عرفت الصين ارتفاعا في نسبة نموها بـ25 مرة.
وحاول المحاضر تفكيك ظاهرة التنمية عبر مؤشرات مثل تطور عدد المشتغلين ونمو الإنتاجية، مستنتجا أنّ تطور الإنتاجية ضعيف في تونس وهو ما يعيق نسبة النمو، وأنّ الـ25 سنة المقبلة لا بد أن تعرف تطورا مشهودا في الإنتاجية. و أكّد أنّ الضغط على سوق الشغل لا بدّ أن يتحول من الكمي إلى النوعي، مستبطنا أثر التطور الديموغرافي في البلاد في تطور نسبة النمو وبالتالي عملية التنمية، وهذا لا يتسنى تحقيقه إلاّ عبر تطوير فعلي وكاسح لإنتاجية العمل، للاستجابة إلى متطلبات 40 ألف فرصة عمل جديدة، فيما أنّ الإنجاز الحالي لا يفوق 11 الف فرصة عمل عن كل نقطة في نسبة النمو، وباعتبار نسبة النمو المحققة، فإننا أبعد من أن نقضي على البطالة الوافدة، فضلا عن استيعاب مخزون البطالة القائمة.
وتولى المحاضر تحليل مسألة إنتاجية العمل، المرتبطة بمتوسط إنتاجية العامل، ونوعية اليد العاملة والإمكانيات المتاحة، كل ذلك في إطار الإنتاجية الجملية التي تتطلب تنظيم المناخ العام وتحسينه، مع رفع مقدار الاستثمار من 20 في المائة حاليا إلى ما بين 36 و40 في المائة، وتولي القطاع الخاص الإسهام بالقدر الأوفى منه، ممّا يتطلب بدوره تطوّر الادخار الوطني المعطل حاليا.
وواصل الدكتور مصطفى كمال النابلي القول إنّ الإنتاجية الجملية عندنا لا تفوق في أحسن الأحوال 1,5 في المائة، فيما هي 2,5 في المائة في الدول الناجحة وليست كلها من البلدان المتقدمة، ووضع كل ذلك تحت جملة إصلاحات ضرورية ثلاثة، متمثلة في العدالة الاجتماعية بكل أبوابها، والإدماج l’inclusion، والإصلاح العميق جدا للإدارة حتى تكون هي القاطرة.
وفي محــور إصلاح مؤسســــات الـــدولة، بيّن الدكتـــور أنور بن خليفة أنّ الإدارة التونسية ترزح تحت عبء أعداد متضخمة (650 ألف شخص بين إدارة وقطاع عام في تونس التي تعد 11 مليون ساكن، مقابل 450 ألف شخص في المغرب الذي يعّد 35 مليون ساكن).
وتناول الدكتور المنجي بوغزالة، من جهته، إشكالات الحوار الاجتماعي، في حين قدم الدكتور محمد الهدار لمحور الخيارات الأساسية من خلال مقاربة مهمة ومفصلة لنظام الإنتاج والتشغيل والتوزيع.
وأبرز الدكتور سفيان الغالي والدكتور الحبيب زيتونة، من ناحيتهما، أهمية الدور الذي يتعين أن يقوم به القطاع الخاص المدعو إلى تحمل مسؤولية مجتمعية أكبر.
عبد اللطيف الفراتي
- اكتب تعليق
- تعليق