ديمقـراطية الفـــــســاد
الصُورُ التي بثتها قنوات التليفزيون ومواقع اليوتوب تكادُ لا تُصدق. زعيم البرازيل الأكثر شعبية لويس إيناسيو لولا دا سيلفا يُقتاد من بيته إلى السجن للتحقيق معه في شُبهة فساد. تمتزجُ بداخلك مشاعرُ الحزن والدهشة والغضب عندما ترى رجال الشرطة يُفتشون بيت القائد العُمالي الذي أفنى العُمر في خدمة الصالح العام، ونال شرف الفوز برئاسة بلد عملاق مثل البرازيل لفترتين، قبل أن يرفض المُناشدات للتمديد لفترةً ثالثة.
هي لعنة الفساد تُلاحقُ المُفسدين والفاسدين مثلما تُصيبُ، أحيانا، الأبرياء. سيقول كثيرون «لا دُخانَ من دون نار». غير أن تبيُن الخيط الأبيض من الأسود في مثل هذه الأمور مرهون باستقلال القضاء وقدرته على الصمود أمام الإغراءات والضغوط. ولو كان القضاءُ عندنا بالقوة التي نتمناها لما فاحت رائحة الفساد في كل مكان، ولا تكررت قصص «الأبطال» التي تُروى، هنا وهناك، عن «شطارة» المُتلاعبين بالمال العام والمُتحايلين على الجباية. أليس مُحزنا أن يكون تصنيفُ تونس في سُلم الشفافية عام 2010 في المرتبة 59 لينحدر عام 2012 إلى 75، ويتراجع إلى الرتبةِ 77 في العام الموالي ثم إلى 79 عام 2014 ويبقى في حدود الرتبة 76 في السنة الماضية؟
مرت على البلاد سبعُ حكومات منذ الثورة، التي كان شعارُها المركزيٌ مُحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن لم تتعرض أيٌ منها للمحاسبة. تَدخلُ غالبية المُستَوزَرين الحكومة بثروة مُتواضعة أو بلا رصيد عقاري تماما، ثم لا تلبث أن تُغادرها مُثقلة بالمُكتسبات.
وما يُشجعُ على التمادي في استخدام هذا المصعَد الإجتماعي أنّ الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة مُطالبون بالتصريح بمُمتلكاتهم لدى تسميتهم، ويُعفون من ذلك لدى مغادرة مناصبهم، مع أن تلك اللحظة هي بيتُ القصيد. وأخفقت جميع الحكومات، ليس فقط في مُكافحة الفساد بل حتى في احتوائه والحدِّ من انتشاره. فبعد أن كان حكرا على العائلة والأصهار، في العهد السابق، بات اليوم رياضةً مُشاعةً ومصدرا للإثراء السريع في متناول جميع أفراد الشعب. ولا نستغرب إذن أن يصل حجمُ الفساد الناتج عن الرشوة، بحسب التقارير الجادة، إلى 450 مليون دينار سنويا، عدا الهدايا الأخرى. وهذا المبلغ يكفي لإحداث ما لا يقل عن 7.500 موطن عمل، وهو أقل من نصف ما تسعى وزارة المالية لجمعه من بيع 16 شركة مُصادرة خلال العام الجاري (200 مليون دينار).
والرقمُ الآخر الذي يجدُرُ التوقف عنده أيضا، هو ما كشفتهُ نتائجُ المسحِ الذي قام به المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، ومُفادُه أن ثُلثَ المؤسسات التونسية اضطرت لدفع الرشوة من أجل تيسير معاملاتها مع الإدارات العمومية. وإذا ما ثابرنا على هذا النسق فسنُحقق، بالتأكيد، تقدما أكبر في السنوات المقبلة، ليعُمَّ الخير باقي المؤسسات. أما الجمعية التونسية للمراقبين العموميين فأفادتنا في دراسة لها أن 27 في المئة من التونسيين استُدرجوا لعمليات فسادٍ، وأن الموظف العمومي هو المُتسبب في تفشي الرشوة بالإدارات العمومية بنسبة 56 في المئة.
مُؤشرٌ آخر لا يمكن المرور به مُــرورَ الكرام أيضا هو حجم الفساد الذي انكشــف في المــؤسسات المُصادرة مــن العائلة المُتنفذة السابقة وفروعها، ويبلغ عددها أكثر من 540 شركة، مُعظمها كان يُحقق أرباحا كبيرة في العهد السابق. فبعدما تقاذفت وزارتا المالية وأملاك الدولة المسؤولية عن الأوضاع التي آلت إليها تلك الشركات، أمر وزير أملاك الدولة بفتح تحقيق في ملفات سوء التصرف التي أحيلت إليهِ. والأملُ كلُّ الأملِ أن نرى الجرائم المالية الثابتة تُقدم إلى القضاء فعلا.
لقد آن الأوان لتضرب الحكومة بيدٍ من حديدٍ على الأصابع المُنغمسة في الفساد، لوقف هذا النزيف، خاصة أن البلاد تحتاج إلى 1,3 مليار دولار (حوالي 2,6 مليار دينار) في النصف الثاني من العام الجاري لسداد العجز في الميزانية، في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، الناتج عن انكماش الإيرادات من النقد الأجنبي في كثير من القطاعات الحيوية.
وبالعودِ إلى شبُهات الفساد التي تطال الرئيس البرازيلي السابق دا سيلفـــا، إضــــافــة إلى أفراد أسرته والمؤسسة التي تحمـــل اسمهُ، يتســـاءلُ المـــرءُ ما الذي يجعل مَن زهد في السلطـــة وغادر الحكمَ عن طواعية مُتعاليا على كل المُناشـــــدات، يقبلُ تلويث يديه بعطاءاتِ شركةِ النفط «بتروبراس» Petrobras؟
ما من شك في أن القوانين الرادعة مُهمة لاحتواء ظاهرة الفساد ومُحاصرة المُتمعشين منها، إلا أنها ليست أقوى من المناعة الذاتية لدى المسؤول. وهذه الثقافة كانت سائدة عندنا بنسبة مُحترمة في عهد أسبق، وهي كفيلة في أمدٍ غير بعيدٍ بالقضاء على ديمقراطية الفساد، من دون إضعاف الديمقراطية، لا بل ستكون هي الضامنةُ لترسيخها.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق