أدب وفنون - 2015.11.03

محمــــود‭ ‬السّهيـــلــي، شــاهـدا‭ ‬على‭ ‬العـصـــر

محمــــود‭ ‬السّهيـــلــي، شــاهـدا‭ ‬على‭ ‬العـصـــر

فقدت السّاحة الثّقافيّة التونسيّة والحركة التّشكيليّة بتونس بوفاة المرحوم محمود السّهيلي أحد أعلامها الأكثر تأثيرا في تاريخ الرّسم التّونسي خلال مسيرة جاوزت نصف قرن،أكسبت الفقيد مكانة هامّة في الذاكرة التّشكيلية التّونسيّة؛فقد حقّق منذ بداية السّتّينات منجزا ذا أهميّة كمّا ونوعا وأسهم بأعماله ومواقفه وآرائه في صياغة ملامح الحركة الفنّيّة،كما عرّف بالرّسم التّونسي في عديد المعارض والتّظاهرات بالخارج. ويعدّ الفنّان، إضافة إلى موقعه المتميّز من حركة الفنّ التّونسيّ الحديث والمعاصر منذ بداياته،عنصرا بارزا ضمن التّيار التّجديديّ الذي ظهر في السّتّينات من القرن الماضي؛ولم يكن إسهامه فيه بإبداعه كرسّام فقط بل بالدّعوة مع ثلّة من زملائه إلى تغيير المفاهيم الجماليّة وإيجاد وسائل عمل جديدة في الميدان الفنّيّ انتهت إلى تأسيس رواق «ارتسام» بالعاصمة في العام 1976.

 

ولد المرحوم محمود السّهيلي بتونس سنة 1931وبدأ مسيرته كرسّام وكأستاذ بعد العودة سنة 1960من الدّراسة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس إبّان مرحلة ظهرت فيها بوادر حركة تشكيليّة نشطة  شهدت نضج تجارب رسّامي مدرسة تونس أمثال جلال بن عبد الله وعبد العزيز القرجي والزّبير التّركي وعلي بن الآغا وغيرهموكنتيجة للثّراء الذي اكتسبته الحركة بفضل جهود هؤلاء ومن سبقهم من الرّوّاد الأوائل في نشر التذوق الفنّي، فقد ظهرت أفكار ورؤى جديدة حول الفنّ ووظائفه نادى بها جيل جديد من الرّسّامين ومن بينهم محمود السّهيليفكانت تلك الأفكار إعلان تمرّد على المفاهيم الجماليّة التي آمن بها سابقوهم، وبدأت الثّورة بطرح التّجريد كمنحى جماليّ يعارض التزام رسّامي مدرسة تونس بالمعالجة التّشخيصيّة للموضوع، وكان أبرز ممثّليه في تلك الفترة الهادي التّركي بممارسته للتّعبيريّة التّجريديّة، ونجيب بالخوجة الذي اتّجه، بعد مرحلة تأثّر فيها بالأساليب التّجريديّة العالميّة، إلى صيغ تأصيليّة، تستلهم البنية الشّكليّة والجماليّة للخطّ العربيّ والعمارة الإسلاميّة.وبينما كانت اتّجاهات التّجريد ترفض في جوهرها أيّ علاقة بتشخيص الأشياء، اختار السّهيلي الثّورة على التّشخيصية السّائدة من داخلها متّخذا موقعا وسطا بين إذابة المرئيّات تماما في مادّة الخطوط والألوان وبين تسجيلها والاحتفاء بها كصورة تشهد، إن قليلا أو كثيرا، على واقع ثقافي واجتماعي تقليديّ

تتأسّس رؤية السّهيلي الفنيّة على البحث، فيصيغ تشخيصية تنأى عن المحاكاة الأمينة للواقع، لتربط صلات متجدّدة به من خلال الإيحاء واللّمح في تصوير الشّخوص والوسط التي تعيش فيه بمعالجة مُجْمَلة ومختزلة. يبدو الموضوع، في أعماله، مجرّد ذريعة لحركة الرّسّام الحرّة في تعاطيها مع الخامات اللّونيّة وفق تعبير ذاتيّ ينزع إلى تأويل الواقع أكثر من تسجيله. وقد لازمته تلك الرؤية العامّة طوال مسيرته الفنيّة الطّويلة في مختلف مراحلها بدءا بتجاربه الأولى في ما اصطلح عيه بـ«مرحلة جربة»، حيث اعتمد أسلوبه في تصوير الحياة اليومية بالجزيرة آنذاك درجاتٍ لونيّة محدودة كالأسود والبنيّ والرّماديّ والأبيض، ضمن تكوينات محكمة البناء قوامها حركات فرشاة عريضة لا تخلو مادتّها الدّسمة من تعبيريّة صارمة. وفي أواخر السّتّينات انتقل السّهيلي إلى التّعبير من خلال كتل أو لطخات توحي بالموضوع في طرح انفعاليّ لا يكاد يحفظ للأشكال هويّتها، وقد يكون تأثّر في ذلك بالمدّ التّجريدي الذي بات مسيطرا على التّجارب الجديدة؛ ويُذكر من منجزات تلك المرحلة معرضه الكبير في القاعة البلدية للفنون سنة 1967، الذي اشتمل على أعمال قدّمها حسب موضوعات مختلفة مثل «مرايا» و«زياتين» و«الفصول الأربعة».

وفي‭ ‬بداية‭ ‬السّبعينات،‭ ‬طرأ‭ ‬تطوّر‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬السّهيلي‭ ‬أعاده‭ ‬إلى‭ ‬تشخيصيّة‭ ‬تقترب‭ ‬مجدّدا،‭ ‬وإن‭  ‬بحذر،‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬حيث‭ ‬بات‭ ‬يولي‭ ‬كلّ‭ ‬الاهتمام‭ ‬للإيقاعات‭ ‬والكتل‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التّفاصيل‭ ‬في‭ ‬تكوينات‭ ‬عريضة‭ ‬يسيطر‭ ‬فيها‭ ‬البنيّ‭ ‬والأسود‭ ‬مع‭ ‬لمسات‭ ‬من‭ ‬الأحمر‭. ‬وظلّ‭ ‬ذاك‭ ‬ديدنه‭ ‬طيلة‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬معارض‭ ‬استوحت‭ ‬مواضيعها‭ ‬من‭ ‬أسفار‭ ‬قادته‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر‭ (‬1972‭) ‬والسّودان‭ (‬1978‭) ‬والمغرب‭ (‬1984‭). ‬وقد‭ ‬تميّز‭ ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بالابتعاد‭ ‬عن‭ ‬التكوينات‭ ‬المحكمة‭ ‬والتعبيريّة‭ ‬الحادّة،‭ ‬واعتماد‭ ‬غنائيّة‭ ‬تميل‭ ‬باللّون‭ ‬إلى‭ ‬مرونة‭ ‬وشفافية‭ ‬تقتربان‭ ‬من‭ ‬تقنيّة‭ ‬الألوان‭ ‬المائيّة‭.‬

وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬المرحوم‭ ‬محمود‭ ‬السّهيلي‭ ‬ومن‭ ‬تميّز‭ ‬مثله‭ ‬من‭ ‬الفنّانين،‭ ‬خلال‭ ‬مسيرة‭ ‬الفنّ‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬بداياتها،‭ ‬قد‭ ‬خاضوا،‭ ‬حسب‭ ‬إمكاناتهم‭ ‬وفي‭ ‬ظلّ‭ ‬ظروف‭ ‬متقلّبة،‭ ‬تجربة‭ ‬تأسيسيّة‭ ‬رائدة‭ ‬في‭ ‬الثّقافة‭ ‬التّونسيّة،‭ ‬ويحسب‭ ‬لهم‭ ‬أنّهم‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬الوجدان‭ ‬التّونسيّ‭ ‬على‭ ‬الحداثة‭. ‬ورغم‭ ‬الوهن‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يعتري‭ ‬الذّاكرة‭ ‬أحيانا‭ ‬ورغم‭ ‬غبار‭ ‬الأيّام‭ ‬الذي‭ ‬يحيل‭ ‬الألوان‭ ‬ويطمس‭ ‬الملامح،‭ ‬فإنّ‭ ‬اسمه‭ ‬وأسماء‭ ‬أخرى‭ ‬معروفة‭ ‬بمنجزها‭ ‬المميّز،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ترسل‭ ‬بريقا‭ ‬يخترق‭ ‬السّديم‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يلفّ‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬ما‭ ‬الذّاكرة‭ ‬الجماعيّة‭. ‬وغير‭ ‬كاف‭ ‬أن‭ ‬تُذكر‭ ‬تلك‭ ‬الأسماء‭ ‬أحيانا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مبتسر‭ ‬أو‭ ‬مغرق‭ ‬في‭ ‬العموميّة‭ ‬لنوفيها‭ ‬حقّها؛فالمهمّ‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬نغفل‭ ‬عن‭ ‬إضافاتها‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬وعن‭ ‬ذكر‭ ‬منعرجات‭ ‬مسيراتها‭ ‬الحاسمة‭ ‬التي‭ ‬تربطها‭ ‬بعصرها‭ ‬ومحيطها‭ ‬الثّقافيّ،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬كان‭ ‬محمود‭ ‬السّهيلي‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬عصره‭ ‬ومشاركا‭ ‬فاعلا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬التّاريخ‭ ‬الثّقافي‭ ‬التّونسي‭ ‬كرسّام‭ ‬وكأستاذ‭ ‬تخرّج‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الفنّانين‭ ‬تأثر‭ ‬الكثيرون‭ ‬منهم‭ ‬بفنّه‭.‬

 

علي اللواتي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.