عــبـــد الـــعــــزيـــز ڤــــرجــــــي وأسئلـــة الهــويّــة والحــداثــة
بين مولد المرحوم عبد العزيز قرجي سنة 1928 ووفاته سنة 2008، مرّت ثمانية عقود من عمر الحركة الفنّيّة بتونس، حافلة بالأحداث والتّحوّلات. وتندرج أعمال الفنّان ضمن إحدى مراحلها الحاسمة، تلك التي بدأت مع الاستقلال وتبلورت خلالها أفكار ورؤى وممارسات حول مسألة الهويّة في الفنّ. وبصرف النّظر عن وجاهة تلك الأفكار والرّؤى وعن قيمة المنجز الفنيّ الذي حقّقته، ورغم ما يخالط موضوع الهويّة من مزايدات وصراعات، فقد سيطر على الحركة الفنيّة التّونسيّة على مدى عقود كمشكلة لا مناص من الخوض فيها باعتبارها نتيجة للصّدام بين ثقافتين، أصيلة ومستوردة. وقد أفرز الجدال مواقف متباينة بل صراعا محتدما حول الموضوع بين جيل «مدرسة تونس» وجيل جديد من الفنّانين طرحوا أفكارا ومعالجات مغايرة من أمثال نجيب بالخوجة ومحمود السّهيلي. فبينما تحمّس قرجي وزملاؤه لفكرة «فنّ وطني» يستقلّ عن التيّارات العالميّة ويصوّر مشاهد مستوحاة من تراث الماضي ومظاهر الحياة التّقليديّة، كان نجيب بالخوجة يدعو، في منتصف السّتّينات من القرن الماضي، إلى فهم آخر للتّراث باستلهام تعبيراته الشّكليّة المحض ضمن الحيّز الجماليّ للّوحة دون الاهتمام بالموضوعات الشّعبيّة التي لا تعدو، في رأيه، أن تكون فولكلورا. ومهما خالط النّقاش بين الفريقين من مبالغات واتّهامات كان لها صدى في صحافة تلك الفترة، فقد كانت تلك المرحلة ثريّة شهدت بداية بعض التّنوّع بظهور «جماعة 70» التي ضمّت فنّانين من الشّباب من اتّجاهات اسلوبيّة مختلفة. كان التّباين في الرّؤى والأهداف المعلنة يشحذ الهمم ويحفز على مبادرات أدّى فيها عبد العزيز قرجي دورا محوريّا كتشكيليّ متعدّد الاختصاصات وأستاذ في مدرسة الفنون الجميلة ورئيس لجماعة «مدرسة تونس» منذ سنة 1969، وكمؤسّس لأحد أوائل الأروقة الفنّية الخاصّة سنة 1973.
اذكر أنّه كان أحيانا يسألني خلال لقاءاتنا عن رأيي في علاقة أعماله بالحداثة. «هل أنا رسّام حديث؟» كان ذاك سؤاله المتواتر عندما يترك الدّعابة والتّعليقات الفكهة اللاّذعة التي اشتهر بها ويعاوده قلق الفنّان المتسائل عن معنى إبداعه؛ وكنت أجيبه بأنّ أعماله، من حيث اعتمادها البحث والتّجريب في الأساليب والخامات، تشهد على حداثته، وكان ذلك يسرّه فيعود إلى تعليقاته السّاخرة من كلّ شيء. والواقع أنّني كنت ولا أزال أرى أن الحداثة ليست جريا وراء التّقليعات وانخراطا في أحدث موضة فنيّة واردة بل تجاوزا مستمرّا للقناعات المستقرة لدى الفنّان الباحث عن تعبيرات متجدّدة، وبهذا المعنى وبالإضافة إلى دوره المميّز في تاريخنا الثّقافي، فإنّ عبد العزيز قرجي ينخرط عن جدارة في المحاولات التّجديدية للرّسم التّونسيّ.
إنّ المتتبّع لمسيرة الرسّام على مدى عقود من الزّمن يدرك أنّ أسئلته القلقة حول الحداثة تأتي كردّة فعل على انشغاله الطّويل بهاجس الهويّة الذي اتّخذت منه جماعة «مدرسة تونس» شعارا في محاولاتها تحديد ملامح فنّ حديث تونسيّ. فما الذي دفع قرجي في مرحلة ما من مسيرته إلى مراجعة مفهوم الهويّة من حيث هيّ تشكيل لصورة لصيقة بالتّراث وبقوالب تعبيريّة شبه مقنّنة لأنماط الحياة المحلّيّة؛ وما سبب تحوّله إلى طرق مواضيع أكثر حريّة وأقرب إلى نزعات التّشخيصيات المحدثة ؟
لا شكّ أن اصطدام نظرة قرجي إلى الفنّ، كانعكاس لصورة المجتمع التّقليدي، بنظرة أخرى ترفض صيغ التّعبير السّائدة، كان له أثر في التّحوّلات الطارئة على أسلوبه القديم منذ نهاية السّتّينات. فقد بدأ برسم الحياة الشّعبيّة بمختلف مواضيعها من عادات وتقاليد ونماذج بشريّة وأحياز معماريّة، وكان أكثر ميله إلى صيغة تستلهم المنمنمة الإسلاميّة القديمة في تواضعاتها الأسلوبيّة ووظيفتها كـ«أيقونة» ترمز إلى الواقع أكثر ممّا تنقله على نحو تسجيليّ. وبذلك تكون المعالجة عنده «تشكيليّة» بالأساس أي منظومة خطوط وألوان في مستوى سطح اللّوحة قبل أن تكون نقلا أو سردا لواقع ما خارجها. ومع ذلك فقد ألحّت عليه في نهاية الستّينات فكرة خوض مغامرة التّجريب فترك قوالب المنمنمة ونظامها المقنّن الصّارم إلى فضاء أرحب يتيح لخطّه التّحرّك بأكثر حرّيّة بعيدا عن نمطيّة أسلوبه المعتاد، وكان أن انخرط في تجربته «الحداثيّة» التي قلبت عالمه التّشكيليّ الرّصين رأسا على عقب، فتحوّلت اللوحة من بناء متماسك متناسق إلى حلبة تجري فوقها الخطوط على نحو انفعاليّ منفلت، معبّرةً عن مواضيع لا تقلّ انفلاتا وجرأة في تلميحاتها إلى الرّوح الشّعبيّة السّاخرة وإشاراتها إلى حقائق اجتماعيّة باطنة تطفو دون أصباغ زائفة على سطح اللّوحة.
وفي أثناء ذلك لم يعد يخصّص قرجي رواقه الخاصّ لتظاهرات «مدرسة تونس» الدّوريّة وعزم على فتحه للتّجارب الجديدة مجاراةً لنزوعه نحو مفاهيم جماليّة أكثر تحرّرا، فاستضاف فنّانين من الإتّجاهات التّجديديّة رغبةً منه في مدّ الجسور بين أجيال الحركة الفنّيّة، وحتّى لا يبقى الرّواق حكرا على جماعة «مدرسة تونس» أمثال جلال بن عبد الله وعلي بن الآغا والزّبير التّركي وغيرهم؛ والواقع أنّ من بين هؤلاء من كان يرسم بأسلوب متحرّر من المواصفات الجماليّة والأسلوبيّة للجماعة، بل منهم من كان رسّاما تجريديّا مثل الهادي التّركي.
غير أنّ الأهم في مسيرة عبد العزيز قرجي هو ما ولّده اصطفاف بعض الفنّانين وراءه في مواجهة فنّانين آخرين يقودهم نجيب بالخوجة والسّهيلي، من حركيّة غير مسبوقة في المشهد التّشكيلي، رافقها نشاط نقديّ صحفيّ واهتمام بالغ لدى المتابعين للشّأن الثّقافيّ. كما ادّى ذلك إلى تأسيس محمود السّهيلي وثلّة من زملائه، في العام 1983، لرواق «ارتسام» الذي التأمت حوله جماعة تحمل الاسم ذاته ونهضت بدور هام في التّعريف بالنّزعات الفنيّة الجديدة؛ واستمرّ هذا الزّخم لسنوات فظهرت جماعات أخرى حــول رواق «التّصـوير» (1978) ورواق «عين» (1986) ورواق «شِيَم» (1988) وغيرها؛ وموازاةً لتفاعلات الحياة التّشكيليّة، نشطت حركة نشر المؤلّفات عن الفنون وسير الفنّانين، ساهمت فيها المصالح العموميّة المعنيّة بالثّقافة والمؤسّسات الخاصّة.
ولكن ذلك التيّار من الرّؤى والأفكار لم يحافظ على حيويته طويلا، فمع استمرار الحركة التّشكيليّة في الاتّساع والتّنوّع خفّ التّضادّ بين المفاهيم مع بداية التّسعينات وفترت حماسة الجدال حول ماهية الفنّ ووظائفه؛ بل أنّ الفنّانين من هذا الاتّجاه أو ذاك اعتادوا العرض معا وفي أيّ رواق يقبل أعمالهم دون إثارة النّقاشات القديمة واكتفى أغلبهم بالعمل في صمت. والأكيد أنّ غياب شخصيّات قويّة في الوضع الرّاهن مثل عبد العزيز قرجي وآخرين، ممّن بوسعهم جلب الاهتمام إلى قضايا الفنّ ومشكلاته ومستقبله، لا يساعد على تعميق البحث في تلك القضايا. ولئن أصبح الحديث عن ثنائيّة الهويّة والحداثة مستهلكا، فهناك مسائل ومشكلات عديدة أخرى تنتظر حلاّ، سواء منها ما يتعلّق بتطّور مفاهيمه أو بوظائفه في حياة المجموعة في ما يتّصل، مثلا، بالتّربية والعمارة وتهيئة المدن وتجميلها؛ وقد يؤدّي التّهاون في حلّها إلى إضعاف الثّقافة كبعد تنمويّ والحدّ من تأثيرها في حياة مجتمع يطمح إلى التّغيير.
علي اللّواتي
- اكتب تعليق
- تعليق