أخبار -
2016.02.24
وثـيقـة نادرة: عبد العزيز العروي ينضمّ إلى الجدل الدّائر حول كتاب الحدّاد "إمرأتنا في الشّريعـة والمجتمع"
اتّخذ ذاك الجدل أبعادا مختلفة: فهو في البداية جدل فقهيّ صرف يتّصل بالأحكام الواردة في القرآن بشأن المرأة، ولا سيّما في مسائل الشّهادة والقضاء والميراث والزّواج والطّلاق، ثمّ أصبح جدلا فكريّا يتعلّق بمناهج التّفكير في المسائل الدّينيّة، ومن ثمّ بالمفاهيم والفعاليّات الذّهنيّة التّي تحكم رؤية الأشياء وطريقة التّعامل معها في مجال اكتساب المعرفة وإنتاجها مطلقا. وامتدّ هذا الجدل ليلامس المجال السّياسيّ عندما أصبحت أفكار الحدّاد محلّ تأييد أطراف سياسيّة معيّنة وموضع معارضة أطراف أخرى.
ولا شكّ في أنّ كتاب الحدّاد، بقراءته المتطوّرة للنّصّ الدّينيّ، يعكس جرأة واضحة في التّناول وعمقا في المقاربة ومنزعا حداثيّا تنويريّا لا يخفى، وقد انضمّ إلى الجدل المثار حوله - فضلا عن بعض شيوخ الجامع الأعظم ومدرّسيه وجملة من المثقّفين من أصدقاء الحدّاد- عدد من الكتّاب الصّحفّيين أثروا هذا الجدل وصبغوه بصبغة خاصّة لأنّهم خرجوا به من دائرة النّقاش الفقهيّ العقائديّ المختصّ إلى ألوان أخرى من النّقاش تتّصل بقيم التّحرّر والحداثة والتّنوير، وتسعى إلى أن تتعمّق تلك الضجّة فتضع الخصومة حول الآراء الواردة في الكتاب في سياقها السّياسيّ والاجتماعيّ والتّاريخيّ.
ومن بين المساهمات اللّافتة المقال الذّي كتبه عبد العزيز العروي (1899 - 1971) يــوم 24 أكتوبــــر 1930 بجــــــريدة «الهــلال» LE CROISSANT، وهي صحيفة أسبوعيّة أسّسها العروي في صائفة 1930 ولم يصدر منها سوى ثلاثة عشر عددا بين أوت ونوفمبر من نفس السّنة، مازال يحتفظ بها قسم الدّوريّات بالمكتبة الوطنيّة التّونسيّة.
ولهذا المقال – كما سنبيّن لاحقا- أهميّة بالغة على أصعدة مختلفة، ولذلك رأينا أن نترجمه إلى العربيّة ونعرّف به ونتدبّر أهمّ دلالاته وأبعاده. وهو يعرّب بأكمله لأوّل مرّة على أعمدة ليدرز العربيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّنا وجدنا أثناء البحث أنّ الأستاذ أحمد خالد ذكر هذا المقال في كتابه «أضواء من البيئة التّونسيّة على الطّاهر الحدّاد ونضال جيل» (الدّار التّونسيّة للنّشر، ط 3، 1985، ص ص. 367- 369) وأورد منه بعض الشّواهد معرّبة، كما نشره محمّد التّركي في أصــــله الفــرنسيّ ضمن كتــــابه (ABDELAZIZ LAROUI TÉMOIN DE SON TEMPS (Ed. Turki, 1988, P P. 189 – 191)
النّخب التّونسيّة وقيم الحريّة والحداثة والتّنوير
كمن أهميّة المقال الذّي كتبه العروي أوّلا في أّنّه نشر يوم 24 أكتوبر 1930، أي في أوج احتدام الجدل حول كتاب الحدّاد وبعد أسبوع واحد من حفل التّكريم الذّي نظّمه أنصار الحدّاد وأصدقاؤه يوم 17 أكتوبر 1930 بالبلفيدير. ثمّ إنّ هذا المقال وإن كان مفيدا في معرفة جانب من ردود أنصار الحدّاد على خصومه، فإنّ فائدته أعظم في فهم خصائص السّياق السّياسيّ والحضاريّ والوطنيّ الذّي صدر فيه الكتاب، ذلك أنّ المواقف المناوئة للكتاب لم تصدر فقط عن خلفيّات فقهيّة دينيّة وإنّما يختلط فيها الفكريّ (معــــارضة كل منــــازع التّجديد والتحـــديث والتّنويــــر) بالسّياسيّ (انسلاخ الحدّاد من الحزب القــــديم) والدّينيّ (محــــاولة شيوخ الزّيتونة التّكفير عن ذنب مساندة تنظيم المؤتمر الأفخرستي بتونس).
ولكنّ الأمر الجدير بالإبراز في هذا الصّدد هو أنّ المقال وثيقة بالغة الأهميّة من جهة شهادته على منزلة قيم الحريّة والحداثة والتّنوير في فكر النّخب التّونسيّة في بداية الثّلاثينات – وقد كانت الصّحافة آنذاك المهاد الحاضن لتجلّيات هذا الفكر-، فما كتبه العروي إنّما هو صدى لتعلّق المثقّفين التّونسيّين صحفيين وأدباء وكتّابا بقيم أساسيّة في ممارسة الكتابة والنّقد وفي مقدّمتها قيم الفكر الحرّ والنّظر الطّليق. وقد ألحّ العروي على هذا المعنى في بداية المقال وفي خاتمته، فكأنّه قصد إلى ذلك قصدا فجعل حريّة التّفكير فاتحة مقاله و«قَفْلَتَهُ» تأكيدا لدور النّخب في مناصرة الحقّ ومناهضة الظّلم والذّود عن حريّة التّفكير والإيمان بأنّ الجهر بالرّأي في نزاهة وتجرّد هو المحرّك الأوّل لتطوّر العقل.
ويعكس المقال من جهة أخرى تجذّر المنزع الحداثيّ التّنويريّ لدى طبقة واسعة من النّخـــب التّـــونسيّة في الثّلـــث الأوّل مـــن القــــرن المـــاضي لم يكــن الحدّاد ســـوى أنمـــوذج عنــه، ذلك أنّنا نلمس هذا المنزع في كتابات كثير من أعـــلام الفكر والثّقافة عصرئذ من أمثال محمّد الطّاهر ابن عاشور في مقاربته المقاصديّة للشّريعة الإسلاميّة وفي مواقفـــه من إصلاح التّعليــم الزّيتونيّ، ومحمود المسعدي في كتاباته الأدبيّة المواكبة لأكثر التّيارات الفكـــريّة جـــدّة، وسالم بن حميدة في مواقفــه العــديدة ومنها موقفه من كتاب الحدّاد، وغيرهم كثير.
العروي والمسألة الوطنيّة
يعتبر مقال العروي وثيقة هامّة أيضا في الإلمام بمواقف بعض شيوخ الزّيتونة من القضايا الوطنيّة الكبرى في تلك المرحلة وفي مقدّمتها مسألة الهويّة الوطنيّة، فقد واجهت تونس في بداية الثّلاثينات حملة قويّة هادفة إلى طمس معالم هويّتها من خلال حملات التّنصير والقوانين المشجّعة على التّجنيس، وقد ترجمت تلك الحملة على نحو جليّ في تنظيم المؤتمر الأفخرستي ببلادنا في ماي 1930.
ويرشـــح المقـــال بموقـــف وطنـــيّ خــالص نزيه، فحملة العروي على شيوخ الزّيتونة لا تستند إلى موقفهم من كتاب الحــــدّاد فحســب، وإنّما تجــد بــواعثها في الدّور المعيــب الذّي اضطلع به بعض أولئك الشّيوخ في المساعدة على إنفاذ برامــــج الفــرنسة والتّنصير، فالواضح من مقال العروي أنّه يدين بشدّة وبأسلوب حجاجيّ مفحـــم تســاهل شيــوخ الدّين وتواطؤهم مع المظاهر التّي تستهـــدف المســـاس بالهــويّة الوطنيّـــة بسبـــب إذعــانهم لإرادة سلطــة البـــاي والسّلطة الاستعمــــاريّة. ففي حين كــــان يجـــدر أن يكون شيوخ الزّيتونة حماة للهويّة وذادة عن الشّخصيّة الوطنيّة إلاّ أنهم قبلوا بأن يكونوا مجرّد أدوات طيّعة يوظّفها القصر والإقامة العامّة لتبرير المشاريع الهادفة إلى محو معالم الهــــويّة الحضـــاريّة والتّــــاريخيّة للبلاد، فسكتوا عـــن حمــلات التّبشير ومحاولات الإساءة للإسلام. بل إنّ اسمي شيخ الإسلام ومفتــــي الدّيار قـــد ظهرا ضمــــن قائمة الهيئة الشّـــرفيـــّة للمـــؤتمر التّي نشرتها الصّحف التّونسيّة آنـــذاك.
العروي وحركيّة المجتمع التّونسيّ في الثّلاثينات
ويستمدّ مقال العروي أهميّته كذلك من أنّه وثيقة تفصح عن ديناميكيّة المجتمع التّونسيّ في بداية الثّلاثينات وحركيّة عدد من مكوّناته، فهو يشير إلى تنامي الحسّ الوطنيّ ويقظة الفكر التّحرّري لدى الكثير من الأوساط، تعبّر عن ذلك التّحرّكات التَّلمذيّة والطّلابيّة ضدّ تنظيم المؤتمر الأفخرستي بتونس ومواقف المثقّفين والصّحافيّين والكتّاب والأدباء من البرامج الاستعماريّة الرّامية إلى طمس مقوّمات الهويّة الوطنيّة، وهي مواقف يعبّر عنها مقال العروي نفسه، ولا سيّما في تمسّكه الشّديد بحريّة الفكر والتّعبير وشجاعته في نقد شيوخ الزّيتونة وثباته على مبدإ مناصرة الحقيقة والإقدام على تحمّل نتائج هذا الاختيار. وعلى هذا النّحو يتّضح أنّ المقال لا يخلو من طرافة وتميّز، فهو يضرب صفحا عن المهاترات التّي سادت تلك الفترة وبلغت حدّ الإقذاع والتّحريض والتّكفير، وينأى عن المبارزات الفقهيّة التّي تدّعي امتلاك الحقيقة ويختار سبيلا تعتصم بالقيم الثّابتة: قيم الحريّة والتّنوير وتنتصر للرّصانة والموضوعيّة والإنصاف.
الحبيب الدريدي
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات