ذكريات الأستاذ الطاهر بوسمة: تاريخ ما أهمله التاريخ ...
أعترف أني انشغلت لمدة شهرين تقريبا بقراءة كتاب الأستاذ المحامي الطاهر بوسمة (ذكريات والي....) فقد فتحته في البداية لمجرد الاطلاع بغية الاستعراض السريع لبعض الفصول، وبغية اكتشاف مدى اهتمام هذا الوالي والبرلماني السابق بالأحداث والتحولات التي هزّت تونس في العهد البرقيبي و ذلك عندما بدأ و قتها في الانحدار قبل الغروب النوفمبري المعروف..
وقد شدّ انتباهي على مرّ الصفحات أنّ الرجل وضع كل جهده ليكتب أكثر من 700 صفحة في وقت ندرت فيه القراءة والقراء ... و اهتم في هذا الجهد بأدق التفاصيل في وصف الحياة السياسية والادارية في ذلك الوقت، ذلك من خلال مشاهداته، وممارسته الشخصية في مجال مسؤولياته أو انتماءاته السياسية والحزبية ..
وكلّ ما توغلت في قراءة الكتاب كنت أسأل نفسي عن السبب في الانجذاب لهذا النص الطويل "جدا" .. فهو ليس كتاب تاريخ بالمعنى الأكاديمي، لأنه لا يصنف الأحداث ولا يحلل تراكم العصور والتحوّلات، ولا يصدر للقارئ نظرية ما، أو يسعى لاستمالته نحو ايديولوجية ما.
إنّه بكل بساطة " يحكي" ،عن مسيرة حياته الذاتية وتدرجه في سلم الإدارة وعلاقته بقريته ومنطقته وأهله ... لكن هذه الحكاية تأتيك بتلقائيتها وبساطتها اللغوية، بما في ذلك نقائص الاستطراد، و هي كذلك عفوية في تناولها لوصف الحياة والناس في ذلك الزمن.
سوف لا يأخذك العجب عندما تكتشف صداها لدى أجيال متعددة من تونسيين، ومن أولئك الذين رافقوا ملحمة الكفاح والاستقلال وشاركوا بقسطهم في نخوة بناء الدولة الحديثة، وصاحبوا تعثرها ومعاناتها، و حضروا إنجازاتها و إنكساراتها..
و أعتقد أن أبناء جيلي من المخضرمين ، من أبناء الاستقلال وما تلاهم لحين انهيار العهد النوفمبري، سوف يجدون في هذا العمل مناسبة خصبة لحديث الذكريات وتعرجات الذاكرة، والوقوف عند محطات ومسؤولين حكموا البلاد و حوكموا فيها على أيدي رفاقهم ، و بمقتضى نفس القوانين التي وضعوها لمحاربة خصومهم ...
سوف يسترجعون بهذه المناسبة وجوها كانت تملأ السمع والبصر ثم طواها الزمن وأتى عليها النسيان، سوف يكتشفون هشاشة ذلك العصر ، وكيف تم تركيز الدولة المهيمنة على مقدرات البلاد و العباد حيث كانت مكانة الوالي والمعتمد مكللتين بقدسية وهيبة الدولة و سلطانها رغم بساطة الامكانيات وصعوبة الحياة في أغلب المناطق..
لكن الملفت للنظر أنه بالرغم من أنني كنت أتصور – ببعض الغرور – أنني أعرف تفاصيل ذلك العهد أجدوني أكتشف أحداثا وأفعالا كانت خفيّة ، وأقف أكثر من مرة لأتأمل تحولات الحكم في تونس طيلة ثلاثين عاما.
فهو حكم - قائم عموما- على تأليه شخص الزعيم البطل الفذ الذي "لا يخطئ"، و إذا حدث الخطأ ، وأحيانا الكارثة فإنها "بالضرورة يتحملها الآخرون بسبب تقاعصهم وخيانتهم للأمانة التي وضعها فيهم الزعيم الملهم" .
في ذلك الوقت كنا نعتقد ببعض من البراءة، و سذاجة أحيانا وبقصر النظر والجبن أيضا أن نظام تونس هو "أحسن الأنظمة" و أنّ "كلمة الرئيس سوف تذلل لوحدها كل العقبات" أليس هو " القائد في الكفاح و الضامن للنجاح..."؟
لكنّ هذا الكتاب على بساطته في سرد سيرة صاحبه يكشف بصورة غير مباشرة فداحة الأزمة التي بدأت تنخر أسس نظام الحكم منذ ستينات القرن الماضي، كما ألقت الضوء - بحكم تركيبة العلاقة العائلية والجهوية والادارية – في التأثير داخل الحزب الواحد مما كشف عمق الصراعات والأحقاد و الخيانات المتبادلة بين كل شخصيات الحكم تقريبا.
كل ذلك كان يمر باسم" توجيهات المجاهد الأكبر" وتطويع القراءات والمفاهيم المتعددة لهذه التوجيهات. وهكذا يلمس القارئ في رأيي مدى هشاشة هذا النظام وتناقض قراراته واختلال تركيبته القائمة على تعدد الولاءات وخدمة الأطماع والطموحات الشخصية.
حكاية الأستاذ بوسمة في سرد مشاهداته و مواقفه وفي ممارسة مسؤولياته تكشف بجلاء الأسباب التي آلت إلى سقوط النظام رغم شيخوخته النسبية.
فهذا الوالي الذي تعلم مهنته كمعتمد في الغرب التونسي و تعرف على دواليب الإدارة وتعرجاتها، ثم تولى ولاية الكاف ثم قفصة حيث تعلم التكتيك السياسي وتفنّن في حبك علاقات التأثر والتأثير في وسط صعب المراس.
ثم جاءت بعد ذلك تكليفات ولاية القيروان حيث أطلق الرجل العنان لميوله الثقافية والحضارية إذ كانت القيروان بهالتها وإرثها الحضاري منصة انطلاق للحديث مع الزعماء والتأمل في لعبة الحكم الكبرى وذلك على الصعيد التونسي والعربي والاقليمي..
أما النصف الثاني من الكتاب فقد توجه فيه السيد الطاهر بوسمة إلى محاولة رسم شخصيات فاعلة قامت بأدوار فارقة في تاريخ النظام التونسي البورقيبي فاهتم بصورة خاصة بفترة حكم المرحوم محمد المزالي الذي ارتبط معه بصداقة وفية وتولى الدفاع عنه بكل شجاعة في محنته القاسية من قبل النّظامين ( بورقيبة و بن علي).
كما اهتم ببعض سيرة الأستاذ أحمد بن صالح الذي اعتبره وطنيا غيورا وزعيما جاء قبل وقته.واهتم كذلك بسيرة السيد أحمد المستيري والسيد محمد المصمودي وغيرهم، وقد وفق في رأيي في رسم ملامح الشخصية الترجيدية للمرحومة وسيلة بن عمار التي تعرّف عليها عن قرب بحكم مسؤولياته، فحلل علاقة هذه المرأة الفريدة بالزعيم بورقيبة وممارساتها في التأثير في نظام الحكم. واقترب من الدور الذي قامت به داخل القصر، وداخل الدولة سواء كان ذلك قبل أوفول النظام وبعده.
ومن أهم ما شدّ انتباهي أنّ الرجل لم يحاول انتحال زعامة أو بطولة من خلال قربه من هذه الشخصيات التاريخية، بل حاول بكل تواضع، أن يبقى على مسافة واضحة وفاصلة بين مهمة الاستماع والتّأمل، و بين الفعل التاريخي.. فكانت رسوماته للشخصية تأتي أحيانا عميقة، وأحيانا مبّسطة حتى أنه لم يتردد كذلك في الانغماس في فخ التقييم السّلبي، والرأي الخاص الذي يفقد النص في بعض المواضع توازنه الضروري ( مزالي- وسيلة – بن علي ..).
إنّ زيارة متأنّية لمتحف الذكريات هذا تبدوا لي جديرة باهتمام المؤرخين والباحثين وخاصة من قبل شباب تونس الهائم اليوم بين يتم الماضي وانسداد الغد ...لأن الدولة التي تحدث عنها الأستاذ بوسمة ولو بصورة غير مباشرة، هي في الأساس دولة الاستقلال بأمجاده و نكباته..
ولعله من المفيد و نحن على أبواب أحياء ذكرى الاستقلال أن نوقض الذاكرة الوطنية حتى لا ننسى أهمية هذا الانجاز العظيم، و حتى نعمل - كل من موقعه – على صيانة الاستقلال وتقديسه لدى الأجيال القادمة، وذلك بعيدا عن الأحقاد والفتن والأنانية
أحمد الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق