أضـــواء على المـؤتمـــر الخـــامــس للحــزب الحــرّ الدستــوري التونس صفاقس 15-19 نوفمبر 1955
مضت ستّون سنة عن انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الحرّ الدستوري الجديد، قاطرة الحركة الوطنية التونسية، بصفاقس٬ عاصمة الحراك الاجتماعي النقابي العمّالي التّونسي التي شهدت وضع اللّبنة الأولى لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل إثر ميلاد النقابات المستقلة بالجنوب (19 نوفمبر 1944) بإشراف الزعيم النقابي فرحات حشاد.
وازداد في الآونة الاخيرة نسق إنارات المؤرخين وشهادات الفاعلين حول هذه الفترة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، مذكّرات القياديين النّقابيين الحبيب عاشور ومحمّد كريّم وعبد العزيز بوراوي والمناضل الدستوري المتعاطف مع اليوسفيّة، حسب توضيحه، الطاهر عميرة. وتزيح هذه الإنارات الستار عمّا خفى أو توارى مـــن ملابسات و تداعيات، استحضارا لخلفيّات أوّل مؤتمر علني عقده الحزب الحرّ الدستوري الجديد منذ سنة 1937، تاريخ انعقاد مؤتمر«نهــــج التريبونال» (31 أكتوبر- 2 نوفمبر 1937) الذي كرّس انتصـــار التيار الراديكالي بزعامة الكاتب العــــام الحبيب بورقيبة على حسـاب التيار المعتدل بزعامة الرئيس الدكتور محمود الماطري وأعدّ العدّة لمواجهة سيـــاسة الحماية.
التأم مؤتمر صفاقس ليحسم الصراع على الزعامة بين بورقيبة وصالح بن يوسف، لصالح «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة، هو صراع ترجع جذوره إلى تبعات استقالة الدكتور محمود الماطري من رئاسة الحزب (13 جانفي 1938) التي بقيت شاغرة. وآلت الرئاسة بالنيابة إلى الدكتور الحبيب ثامر، مهندس المقاومة السرية، بعد حلّ الحـــزب بأمر عٙليّ إثــر حـوادث 9 أفريل الدامية٬ واستمرّ الدكتور ثامر في إدارة وتفعيل المقاومة (1939 – 1941) التي سبّبت له السجن وصدور حكم بالأشغال الشاقة بشأنه، ثمّ أفرج عنه أثناء الاحتلال الألماني – الإيطالي للإيّالة (8 نوفمبر 1942 / 13 ماي 1943) وواصل مهامه إلى حدود رجوع الزعيم بورقيبة من روما في 9 أفريل 1943. فما هو الإطار التاريخي لبداية الصراع اليوسفي – البورقيبي الذي ظلت حيثيّاته لفترة طويلة مسكوتا عنها أو مجهولة؟ وما هي رهاناته إبّان مؤتمر صفاقس٬ «مفترق الطرق»٬ ساعة التأسيس لدولة الاستقلال؟
جذور الصراع اليوسفي-البورقيبي
إنّ المتأمّل في الإطار التّاريخي الذي حفّ بنشأة الصراع اليوسفي ـ البورڤيبي على الزعامة وتطوّراته يتبيّن أنّ هجرة الزعيم بورڤيبة إلى الشرق (مارس 1945) لتدويل القضيّة التونسيّة في جامعة الدول العربيّة (سنة 1946) وجمعيّة الأمم المتّحدة بنيويورك (سنة 1947) وما نتج عنهما من خيبة شكّلت الدّافع للزعيم صالح بن يوسف ليشرع في عمليّة تجاوز رئيسـه كما أكّده لي المناضل جلّولي فارس، مندوب الحزب الحرّ الدّستوري التونسي ببـاريس (1947 ـ 1949) وهمزة الوصل بين الديوان السّيـاسي بتونس ومكتــب المغــرب العــربي بالقـاهرة.
لقد تمكّن الزعيم صالح بن يوسف إثر دعوة مؤتمر الحزب للانعقاد (مؤتمر دار سليم 17 أكتوبر 1948) من السّيطرة على جهاز الحزب وإبقاء الرّئاسة الشّرفيّة للزعيم بورڤيبة الذي فقد صلوحيّة التصرّف المالي، بل آل الأمر إلى حدّ المطالبة برفت الزعيم بورڤيبة من الحزب في المجلس الملّي للحزب المنعقد في شهر أوت 1949، وهو الٲمر الذي جعل الزعيم بورڤيبة يقرّر العودة في 8 سبتمبر 1949. وقد فاجأت هذه العودة الزعيم صالح بن يوسف والقصر الحسيني واللجنة التنفيذية للحزب ولم يكن المقيم العام «جون مونص» يرغب فيها. وأمكن للزعيم بورڤيبة إقناع وزارة الشؤون الخارجيّة الفرنسيّة، عن طريق سفارتها بالقاهرة، بأنّه اذا ما وافقت السلطة الفرنسيّة على تسهيل عودته (أي حصوله على التأشيرة لأنّه غادر البلاد التّونسيّة خلسة سنة 1945)، فإنّه سوف يقدّم عرضا معقولا من شأنه السّير بالقضيّة التّونسيّة نحو الحلّ (برنامج النقاط السبع، 7 أفريل 1950).
ورجع الزعيم كاظما غيظه بسبب ما قام به الزعيم صالح بن يوسف طوال إقامته في الشّرق، وكان هاجسه إعداد العدّة للمقاومة العنيفة التي ستندلع إثر فشل المفاوضات التونسيّة الفرنسيّة (مذكّرة 15 ديسمبر 1951).
وتأكّدت قراءته الاستشرافيّة للأحداث بفشل مفاوضات حكومة شنيق مع الحكومة الفرنسيّة واندلعت المقاومة في جانفي 1952 التي ستستمرّ من دون انقطاع إلى حدود العرض الذي تقدّم به رئيس الحكومة الفرنسيّة «بيار مانداس فرانس» إلى الباي في خطابه بقصر قرطاج يوم 31 جويلية 1954 والذي أكّد فيه استعداد حكومته للاعتراف بالاستقلال الدّاخلي فحسب للدولة التونسيّة في إطار التّفاوض بين الطرفين. وأفضت المفاوضات بين الجانبين إثر تشكّل حكومة الطاهر بن عمّار (أوت 1954 ـ أفريل 1956) إلى إعلان الإتّفاق (21 أفريل 1955) بعد مناقشات عسيرة كادت أن تغلق باب التّفاوض حول مضمون الاتّفاقيّات التونسيّة ـ الفرنسيّة التي أدّت إلى الاستقلال الداخلي التونسي بإقرار وجوب انتخاب برلمان تونسي.
عوامل انتصار المنهاج الزعاماتي البورقيبي
كان الزعيم بورڤيبة مقيما حين ذاك في قصر «Ferté» بضواحي باريس يتابع ويتدخّل كلّما اعترضت الزعيم المنجي سليم صعوبة في اقتلاع مقوّمات السّيادة للاستقلال المنشود في حين كان الزعيم صالح بن يوسف يشارك في أشغال «مؤتمر باندونغ» (أفريل 1955) بأندونيسيا الذي أقرّ حقّ شعوب المغرب العربي في الاستقلال. ويمكن القول إنّ الزعيم صالح بن يوسف فاجأته الإتّفاقيّات التّونسيّة ـ الفرنسيّة التي اقرّت يوم 21 أفريل 1955 والمبرمة بين الطّرفين يوم 3 جوان 1955 إثر رجوع الزعيم بورڤيبة المظفّر في غرّة جوان 1955 وشرع في نقد هذه الاتفاقيّات ومعارضتها في حين باغت الزعيم بورڤيبة اندلاعُ الثّورة الجزائريّة في غرّة نوفمبر 1954 ولم يكن على بيّنة بخصوص الاتّفاق الحاصل بين جمال عبد النّاصر وصالح بن يوسف وأحمد بن بلّه، بشٲن الاعداد لهذه الثورة. وأفضى ذلك إلى إذكاء الخلاف بين الزعيمين الحبيب بورڤيبة وصالح بن يوسف إثر عودة بن يوسف إلى تونس يوم 31 سبتمبر 1955، واتّخذ هذا الخلاف منحى عنيفا.
مؤتمر الحسم
تمت الدّعوة إلى انعقاد مؤتمر الحزب لمناقشة الاتفاقيّات المبرمة والبتّ في النزاع القائم بين الزعيمين. وأبدت جامعة تونس والأحواز الدستوريّة مناصرتها للمعارضة اليوسفيّة، الشيء الذي جعل الزعيم بورڤيبة يقبل العرض الذي قدّمه له القيادي النّقابي الحبيب عاشور بحضور رفيقه محمّد كريم والمتمثّل في عقد المؤتمر بصفاقس (17 نوفمبر 1955). وقد أظهر الزعيم بورڤيبة من خلال خطابه في مؤتمر صفاقس قدرات فائقة في الإقناع وبراغماتية في التعاطي مع تحوّلات الراهن المعيش. فهو من زمرة الذين يتماهون مع الحِكْمٙة السياسية الانقلوسكسونية التي تقول بأنّ «قناعات الإنسان هي خيار بين بدائل وأن البدائل تتغيّر مع الزمن». أي بما معناه أنّ صيغة الاقتراح الذي عرضه «بيار منداس فرانس» في جويلية 1954 في خصوص الاستقلال الداخلي بعد هزيمة «ديان بيان فو» (ماي 1954) و ما وافق عليه «إدغار فور» مع الحكومة التونسية التفاوضية بشٲن الاتفاقيات الفرنسية - التونسية (أفريل – ماي 1955) إبّان مؤتمر باندونغ (أفريل 1955) قد تجاوزه الزمن اعتبارا للاتفاق الذي حصل بين رئيس الحكومة الفرنسية٬ المستقلّ «أنطوان بناي» Antoine Pinay و السلطان المغربي محمد الخامس يوم 6 نوفمبر 1955 «لفتح مفاوضات بين الطرفين تمكّن المغرب من الحصول على صفة دولة مستقلة مرتبطة بفرنسا ارتباطا حرّا» أي «التصريح بكلمة «الاستقلال» الساحرة التي لم تتضّمنها عمدا الاتفاقيات الفرنسية - التونسية».
ولم يكن المندوب السامي «روجي سيدو» في التقرير التلغرافي الذي أرسله إلى وزارة الإشراف يجامل الزعيم بورقيبة عندما اعتبر خطابه «من الخطب الأكثر اكتمالا في مسيرته السياسيّة...التي تزخر بالصّيغ الذّكية٬ المُوجِعٙة أو الدقيقة حسب الظروف٬ والمُسْهِبة في الطول رغم حالة إعياء الزعيم الذي أطلق العنان لأفكاره». فبقدر ما اجتهد الزعيم بورقيبة في إقناع المؤتمرين برجاحة خطّته النّضالية التحرّرية ونجاعتها٬ كان في الوقت نفسه يعمل على دحْض مقاربة خصْمه وغريمه الزعيم صالح بن يوسف. وصفوة القول إنّ مؤتمر صفاقس يبيّن أنّ الزعيم الحبيب بورقيبة يمتلك كافة مواصفات الزعامة من «كاريزما» وشغف بالقضية وشعور بالمسؤولية وبعد النظر الاستشرافي وقدرة فائقة على الإقناع باللسان والقلم وخاصة الشجاعة السياسية التي كانت تعوز الزعيم صالح بن يوسف إذ كتب المناضل الرشيد إدريس في مذكّراته وهو الذي لقّب معية رفاقه في جريدة « تونس الفتاة» سنة 1939 الزعيم بورقيبة بـ«المجاهد الأكبر» ما يلي: «فلو اتبع الأستاذ صالح بن يوسف ما أسْدِيٙ له من نصح من أصدقائه وإخوانه في الكفاح وضحّى بشيء من العناد والأنانية في سبيل الشعب و المبادئ العليا ولم يتبع الهوى ونصائح من ضلّله ويُضلّله ومن شجّعه أو يُشجّعه في هـذا السبيل الأعوج الذي يسير فيه٬ لو اتّبع سبيلا سويا في إصلاح الحزب والعمل من أجل استقلال البلاد٬ لكنّا جميعا يدا واحدة نتعاون في إطار الاتفاقيات أو خــارجها على تحقيــق أهداف البلاد ولكنه تعالى واستكبر أن يأخذ النصيحة التي أسديت له مرارا...».
محمّد لطفي الشّايبي
- اكتب تعليق
- تعليق