إنقـــاذا للـــوطـن
كان كلّما جدّت في الأشهر الأخيرة ، هنا أو هناك، في ربوع تونس، عمليّة إرهابيّة تهتزّ مشاعر التونسيّين لها ألما وحزنا لسقوط شهداء وجرحى إمّا في صفوف قوات الجيش الوطني أو قوات الأمن الداخلي أو المدنيين العزّل، لاسيّما في المناطق التي يعشّش فيها الإرهاب، وترتفع الأصوات مندّدة بالجريمة النكراء ومتوعّدة مقترفيها بملاحقتهم حيثما كانوا لتقديمهم للعدالة أو بالقضاء عليهم. ولكن أيّاما أو أسابيع قليلة بعد وقوع الضربة غالبا ما تنزل حدّة الخطاب وتنخفض درجة اليقظة العامّة، ليُترك أمر مكافحة الإرهاب الذي ابتليت به تونس، بعد فترة وجيزة من قيام الثورة لقوات الجيش والأمن والحرس، وكأنّ قدر الشعب التونسي أن يتعوّد على فظاعة مخطّطاته وأن يتأقلم مع تداعياته المأساويّة وأن يتهيّأ لمستقبل أكثر سوءا وقتامة.
غير أنّ تفجير حافلة تابعة للأمن الرئاسي مساء الثلاثاء 24 نوفمبر الماضي في قلب العاصمة كان له وقع خاصّ في النفوس، لما حملته هذه العمليّة الإرهابيّة من رموز في أبعادها الإجراميّة من حيث توقيتها وموقعها وهدفها. كان القصد من ورائها ترويع المواطنين وتهديد سلامتهم في وقت الذروة، على مقربة من مؤسّسات بنكيّة وحكوميّة، وغير بعيد عن إحدى الوزارات الحساسّة، وزارة الداخليّة، علاوة على استهداف النظام الجمهوري من خلال سلك مثاليّ في وطنيّته وجاهزيته وكفاءته العملياتيّة، ألا وهو الأمن الرئاسي.
بعد عمليتي باردو وسوسة اللّتين أصابتا السياحة في مقتل وعمّقتا جراح قطاع كان يواجه عديد الصعوبات، يدخل الإرهاب هذه المرّة طورا نوعيّا جديدا مثقلا برسائل التحدّي الموجّهة في الآن ذاته إلى رموز الدولة ومؤسساتها وإلى عموم الناس، لا سيّما في المدن. ولم تغب هذه الرسائل عن القيادة السياسيّة، إذ سارع رئيس الدولة بإعلان حالة الطوارئ في كامل تراب الجمهوريّة لمدّة ثلاثين يوما وتطبيق منع الجولان في منطقة تونس الكبرى ليلا، وانعقد مجلس الأمن القومي ليعتمد قرارات كان من المفروض أن تنفّذ سابقا، ومنها بالخصوص تفعيل قانون الإرهاب واتخاذ إجراءات عاجلة في حقّ العائدين من بؤر التوتّر في إطار قانون الطوارئ والمراقبة الإداريّة لمن تعلّقت بهم شبهة الإرهاب ودعوة السلطات القضائية إلى الإسراع في البتّ في قضايا المتّهمين بالإرهاب، فضلا عن إقرار انتدابات في الأمن والجيش.
ومع تقديرنا لما أبـــداه المسؤولون في مختلف المستويات والمواقع من تصميم على مواصلة الحرب على الإرهاب، فلنا أن نتساءل إن كانت هذه القرارات، على أهميّتها، كفيلة لوحدها بالتصدّي بفعاليّة ونجاعة لهذه الظاهرة، إذا لم يتمّ معالجتها من جذورها وبتر الأذرع التي ما انفكت تحضنها وتدعمها ماليّا ولوجستيّا وتجيّش لها الأتباع والأنصار.
ولاشكّ أنّ من أهمّ القضايا التي يتعيّن على الحكومة أن تسارع في الانكباب على دراستها بعمق، لإيجاد الحلول الملائمة لها، الحجم المهول للأموال المشبوهة المتداولة في البلاد والذي يناهز الملياري دينار، نصيب التهريب منها قرابة 1,8 مليار دينار، علما أنّ التجارة الموازية باتت تمثّل 53 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. وغير خاف على أحد أنّ التهريب يعدّ منبعا من منابع تمويل الإرهاب، إلى جانب الجمعيات التي تتلقّى أموالا من الخارج والتي تحيط الضبابيّة بنشاط العديد منها، خاصّة وأنّ رئاسة الحكومة أضحت غير قادرة على مراقبة كلّ الجمعيات التي فاق عددها اليوم 18 ألف جمعيّة. وقد طالبت الحكومة بحلّ 64 جمعيّة بقرار قضائي ولكنّها لم تحصل إلّا على حلّ جمعيّة واحدة وهي رابطة حماية الثورة.
ومن الخطإ الاعتقاد أنّ النجاح في التصديّ للإرهاب يتوقّف فقط عند تنفيذ الإجراءات التي أُقرّت إثر عمليّة تفجير حافلة الأمن الرئاسي أو عند الجهود المتواصلة التي تبذلها قوات الجيش والأمن الداخلي في سبيل تفكيك شبكات الإرهابيين والقضاء عليهم، بل هو مسؤولية كلّ التونسيّــين دون استثنــاء، إذ عليهـم أن يخوضوا معا حربا شاملة تستوجب المثابرة وطول النفس وتستدعي أيضــا القبــول بالتنــازلات والحلــول الموجعة.
الوطن اليوم في خطر. فمن واحب كلّ الأطراف أن تتحمّل مسؤولياتها في رعاية مصالحه والذود عنها، بدءا بالمنظمة الشغيلة التي ينبغي أن تساعد على التوصّل إلى هدنة اجتماعيّة تضع حدّا لموجة الاحتجاجات والإضرابات، التي أضرّت كثيرا باقتصاد أصابه الوهن، والتي يستغلّها الإرهابيون لمزيد إرباكه وشلّ قدراته. وعلى السياسيين، ولا سيّما صلب الحزب الأغلبي، أن يُنهوا تجاذباتهم وصراعاتهم المحتدمة عسى أن يسترجع التونسيّون البعض من ثقتهم في أهل السياسة بما يقوّي عزمهم على الانخراط في الحياة العامّة ويحضّهم على المشاركة في معركة مصيريّة، مدارها حماية الشباب من براثن التطرّف والإرهاب وتخليص الإسلام من شوائب التحجّر والانغلاق، إنقاذا للوطن.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق