ثلاثة أيّام في كوبا
يبدأ الكاتب الأمريكي توماس فريدمان كتابه الشّهير «العالم مُستَوٍ، موجزُ تاريخ القرن الحَادي والعشرين» بمقارنة رحلته إلى وادي السّيليكون الهندي في مقاطعة «بنغلور»برحلة كريستوف كولومبس في القرن الخامس عشر إلى الهند والتي أفضت إلى اكتشاف القارة الأمريكية. أبحر كولومبس في اتجاه الغرب مدفوعا بالرغبة في اكتشاف طريق أقصر إلى ثروات الشرق الأسطورية،الذهبِ والحرير والتوابل والأحجار الكريمة، في وقت أغلقت فيه القوّةُ الإسلامية طرقَ أوروبا البرّية،لكنه وصل إلى أرض جديدة بدل الوصول إلى جزر الهند الشرقية، وأطلق على سكانها اسم الهنود، ثم أبلغ الملك فرديناند والملكة إيزابيل بأنّ العالم كُرويّ فعلاً. أمّا توماس فريدمان فقد انطلق في اتجاه الهند شرقا على متن الطائرة، ووصل إليها بعد ساعات فقط ليكتشف أنّ الناس في الهند يحاكون الأمريكيين في كلّ شيء، في اللهجة وتقنيات العمل، في الشوارع ومراكز الاتصالات وفي مختبرات الكمبيوتر، فاهتزّت قناعته في أنّ الأرض كرويّة كما رآها كولومبس وقال: إنّ العالم مُستوٍ حقًّا.
هي نقلة مجازيّة من جغرافيا القرن الخامس عشر إلى ثقافة القرن الحادي والعشرين، ونظريّة العالم المستوي المتشابه والمكرّر يمكن لكل مسافر أن يكتشفها بسهولة وأن يشعر بها. ستشرب قهوتك في محلّ «كوستا» بمطار الدّوحة الدولي وتتجول قليلا في الأسواق الحرّة تحت زخّات الأضواء وابتسامات البائعات الجميلات قبل أن تركب طائرة البوينغ مفخرةَ الصّناعة الأمريكية، وبعد سبع ساعات فقط ستخرج إلى قاعات الترانزيت في مدريد، ستجلس هنا لمضغ ساعتي انتظار وتشرب قهوتك في محلّ «كوستا»، وتتجوّل في الأسواق الحرّة تحت زخّات الأضواء وابتسامات البائعاتِ الجميلات. في كلّ المطارات سيرتبط هاتفك الذكي بشبكة الانترنت، وسيكون بوسعك أن تُواصل على الفايسبوك حديثا كنت بدأته قبل انطلاق الطائرة، كما يمكنك أن ترسل على الفور صورة يضيف إليها نظام تحديد المواقع الجغرافي المكانَ الذي التُقطت فيه بكلّ دقّة. قد يحدث أن تنتبه إلى أن ثمن القهوة في الدّوحة أغلى منه في مدريد لكنّ طعمَها واحدٌ وشكلَ المحلّ الذي تناولتها فيه هنا وهناك واحدٌ، لن تشعر بكثير من الفرق بين الدّوحة «الدُورَادُو» الخليج العربي ومدريد عاصمة الأندلس الضائعة، إذ سيكون العالم في تمام استوائه وتشابهه وتكراره المملّ أحيانا، ذلك التكرار الذي يطفئ جذوة الرّغبة الغريزية في الاكتشاف والتهام المعرفة،سيكون العالم متطابقا مع الصورة المرجع التي صمّمتها آلةُ الدّعاية الأمريكية وفرضتْها.
في مطار هافانا عاصمة جمهورية كوبا سيختلف الأمر كلّيا. بعد عشر ساعات من الطيران فوق المحيط الأطلسي تحطّ الطائرة الإسبانية على أرض هذه الجزيرة التي تنتمي جغرافيا إلى القارّة الأمريكية لكنّها متمرّدة على ثقافة الأمريكان والنمط الذي فرضوه على العالم، هنا سيظهر الاستثناءُ بكل وضوح ودون كثير من الجهد، لن يجد الهاتف الجوال شبكة هاتف خلوي تسمح له بإجراء أي اتصال، ولن يعثر على نقطة «واي فاي» للارتباط بالأنترنت ومواصلة حوار بدأ منذ ساعات على الفايسبوك، لن تكون هناك محلات «كوستا» أو «ماكدونالد» أو «بيتزا هوت»، سيبتسم ألفونسو موظف السفارة وهو يأخذ جوازات السفر لتسهيل معاملات العبور ويقول: «لابدّ أوّلا من تذوق القهوة الكوبية، أمّا شبكةُ الأنترنت فلا يمكن الارتباط بها الا قريبا من نقاط الاتصال اللاسلكي التي وضعتها الدّولة في الأماكن العامّة والشّوارع، وإذا رأيت تجمّعا للشباب في مكان ما ورأيتهم يتحدثون ويقهقهون بصوت عال فاعلم أنهم يبحرون على النت».
يحدثنا ألفونسو بعربية سليمة لا تشوبها شائبة ونجد أنفسنا لأول مرة في مطار لا نحتاج فيه إلى اللغة الانكليزية للتواصل، يقول إنه اشتغل كثيرا في المجال الديبلوماسي في دمشق وعمّان وتنقل بين بلدان عربية كثيرة قبل أن يستقرّ به المقامُ مسؤولا عن العلاقات العامة في السّفارة هنا، ويحدثنا مُطوّلا عن الجالية العربية المقيمة في كوبا والتي تعودُ أصولُ هجرتها إلى قرون خلت، وقبل مغادرة المطار يسلّمنا بطاقات اعتماد من المركز الدولي للصحافة منبها إلى أن كلّ عمليات التصوير الخارجي لا بدّ أن تخضع لموافقة السلطات العمومية وأنه يتعيّن عند كل مساءلة في هذا الغرض الاستظهار بهذا الترخيص.
ثلاثة أيام في كوبا، ينبغي أن تتعوّد فيها من جديد على الحياة بلا انترنت، نحن الذين أوّل شيء نفعله عند النهوض صباحا تصفّح الشبكة سريعا على الهاتف الذكي لمراجعة البريد الالكتروني والاطّلاع على تنبيهات «الفايسبوك» أو «تويتر» التي تلخّص لنا ما حدث في العالم أثناء غيابنا ساعات اضطررنا إلى النوم فيها اضطرارا!، هنا ستكتشف أن الحياة ممكنة بلا أنترنت، ستسيطر عليك مشاعر الانبهار العارمة أمام خيال تشي غيفارا الحاضر في كل مكان وستشعر أنك في حضرة زمن آخر، المباني المتهالكة على الكورنيش المؤدي إلى هافانا القديمة، والوجوه الخلاسية القادمة من زمن الأسياد والعبيد، الأضواء الشحيحة في شوارع المدينة العتيقة والعُشّاق المتجوّلون في السّاحات أمام الكنائسِ، في المقاهي والمطاعم والحانات، حيث يعبث الغيتار الإسباني بأرواح السّهارى مع النسيم الهادئ أحيانا وأمواج المحيط الغاضبة أحيانا أخرى تتكسّر على الأرصفة ووجوه المباني.
كلُّ شيء هنا يتحدّى الزمن، سيقول لك الجميع هنا: هافانا تنام باكرا فمع حلول السادسة مساء لن يمكنك التبضّع أو التجوال في محالّها التجارية لكنها على كل حال مدينة آمنة. سيقول لك ألفريدو درويش رئيس الجالية العربية في كوبا كلاما كثيرا عن العرب المقيمين في هافانا وعن حجم معاملات كوبا مع العالم العربي، ويؤكد لك ضاحكا أن صورة عبد الناصر ماتزال هي الصورة المعلقة على جدران السفارة المصرية في كوبا، لكنك لن تنتبه إلى هذه التفاصيل كثيرا، وتسأله في استغراب: هل قلت : درويش؟ يقول: أصلي من فلسطين ولي علاقة عائلية بالشاعر الكبير محمود درويش!
هافانا الزمن الآخر، وإذا كان العالم مستويا كما رآه توماس فريدمان في بنغلور فإن كوبا تمثل الآن نتوءا بارزا فيه، حدبة عجيبة تكسر رتابة الاستواء وتُخلّ بقاعدة التشابه، دمّلة في ظهر العولمة بدأت تتماثل للشّفاء، هذا الاستثناء الكوبي يمنح السائح لحظات انبهار قصوى وصورا فوتوغرافية جميلة عن البحر والقلاع القديمة والميناء والسّيجار والسيارات الفارهة المكشوفة ذات الألوان الخلابة، وكما تفعل كل الأنظمة الشمولية يحجب عنه الفقر والفقراء.يقول لي ديبلوماسي قديم: «كوبا كانت حديقة أمريكا الخلفية» ثم يسحب نفسا عميقا من سيجاره الكوبي الأنيق ويواصل: «وسترجع مثلما كانت»، يؤكد كلامه هذا ما كان قاله ألفونسو عن تضاعف عدد السواح بمجرد بدء ذوبان الجليد بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية واهتمام رجال الأعمال من مختلف أنحاء العالم بالاستثمار السياحي هناك.وما عليك الآن الاّ أن تلتقط الصّور التي لن تراها مُجددا لو عدت إلى هنا بعد أن ارتفع العلم الأمريكي في مبنى فخم على ضفة الكورنيش أمام صخب أمواج المحيط العاتية وذكريات تشي غيفارا.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق