تونس / اقتصاد: التضخم بين ما تحدده مصالح الإحصاء الرسمية، وما توحي به قـفة المستهلك
سجلت معدلات التضخم في تونس في الآونة الأخيرة تراجعا معتدلا إلى حدّ، بعد المستويات القصوى التي بلغتها خلال سنة 2013 حينما بلغت نسبة التضخم في شهر جوان من تلك السنة 6،6 ٪ ، قبل أن تستقر في حدود 6،3٪ في بداية سنة 2016.
تشير تقارير البنك المركزي التونسي إلى أنّ معدل نسبة التضخم لم يتجاوز خلال الثلاثي الثالث من السنة الماضية 2،4 ٪مقابل 5،5 ٪ خلال الثلاثي الأول من نفس السنة وذلك اعتبارا لتراجع ارتفاع أسعـار المواد الغذائية، وخاصة منها المواد الطازجة في صلة بتراجع النشاط السياحي وباستقرار أسعار مواد الاستهلاك المراقبة، أي تلك التي تخضع وقـتيا لمراقبة مصالح وزارة التجارة حينما يتجاوز سعـرها حدّا معينا. وقد تواصلت نزعة أسعار مواد الاستهلاك إلى الانخفاض وتراجعت نسبة الارتفاع إلى أقـل من 2 ٪ خلال شهر جانفي 2016، مقابل 10٪ في بداية سنة 2012، ولم يتجاوز نسبة 4٪ خلال الأشهر الستة الأخيرة.
وتوحي الإحصائيات والمعطيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء بأن تونس قد نجحت إلى حدّ خلال كل تلك السنوات العجاف التي مرّ بها اقتصادها منذ بداية سنة 2011 في ترويض غول التضخم، وأنهـا أحرزت بعض النجاحات في معـركتها ضد هذا الخصم العنيد، وذلك بشهادة البنك المركزي الذي أخذ اتجاه نسبة التضخم إلى الانخفاض في الحسبان حينما قرر مجلس إدارته في موفى أكتوبر الماضي خفض نسبة الفائدة الرئيسية التي تعتمد كقاعـدة لحساب كلفة ما يتحصل عليه المقترضون من أموال من البنوك، إذ تراجعت هذه النسبة إلى حد 4,25 ٪ مقابل 4,75 ٪ سابقا.
تلك هي حقيقة الأرقام.
لكن البون شاسع بين ما تنتهي إليه حسابات موظفي المعهد الوطني للإحصاء وما يحس به المواطن الذي يأخذ قـفّته ذات كل صباح قاصدا سوق الخضر والغلال ومحلات بيع المواد الاستهلاكية الأخرى ليتزود بحاجته إلى ما يسد رمق الأسرة. التونسي الذي يعاني الأمرّين في سعيه إلى الحصول على ما يسدّ الرمق يتملّكه إحساس عـميق بأن ما تقوله أرقام موظفي معهد الإحصاء غير ما تنطق به لافتات الباعة. وكثيرا ما يتحـوّل هذا الإحساس إلى حركات احتجاجية للمطالبة برفع الأجـور وإلى إضرابات واحتجاجات بسبب تدهـور القدرة الشرائية للسواد الأعظم من التونسيين، وهـو ما تؤكده النقابات التي تشير إلى أن القـدرة الشرائية في تـونس قد تراجعت بنسبة تفوق بكثير النسب الرسمية التي ينشرها المعهد الوطني للإحصاء والتي غدت فاقـدة لكل مصداقية، وأصبحت طرفة يتداولها الناس على سبيل التندر.
ومهما يكن من أمر، فإن الفصل في هـذه الأمور ليس بالأمر الهين. فلا مجال لرفض الأرقام الرسمية التي تحدد اعتمادا على حسابات ومعطيات فنية دقــيقة كثيرا ما تُؤوّل على نحو انتهازي مغـرض. وربما هناك حاجة ملحّة إلى إعادة النظر في قائمة المواد الاستهلاكية التي تعتمدها مصالح الإحصاء كقاعدة لضبط نسبة التضخم نظرا لاحتوائها على مواد لا يقبل عليها عامة الناس إلا لماما. فالتضخم نوعان، تضخم بالقيس، وأمر ضبطه موكـول إلى معهد الإحصاء، وتضخم بالإحساس يقدّره المستهلك انطلاقا من واقعه اليـومي ومعاناته، واعتمادا بالأساس على أسعار المواد الغذائية التي تمثل نسبة 35،3 ٪ من نفقات استهلاك الأسرة التونسية (حسب إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء).
وتعتبر تونس من بين البلـدان الأكثر لجوءا إلى استيراد المواد الأساسية لسد حاجياتها الاستهلاكية. وقد سجلت الأسعار العالمية لمعظم هـذه المواد انخفاضا بنسب لا يستهان بها خلال السنتين الأخيرتين. من ذلك أن أسعار القمح تدنّت إلى النصف، فيما تراجعت أسعار منتوجات البترول بنسبة الثلثين. وفي المجموع، سجلت أسعار مـواد الاستهلاك التي استوردتها تونس خلال السنتين الماضيتين لتزويد أسواقها انخفاضا بنسبة 6،30٪ . ومعلوم أن جلّ المواد الاستهلاكية الأخرى غير الغذائية التي تستوردها تونس تجلب بمقدار النصف، أو حتى أكثر من ذلك، من أوروبا ومن الصين في الغالب، إلى جانب بعض البلدان الآسيوية الأخرى حيث لا يوجد تضخم على الإطلاق. وطبيعي، بل قـل حتمي ومفروض، أن يكون لذلك تأثير في مستوى الأسعار، خاصة إذا أخذنا في الحسبان ارتفاع قيمة الدينار التونسي في سنة 2015 مقارنة بالعملة الأوروبية. فقد بلغت قيمة الأورو في نهاية سنة 2014 حـدّا أقصى تجاوز 2,3 دينار قبل أن تتراجع في السنة الموالية إلى ما دون 200، 2 دينار (2,1775 دينارعلى وجه التحديد). وهذا يعني أن الواردات التونسية قد استفادت إلى حـدّ لا بأس به ومنذ موفى سنة 2014 من انخفاض الأسعار العالمية وتحسّن قيمة الدينار، وهما عنصران كان من المفروض أن يجـرّا الأسعار المتداولة إلى الانخفاض وأن نلمس ذلك بشكل جلي في مؤشر الأسعار الذي يحدده المعهد الوطني للإحصاء. كما لا بد أن نأخذ في الحسبان ما صار إليه قطاع السياحة من تدهور في السنوات الأخيرة، حيث كان من المفروض أن يسهم الانفراج الحاصل على مستوى الطلب جرّاء تـقلص أعداد السياح الوافدين إلى البلاد التونسية في انخفاض الأسعار، وهو ما لم يحصل.
ويقول العارفون بالشأن الاقتصادي التونسي إنّ المبادرات الحكومية الرامية إلى تحسين مستوى الأجـور لم تحل دون تراجع المقدرة الشرائية وبقيت دون نسب التضخم. وهو ما ألقى بظلاله على المفاوضات المتعلقة بالأجور بين نقابات العمّال وممثلي المؤسسات.
الواضح إذن أن الحكومات المتعاقبة خلال الخمس سنوات الأخيرة تخلفت (أو لعلها عجزت ؟) بشكل يدعو إلى الاستغراب عن توظيف كل هـذه العوامل المؤاتية وغيرها إلى أقصى حـدّ كي تتدخل بكل طاقتها وثقلها لتخفف من حدّة الضغوط التضخمية، وتضع حدّا لارتفاع أسعار مواد الاستهلاك التي يقبل التونسيون كثيرا على اقتنائها بما يتناسب مع ضعف قـدرتهم الشرائية. لكن ذلك لم يحصل لسوء الحظ رغـم الانفراج الذي ظهر خلال بعض الفترات، وهو انفراج نسبي ومحدود ما كان ليتحقق لولا توفر جملة من العوامل الخارجية المؤاتية، ولم يكن مردّه في جـل الحالات إلى تحسن الانتاجية وتطور أداء الاقتصاد ككل.
المصادر:
- المعهد الوطني للإحصاء
- البنك المركزي التونسي
- نشرة "ايكـويك" الرقمية
يوسف قدية
- اكتب تعليق
- تعليق