أسطورة الثورة

أسطورة الثورة

كان لا بد للثورة أن تصنع رموزها..
كان لا بد للعون البلدي "فادية" أن تكون "الشيطان".. وكان لا بد لمحمد البوعزيزي أن يكون "الملاك".
ولأن الأسطورة  بحاجة إلى اكتمال أركانها، فقد تحول البوعزيزي الذي فشل في اجتياز الباكالوريا أكثر من مرة، تحول إلى صاحب شهادة جامعية، عاطل عن العمل!.. الأساطير المؤسسة للثورات تفرض أن يكون الرمز "مسيحا" تتوفر فيه تراجيديا الأنبياء.. ولأن أسطورة الضحية  تفترض دائما وجود القرابين، فقد كان على المخيال العام أن يصنع من جسد البوعزيزي المشتعل قربانا للثورة.. شمعتها التي ألهبت القلوب.. وأضاءت لتطرد الظلام.. 
لم يكن بمقدور الذين يعرفونه جيدا قبل أن يضرم النارفي  نفسه أن يبوحوا بالسيرة الذاتية لشاب لم يكن يحمل بأي حال أية مؤهلات "ترشحه"  للأسطورة..   لكن أحدا من هؤلاء لم يكن بمقدوره أن يتكلم.. كان المؤسسون لأسطورة الثورة ورمزها قد بنوا الهيكل، وامتشقوا سيوفهم، ووقفوا يحرسون البوابة، على استعداد  لقطع أي لسان مشكك في الثورة، أو مجادل في رمزها..
أما الذين يعرفون "فادية"، فيقولون إنها كانت شابة خجولة، هادئة.. كانت تلك الأوصاف مربكة للأسطورة.. كان لا بد من شيطان في مواجهة ملاك.. لا بد من يوسف الطاهر،  وزليخا الظالمة.. لا بد من خنجر  "بروتوس"  في ظهر يوليوس قيصر.. هكذا، أخذت "صفعة" فادية للبوعزيزي – إن حصلت- حجمها الأسطوري بامتلاء!..
أسقطت الأسطورة في طريقها كل جدل سابق بين الموظفة البلدية  وبائع العربة المتجول، وطمست كل ما راج على ألسنة "المشككين" من كلام بذيء قيل إن الشاب "الثائر"  تفوّه به ضد الشرطية "الظالمة".. كان لا بد للصفعة أن تأخذ موقعها فتيلا للحدث.. فهي التي ستتحول لاحقا إلى نار غاضبة،  ثم جسد ملتهب، ثم ثورة لا تبقي ولاتذر.. لن تشبع إلا بفرار الشيطان الأكبر.. بن علي!
صنعت الأسطورة نفسها.. وبنت معبدها.. وجندت حراسها .. وانتهينا!..
الثورة في أيامها الهوجاء الأولى لم تكن لترحم من يتجرأ على شعلتها .. و"مشعلها"!..
ليس بيننا هوميروس لننسب له هذا الأسطورة ونرتاح.. لا أحد بإمكانه أن يدّعي اليوم أنه كتب تلك الأسطورة .. لقد كانت تأليفا جماعيا، شحذه خيال شعبي، انتقل بين القرى والمدن والأرياف، ساهم الجميع في صياغته، وتنقيحه، وترتبيه، وفرض نسقة الدرامي المدهش..
هذه أول ثورة تكتب أسطورتها لنفسها.. بنفسها! ..
وهذا أول شعب يمحو الأسطورة  قبل أن يرحل أبطالها.. باستثناء "قربانها".. طبعا..
خمس سنوات بعد تلك الحتوتة المشوقة.. تكاد الأدوار تكون قد انقلبت بالكامل تقريبا.. انزاح أبطال المسرحية التراجيدية عن مواقعهم .. فعدد المتباكين على أيام بن علي في ازدياد.. وحجم المترحمين على البوعزيزي في تراجع !..
قبل خمس سنوات .. فر بن علي – الشيطان- خارج تونس..
اليوم..  تفر أسرة البوعزيزي – الملاك -  من التونسيين..
هرب بن علي خوفا من انتقام شعب ناقم على حكمه..
وهربت أسرة البوعزيزي  خوفا من تونسيين ناقمين على "الثورة"..
من المثير أن كندا التي لجأ إليها بعض أصهار بن علي .. كانت هي الملجأ لأسرة البوعزيزي!..
وحدها الثلوج، فيما يبدو -  قادرة على إطفاء الحرائق .. والجمع بين الملائكة.. والشياطين..
أساطير هذه الثورة لا تنتهي..

عبدالدائم السماري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.