تــــونــس‭ ‬بين‭ ‬المــــــــــوجود‭ ‬والمنشــــود

تــــونــس‭ ‬بين‭ ‬المــــــــــوجود‭ ‬والمنشــــود

تبدو تونس اليوم في عيون أبنائها في مظهر «الرجل المريض»، بعد مرور خمس سنــوات على اندلاع ما اصطلح  على تسميته بـ «ثورة الحريّة والكرامة». ولئن تقوم كلّ ثورة على ثنائية الهدم والبناء وترتكن إلى قاعدة إديولوجية لصياغة مشروع يقطع مع رواسب الماضي ويؤسس لمستقبل أفضل، فإنّ الثورة التونسيّة ظلّت مكبّلة بقيود تشدّها إلى مراحلها الأولى وتعيق انطلاقها نحو التغيير والإصلاح، في غياب خارطة طريق واضحة المعالم، فبات مسـارها متعثّرا ونسقها بطيئا، مرتبكا.

بعد زوال عهد الترويكا، وما ساده من تخبّط في إدارة شؤون البلاد وسوء تصرّف في مقدّراتها واضطراب للأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة والأمنيّة وانحلال لسلطة الدولة، وبعد انقضاء فترة حكومة المهدي جمعة الانتقاليّة التي أفضت إلى إجراء انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة حرّة وشفّافة في الثلاثي الأخير من سنة 2014، كان عديد التونسيّين الذين صوّتوا لنداء تونس وللسيد الباجي قايد السبسي يمنّون النفس بانفراج أوضاع البلاد وتعافي الاقتصاد والبدء في معالجة المشاكل القائمة. لكن سرعان ما خابت آمال الناخبين مع دخول النداء والنهضة في تحالف أجّج نار الخلافات داخل الحزب الفائز بالانتخابات، وتحوّل الصراع الدائر صلبه إلى أزمة سياسيّة على الصعيد الوطني، تحمل في طياتها أزمة حكم، ممّا جعل الكثيرين يتساءلون: من يحكم تونس اليوم؟ هل هو النداء؟ هل هي النهضة التي تبدو المستفيد الأكبر من وضعيّة غريمها السابق؟ هل هو رئيس الجمهوريّة؟ هل هو رئيس الحكومة؟ يُطرح هذا السؤال والكلّ يلحظ انخرام قواعد اللعبة السياسيّة، فلا الأغلبيّة تحكم ولا المعارضة تمارس وظيفتها النقديّة، في ظلّ نظام سياسي هجين بانت عيوبه، ولم تكن البلاد مهيّأة لاعتماده، وهي تتحسّس طريقها نحو الديمقراطيّة.

وما هذه الأزمة، في الواقع، إلّا مظهر من مظاهر أزمة مبطّنة، مخاتلة، لعلّها الأخطر والأشدّ مُكرا في تاريخ تونس منذ الاستقلال، إذ تتداخل فيها الجوانب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة والثقافيّة والعقائديّة، ممّا يستوجب التوقي من مخاطرها الجمّة، التي قد تحمل بذور ثورة ثانية.

يظلّ التونسيّون في حيرة من أمرهم وهم يرون بلادهم تنزلق يوما بعد يوم نحو المجهول، بعد أن شهدت معظم المؤشّرات الاقتصاديّة والماليّة تراجعا حادّا، وأصيب قطاع السياحـــة في مقتل جــــرّاء استشــــراء ظاهــــرة الإرهاب، وتملّك اليأس قطاعـــات واسعـــة مـــن الشباب بسبـــب انعــــدام الحلول الناجعة لمعضلات البطالة والفقر والتهميش، وتأخّر انطلاق البرامج والمشاريع الرامية إلى دفع حركة التنمية في الجهات المحرومة. كما تدهورت القدرة الشرائيّة للطبقة الوسطى بنسبة 40 بالمائة، منذ سنة 2011، حيث لم تعد تمثّل هذه الطبقة سوى 47 بالمائة من عموم التونسيّين، بعد أن كانت في الســـابق إحدى مفاخر تونس وميزاتها- وتفشـــىت ظــــواهر الفســـاد والمحسوبيّة والتسيّب في الإدارة، وعمّ التراخي والتقاعس أوساط العمـــال والمــــوظّفين، وتواصــلت الإضرابات والحــركات الاحتجاجيّة، وطفت على السطح، في السنوات الأخيرة، فئة مرفّهة استغلّت ضعف الدولة وهشاشة الأوضاع الأمنيّة لتبني ثـــروات طائلــة، مصـــدرها الأســـاسي تهـــريب السلع والبضائع والاتجار غير المشروع في العديد من المواد، بما في ذلك الأسلحة والمخـــدرات، فتجــاوز بذلك حجــم التجـــارة الــموازية حجــــم التجارة المنظمة (53 بالمائة).

وعلى صعيد آخر، أسيء استخدام حريّة التعبير في وسائل الإعلام، حيث تحوّلت المنابر التلفزيّة والصحف الصفراء إلى فضاءات لتبادل السباب والشتائم، وأضحى التسابق المحموم نحو المادّة الأكثر إثارة (buzz) النزعة الغالبة، في تنكّر تامّ لأخلاقيات المهنة الصحفيّة.

هكذا تتراءى لنا اليوم بعض ملامح المشهد الوطني، والثورة تدخل عامها الخامس. وعلى الرغم من هذاالمشهد القاتم، أعرب رئيس الجمهوريّة عن تفاؤله بأن تكون سنة 2016 سنة النموّ الاقتصادي وإنجاز الإصلاحات الكبرىوالتزم رئيس الحكومة، مــن ناحيتــه، بالخــصوص بدعــم المنظــومة الأمنيّة للاستمرار في محاربة الإرهاب والعمل على تحقيــق انطلاقة الاقتصاد الوطني وتأمين توازنات المــاليّة العمــوميّة والشــروع في تنفيــذ مخطّط التنمية، عـــلاوة على تـــركيز الهيئات الدستــوريّة في الأشهــر القادمة وإجراء الانتخابات البلديّة في أجــل أقصاه موفّى أكتوبر وبداية نوفمبر من هــذا العام.

تلك هي رهانات السنة الجديدة. غير أنّ كسبها يتوقّف على توفّر جملة من الشروط، من أبرزها الإسراع بمعالجة الملف الاقتصادي وقضايا التنمية الجهويّة بالجرأة والنجاعة اللازمتين، واستتباب السلم الاجتماعي، وعودة التونسيّين إلى العمل والكدّ، عــلاوة على تنقية الأجواء السياسيّة، وإنهاء الأزمة داخل نداء تونس التي أضرّت بالبلاد وزادت في تعميق الفجوة بين الطبقة السياسيّة والمواطنين، والحسم في مسألة الخلط بين الدّين والسياسة. وعلى حركة النهضة أن تبدي موقفا صريحا من هذه المسألة وأن تتحوّل إلى حزب سياسي فكرا وممارسة.

لا يمكن في تقديرنا أن نتصوّر نجاحا للانتخابات البلديّة ومشاركة واسعة فيها، باعتبارها طورا مهمّا في إرساء منظومة حوكمة محليّة جديدة ودعم أسس اللامركزيّة، وذلك في غياب أجواء تحفّز الناخب إلى الانخراط في العمليّة السياسيّة.

تونس اليوم في أوكد الحاجة إلى هبّة وطنيّة شاملة لتحقيق الأهداف المنشودة وإنقاذ البلاد ممّا تردت فيه من أوضاع متأزّمة، فهل تكون سنة 2016 سنة الإصلاحات الكبرى ومصالحة التونسي مع الشأن العام؟

 

عبد الحفيظ الهرقام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.