بورڤيبة بطل الاستقلال والتشييـــــد بيــن العظــمـــة والتهـمــــيــــش
لم تمض أسابيع معدودات على انتصاب زين العابدين بن علي في قصر قرطاج رئيسا للدولة، بعد أن أطاح بالرئيس الحبيب بورقيبة في السابع من نوفمبر سنة 1987، حتى أصدر أوامره بإزالة النصب التذكاري لـ«المجاهد الأكبر» حيث ما وُجِد في العاصمة وفي بعض المدن والقرى...
قرار أثار في حينه حفيظة عموم الناس وعموم البورقيبيين على وجه الخصوص واعتبروه مظلمة سلطت عليهم وتنكُّرا لأحد من أعظم صانعي تاريخ تونس، وأبرز الزعماء التاريخيين الذين أخذوا على عاتقهم قيادة الحركة الوطنية وخوض غمار الكفاح من أجل الاستقلال الذي نحتفل في هذه الأيام بذكراه الستين المجيدة، ثم دفع البلاد على طريق الإصلاح الشامل والإنجاز والأخذ بأسباب النماء والمناعة والتقدم في إطار سياسات اقتصادية واجتماعية أخذت طريقها إلى التنفيذ على مراحل متّٓصلة وعبر تحولات جذرية.
تخطيـــط استــراتيجــي لاستكـمــال مقومـات السيادة وبناء أسس الدولة
انصـــرف السعي بداية إلى دعم الدور الاقتصـــادي المــــركزي للدولة وللقطاع العام، على أساس تبٓنِّي منهج التخطيط الرامـــي إلى استعــادة مقومات السيادة الوطنية وبناء أسس الدولة الحديثة، قبل الانتقال إلى مرحلة الانفتاح الاقتصادي في مطلع سبعينات القرن الماضي بعد فشل تجربة التعاضد، من خلال الاعتماد على الاستثمار والتصدير في دفـــع عجلة التنمية والنهوض بالقطاع الخاص وإنعاشه عبْرٓ انتهاج سياســة حمائية للنسيــج الصنــاعي الوطــــــني النـــاشــئ، مع استمــــرار الــــدولة في الاضطلاع بدور اقتصادي مركزي، وتسخير مزيد من الاستثمارات لتركيــــز البُنى التّحتيّة والصناعات الثقيلة والخدمات.
أزمة اقتصادية ومديونية في تفاقم
في مرحلة ثالثة، انطلقت في النصف الأخير من الثمانينات، اضطرت تونس إلى إطلاق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والمالية الهيكلية تحــت ضغط تفاقم المديونية، فبادرت إلى طلب القروض المشروطة من صندوق النقد الدولي، ثم إلى الانخراط في منطقة التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي في إطار العولمة والاندمــاج في منظومة السوق. إلا أنّ كل هذه السياسات لم تكن كافية لتجاوز الأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة ولمواجهة جملة من الأولويات المهمة والإشكاليات الدقيقة وعلى رأسها انعدام التنمية المتوازنة واستفحال البطالة خاصّة بين حاملي الشهادات العليا وتفاقم الدين العمومي، وتعمّق عجز ميزانية الدولة وانخرام التوازنات المالية على نحو مفجع، لا سيّما بعد الثورة... وكلها تحديات كبرى ظلت تواجه البلاد دونما انقطاع إلى حد اليوم بعد أن مرت ستون سنة بالتمام والكمال على استقلالها.
»السجن الضيق«
إِذن، لم تمض مدّة طويلة على تربّع زين العابدين بن علي على كرسي الرئاسة بقرطاج حتى أصدر أوامره بإزالة نصب بورقيبة التذكاري حيثما كان هذا التمثال موجودا في مــدن تونس وقراها، وذلك في سعي واضح إلى تشويــه صورته والتنقيص من شأنه وحتى إلحاق الإذاءة به وإذلاله، وقد تقدمت به السِّنُّ وأنهكه المرض، بعد أن تآمر عليه وأزاحه عن الحكم ووضعه قيد الإقامــة الجبرية في إحــدى ضواحي العاصمة في بادئ الأمر، قبل أن يصدر تعليمات بعزله في بيت بالمنستير وحرمانه من الخروج والتنقل ولقاء الرفاق والأقارب والأحبّة إلا ما ندر وحَجْبِ أخباره عن الإعلام إلى حينِ وافَتْه المنية قبل أقل من ست عشرة سنة. وقد حزّٓ هذا السلوك الجائر كثيرا في نفس بورقيبة وقد أنهكته العِلّةُ وتقدمت به السنّ وفعل فيه الحبس فعلته ولقي نُكْرا من أعضاده والمقربين منه، وهو ما توحي به رسالة وجَّهها في غفلة من حُرَّاسه إلى وكيل الجمهورية بمحكمة المنستير يشكوه فيها ما كان يلقاه في منفاه من قساوة ظروف إقامته وعزله وحرمانه من التنقل والخروج، وذلك دون موجب شرعي، ويطلب التدخل لإخراجه من «السجن الضيق» الذي زُج بـــه فيه.
بعد مرور أشهر عن الزج ببورقيبة في الإقامة الجبرية، طلب الصحفي الفرنسي اللامع جان دانيال، مدير أسبوعية «لو نـــوفال ابسارفتور» الفرنسية ــ وكان من المقربين من الزعيم الحبيب بورقيبة في خمسينات القرن الماضي إبان الحركة الوطنية ــ أن يقابله في مقر إقامته الجبرية فأُذِن له بذلك. وحَلَّ جون دانيال بمكان الإقامة في الوقت المحدّد حيث وجد في استقباله والي المنستير المكلف بحراسة بورقيبة في منفاه، وأخذه الى السجين وحضر معه المقابلة. استغرق اللقاء عشرين دقيقة مقتصرا على تبادل الحديث حول مسائل بسيطة قبل أن ينتهي بإشارة من الوالي. وبينما كان بورقيبة يودّع ضيفه دَنا منــــه وذكـــر لــه همْسا عُنـــــوانا لمكان ما يقــع في شــــارع «استــــــــــراباد» بــــبـــاريس « rue de l’Estrapade». وما إن عاد جون دانيال إلى باريس حتى توجه إلى ذلك الشارع علَّه يكشف سِرّٓ الرسالة المشفرة التي أراد بورقيبة تبليغها، فلٓفٓتٓ انتاباهه وجودُ مكتبة تُعرض فيها بعضُ كتب التاريخ للبيع، وبادر صاحبها بالحديث، فعلم منه أنه لا يعرف عن بورقيبة أي شيء وأن لا علاقة له به، لا من قريب ولا من بعيد. ولما انصرف جان دانيال في سبيل حاله، استوقفته بنفس الشارع لوحة تمثل الشاعر والأديب الفرنسي الكبير فيكتور هوغو، كان أنجزها أحد الرسامين لما كان هوغو قيد المنفى في بيت في جزيرة غارنوساي التابعة للتاج البريطاني تحول في ما بعد الى متحف تخليدا لذكرى هذا الأديب الكبير ولأعماله، وأدرك جان دانيال حينذاك سِرَّ ما قاله له بورقيبة همسا وهو يودعه بعد انتهاء لقائه به في مكان إقامته بالمنستير: «إني سجينُ هذا الوحش بن علي، لقد زُج بي في السجن على غير وجه حق، فها أني قد بلّغت، ورجائي أن يذاع ذلك بين الناس حتى يكونوا على بيّنة».
غيّب ميّتا بعد أن غيّب حيّا
لفظ المجاهد الأكبر أنفاسه الأخيرة يوم 6 أفريل سنة 2000، وكان حريصا في حياته على تهيئة روضة آلِ بورقيبة بالمنستير لتكون مأواه الأخير ومأوى زوجته الأولى ماتيلــد ووالديــه وإخوته وأفراد الأسرة الآخرين...
وقد حمل جثمان بورقيبة يوم وفاته إلى دار الحزب بالقصبة حيث توافدت جموع من المناضلين والمواطنين لتوديعه الوداع الأخير قبل أن يُنقل في اليوم الموالي إلى المنستــير على متن طائرة تحمل اسم «7 نوفمبر». أعدّت العدّة لدفنه في نطاق رسمي وعائلي ضيّق، لكن لم يحلْ ذلك دون تأهّب مئات الآلاف من التونسيين لحضور المـــوكب والوقوف لحــظـــة وداع وخشوع تحيّة لروح المجاهـــد الأكبر قبـــل أن يوارى جثمانه التراب في مسقط رأسه.
كانت الساعة تشير إلى الثالثـــــة بعد الظهر في زهوة يوم ربيعي (السبت الثامن من شهر أفريل سنة 2000) لمّا اكتظت ساحة الضريح بجموع التونسيين من كل الأعمار نساء ورجالا، حلّوا بالمدينة منذ الساعات الاولى من الصباح؛ كما حل بالمكان فريق من التلفزة التونسية على أهبة لنقل وقائع جنازة أوَّلِ رئيس للجمهورية التونسية على المباشر. وبينما كان المخرج المشرف على عمل الفريق يستعد لنقل مراسم الجنازة مباشرة ، دخل القصر، على الخطّ، مُصدِرا أوامره بالعدول عن ذلك، فلا نقل مباشر ولا هم يحزنون... في تلك اللحظة، كان ملايين النظارة في تونس وفي فرنسا وفي العالم مشدودين الى التلفاز في انتظار بدء نقل مراسم الدفن على القناة التونسية وعلى القناة الفرنسية «تي في 5».. لقد عيــــل صبرهم وهم يشاهدون على الشاشة شريطا وثائقيا يحكي قصة فِيَلَة يطاردها الصيادون في أدغال تنزانيا، فيما كان فريق من كبار الإعلاميين الفرنسيين من بينهم جان دانيال موجودا في استوديو «تي في 5» على كامـــل الأهبـــة للتعليق على مـــا يجـــري في روضـــــة آلِ بورقيبة بالمنستير على بعد آلاف الكيلـــومتــــرات... لقد طال الانتظار وتملكت الجمع حالة من الإحباط، فاتصلت إدارة القناة بالسفارة التونسية بباريس هاتفيا مستفسرة عما حدث وحال دون نقل مراسم الدفن، فقيل لها إن عملية النقل التلفزي ربما لن تتم... لقد حــــرم التونسيون من توديع الزعيـــــم والقائد والرئيــس والملهم باني الـــدولة الحديثة ومرافقته إلى مثـــواه الأخير،...
مـــدن تـــونس وقـــراها تنتظر وهـــي في غمرة الاحتفالات بالذكرى الستين للاستقــلال أن تزدان بطاحها وشوارعها مجددا بحضور رمزي لبورقيبة العظيم من خلال النصب والتماثيل وفي ذلك عبرة لمن يعتبر ...
يوسف قدية
- اكتب تعليق
- تعليق