جائزة «نوبل» للسلام الرمزيّة والدلالة
الآن وقد تجاوزنا لحظات الفرح الذي غمر البيوت والقلوب في تونس بالتكريم الدولي الذي نالته بلادنا بعد إسناد جائزة «نوبل» للسلام للرباعي الراعي للحوار الوطني، قد يكون من المفيد أن نمعن النظر في ما تحمله هذه الجائزة في طياتها من قوّة الرمزيّة وعمق الدلالة في هذا الظرف بالذات وأن نحلّل بتأنّ وتبصّر انعكاساتها على واقعنا اليوم وغدا. فالجائزة، تكافىء، بقيمتها الاعتباريّة الكبرى، منهجا قويما في التفكير السياسي وتمشّيا صائبا في إدارة الشأن العام وتعاملا حكيما مع خصائص المرحلة الانتقاليّة في تونس، بما يكتنفها من مصاعب وتشيعه من آمال، وبما تقتضيه من تقدير للأولويات في تحديد الخيارات التي تؤمّن طريق المستقبل.
ففي الجائزة، أوّلا، رسالة مباركة لمنحى التوافق الذي نهجته القوى السياسيّة وأطراف فاعلة في المجتمع المدني، في أواخر سنة 2013، بالاحتكام إلى رباعي الحوار، لإيجاد مخرج للأزمة الخانقة التي كانت تعيشها البلاد آنذاك، ممّا جنّبها الانزلاق نحو الفتنة والاحتراب الداخلي، كما هي تشجيع للتونسيين ونخبهم، على مختلف مشاربهم السياسيّة وتوجّهاتهم الفكريّة، على المضيّ قدما على درب الحوار والوفاق لإيجاد الحلول المقبولة للمشاكل القائمة مهما كانت مستعصية.
ثمّ إنّ في الجائزة رهانا متواصلا على نجاح تجربة ديمقراطيّة وليدة وتعبيرا عن أمل وطيد في أن يكون الربيع التونسي مثالا رائدا يحتذى به في المنطقة العربيّة بخصوص تكريس التعدديّة السياسيّة وإرساء قواعد الحوكمة الرشيدة وضمان الحريّات العامّة واحترام حقوق الانسان وتجسيم مبادئ الكرامة والعدالة الإجتماعيّة.
ولا شكّ أنّ من الرسائل الهامّة التي نستقرؤها من خلال هذا التكريم تأكيد التضامن مع بلادنا في ما تواجهه من تحديّات متفاقمة، في ظل أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة ما زالت هشّة، فضلا عن طمأنة الرأي العام الوطني بأنّ تونس لن تسقط فريسة في يد الإرهاب وبأنّ الأمل قائم في أن يستعيد الاقتصاد عافيته، وتنهض السياحة من كبوتها بعد ما لحقها من أذى العمليات الإرهابيّة ويعود الاستثمار الداخلي والخارجي إلى سالف نشاطه.
وفي رسائل المساندة والتضامن والأمل هذه، الموجّهة إلى شعب أصابه الإحباط وغدا يشكّ في حاضره ومستقبله، ما يحفّز الحكومة والقوى السياسيّة والاجتماعيّة لانتهاز هذه الفرصة التاريخيّة من أجل انطلاقة جديدة للعمل الوطني في مختلف المناحي العامّة. ولعلّ من أوكد الأولويات الاستفادة من ترحيب المجموعة الدوليّة بمنح تونس هذه الجائزة لإعادة صياغة دورنا الديبلوماسي الذي تراجع في السنوات الأخيرة، دعما لمجهودنا الاقتصادي وتعزيزا لاشعاعنا إقليميّا ودوليّا، والعمل على جلب رؤوس الأموال الأجنبيّة تنشيطا لحركة الاستثمار والدخول في مرحلة تنفيذ برامج محدّدة ومرقّمة في سبيل تغيير جذري في قطاعات حيويّة مثل التشغيل والتعليم والصحّة والنقل والبنية الأساسيّة. إنّ الشعب التونسي الذي ضجر من الفوضى والتسيّب والاحتجاجات الاجتماعيّة وتدهور الأوضاع البيئيّة، والذي تعاني فئاته المهمّشة الفقر والبطالة والإقصاء ينتظر هبّة من سائر الأحزاب والأطراف السياسيّة والاجتماعيّة لتغيير حياته نحو الأفضل.
لقد سئم العديد من التونسيّين السياسة ومناوراتها وتجاذباتها وفقدوا الثقة في أهلها،وأصبحوا يعرضون عن متابعة الحوارات السياسيّة الصاخبة على شاشات القنوات التلفزيّة، متمنّين لو تتغلّب مصالح الوطن العليا على المصالح الشخصيّة والفئويّة الضيّقة ويثوب كلّ من اختار نهج المزايدة والقنص السياسي إلى رشده، بما يقي البلاد العثرات ويبعد عنها مخاطر الفرقة والانقسام.
لا جدال في أنّ جائزة «نوبل» للسلام تحمّل رباعي الحوار الوطني، ومن خلاله سائر القوى السياسيّة والاجتماعيّة في البلاد مسؤولية أخلاقيّة جسيمة تتمثّل في الحفاظ على ما غنمته تونس بفضل هذه الجائزة من رصيد ثقة وتقدير...
فهل سيتلو فرح الشعب التونسي بالجائزة فرحه بعودة الوعي إلى نخبه السياسيّة؟
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق