يحيي التونسيون و التونسيات، يوم 15 اكتوبر 2015 ، الذكرى الثانية و الخمسين للجلاء العسكري الفرنسي عن آخر قاعدة حربيّة بحريّة استعماريّة بالبلاد التونسية و مازالت تتملّكهم رغبة ملحّة في معرفة حقيقة ما حَصُلَ. و تتزايد هذه الرغبة لدى الذين ساورهم الشكّ، وهم قلّة، فاعتبروا معركة بنزرت، التي جرت من 19 إلى 22 جويلية 1961 مرتجلة بل عديمة الجدوى و غير ضرورية، اعتمادا على ما دوّنه الجنرال ديغول٬رئيس الجمهورية الفرنسية في مذكّراته بخصوص اللقاء الذي جمعه بالزعيم الحبيب بورقيبة٬رئيس الجمهورية التونسية ب «رونبيي (Rambouillet) » بفرنسا في 27 فيفري 1961 و الذي سرّب مبدأ التخلّ المنتظر عن القاعد حال حصول فرنسا على سلاحها النووي، في حين يراها البعض الآخر٬وهم كثر٬حتميّة و مفروضة لكونها تجسّم صراعا خفيّا٬سياسيّا بين شخصيّتين تاريخيّتين وطنيّتين.
كانت تحرّك كلاّ من بورقيبة و ديغول «فكرة كبيرة حول بلده» بل تدفعهما دفعا٬ تزامنا مع لحظة حرجة في تاريخ البلدين المتنازعين اللّذين عصفت بهما سرعة تحوّلات حركة تصفية الاستعمار في خمسينيات القرن الماضي، و نعني استكمال السيادة الوطنية بالنسبة إلى الزعيم بورقيبة و معالجة معضلة الحضور الاستعماري الفرنسي بالجزائر بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي.
حارس يقظ
و في هذا السياق، وجب التذكير بأنّ انتصاب الحماية الفرنسية بتونس سنة 1881 و إنهاء حضورها سنة 1956 كان مرتبطا ارتباطا شبه عضوي بطبيعة الاحتلال الاستعماري الفرنسي للجزائر (إلحاقها بالتراب الفرنسي سنة 1848 و تحويلها إلى مقاطعة فرنسية و نعتها بالجزائر الفرنسية و فرنسا الإفريقية). و يكْفي أن نشير أوّلا إلى ما ورد بصريح العبارة في الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الفرنسية «ليون قمباطا Léon Gambetta «14 (نوفمبر 1881 – 26 جانفي 1882) بمجلس النواب الفرنسي يوم 1 ديسمبر 1881 حول تطوّر المسألة التونسية، حيث أكّد ما يلي: «إنّ لفرنسا مصلحة في وضع حارس على البوّابة الشرقيّة لممتلكتها الإفريقيّة الكبرى (أي الجزائر)، يكون بوّابا يقظا (أي الحضور الفرنسي بتونس الذي جسّمته معاهدة الحماية) "كما تجدر الاشارة كذلك الى ما جاء عن لسان رفيقه الجمهوري "جول فيري Jules Ferry" و هو بصدد القيام بفسحة ببحيرة بنزرت يوم 23 أفريل 1887 : حيث قال «إنّ هذه البحيرة تساوي بمفردها امتلاك تونس برمّتها »
أجل٬ أيّها السّادة٬ إنّ أحكمت قبضتي على تونس لكي أظفر ببنزرت »، مبيّنا «أنّ سياسة فرنسا الاستعماريّة٬ تلك التي حملتنا في عهد الامبراطورية (الثانية 1852 – 1870) إلى سايغون بالهند الصينية و التي حملتنا إلى تونس و إلى مدغشغر٬ هي مستوحاة من حقيقة لا بدّ من الانتباه إليها، أي ماعناه أنّ قوة بحرية مثل التي نملكها لا يمكن لها الاستغناء عن مرافئ على امتداد البحار ٬ من ملاجئ دفاعية متينة و مراكز إمداد...انظروا إلى خريطة العالم و اخبروني إن كانت محطّات الهند الصينية ومدغشغر وتونس ليست محطّات ضروريّة لتأمين ملاحتنا...».
مصير بنزرت مرتبط بالحضور الفرنسي في الجزائر
إنّ ما سبق ذكره يقيم دليلا ساطعا على ارتباط مصير الحضور الاستعماري الفرنسي ببنزرت بمصير حضوره في الجزائر٬ ذلك البعد الذي أبرزه المؤرخ الفرنسي «شارل أندري جوليان (Charles-André Julien) بلباقته المعهودة: «إنّ المسألة التونسيّة عبارة على خصلة من الخيوط السياسيّة و الديبلوماسيّة و الماليّة وجب تسريحها. لا غرو أنّ الأعمال تحتل مكانا كبيرا و لكن كان هناك من الجانبين ردود فعل اعتبرها انفعاليّة لا يمكن تجاهلها ».
و علاوة على تداخل العوامل الجغرافيّة و السياسيّة و الإستراتيجيّة مع تلازم الحضورين الاستعماريّين الفرنسيّين بالجزائر و بنزرت، ينبغي ان نشير الى ان طبيعة الحكم القائم إبّان عمليّة الاحتلال بالنسبة الى البلدين بداية من 1830 و 1881 كانت تختلف عن طبيعة الحكم زمن التفاوض مع الحركتين التونسيّة و الجزائريّة من أجل الاستقلال بداية من 1954 و 1961. ففي فترة الاحتلال٬ تتحمّل الجمهورية الثانية (1848 – 1852) و الجمهورية الثالثة (1870 – 1940) اللّتين كان لهما سند ماسوني كامل المسؤوليّة في قمع الأهالي و السيطرة على البلاد الرافضة لشعار
«واجب تمدين الأعراق العليا (المتحضّرة) للأعراق السفلى (المتخلّفة)». و يكفي هنا أن نذكّر بأفعال المارشال Bugeaud الشنيعة الذي أعطى الأمر بحرق أفراد القبائل المحتمية بالمغاور (18 جوان 1845) في غرب الجزائر، بينما أشرفت الجمهورية الرابعة (1946 – 1958) على عمليّة التفاوض مع الحركة الوطنيّة التونسيّة تحت ضغط المقاومة. و قد أفضى ذلك الى الاستقلال المرحلي و كان للجمهورية الخامسة في عهد رئاسة الجنرال ديغول (1958 – 1969) دور أساسي و فاعل في الاعتراف بحقّ الشعب الجزائري في الاستقلال الذي توّج تضحياته الجسيمة إثر ثورة وطنية عارمة دامت سبع سنوات (1954 – 1962).
بورقيبة خبر الساسة الفرنسيين
إنّ الزعيم الحبيب بورقيبة الذي تتوفّر فيه «الخصال الأساسية للرجل السياسي الحقيقي» كما ضبطها عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبير» (Max Weber) و هي «الشغف بالقضيّة و الشعور بالمسؤوليّة و النظرة الاستشرافيّة» كان ملمّاً بخلفيّات الخصم الاستعماري التاريخيّة، فقد استطاع أن يميّز بين ساسة الجمهوريتين الثالثة و الرابعة المتمسّكِين بإيجابيّة الرّسالة الحضارية الفرنسية في المُستعمرات و السّاعين إلى ديُْمومتها و الذين سبر مماطلاتهم و جابهُهم بالحيلة و التظاهر بقبول حلولهم المنقوصة، و هؤلاء الساسة هم بيار منداس فرانس ("Pierre-Mendès-France) و إدغار فور (Edgar Faure) و غي موللي (Guy Moll) ريثما يقتلع منهم لاحقا بل و تدريجيّا مقوّمات السيادة الوطنيّة و بين الجنرال دي غول «العسكري الوطني الكاثوليكي». عرف بورقيبة الكثير عن هذا الرجل عن طريق الصحفي المناهض للاستعمار روجي ستيفان (Roger Stéphane) و كان يعلم ايضا ما يكنّه السيناتور جون كيندي (John Kennedy) الذي سيصبح لاحقا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من مشاعر التقدير و الثقة للجنرال دي غول و ما يبديه من حرص على إخراج فرنسا من «المأزق الجزائري».
و ممّاً يزيد في رجاحة الموقف القائل بأنّ الزعيم بورقيبة اختار لقاء «رونبيي» عن بيّنة الاستعداد لبداية المحادثات السرّية بين الوفدين الفرنسي و الجزائري بنوشتال (Neuchâtel) بسويسرا / فيفري – مارس 1961 (لتجديد طلبه بتحديد موعد لجلاء البحرية الفرنسية عن قاعدة بنزرت بعد أن اقترح سابقا مقايضة مواصلة الحضور الفرنسي في بنزرت بحصول الجزائر على استقلالها في 17 فيفري 1959. و إزاء الردّ المبهم الذي صدر عن ديغول٬ أثار الزعيم بورقيبة قضّية إعادة رسم الحدود الصحراوية التونسيّة-الجزائرية بما يمكّن الطرف التونسي من استغلال الثروة النفطية الراجعة له بالنظر. و مُنِيَ طلبه بالرفض الفرنسي و الجزائري معا.
لقاء لم يبح بكلّ أسراره
لا يزال لقاء «رونبيي» لم يبح بكل اسراره بخصوص ما جرى من حديث و نقاش مطوّل بين الرئيسين التونسي و الفرنسي الذّي تمّ على انفراد و دام بين اربع و خمس ساعات. و من خلال القراءات المتقاطعة لشهادات الصحفيّين الفرنسيّين «جون دانيال» (Jean Daniel) و «جون لاكتور» (Jean Lacouture) و المعلومات التي حصل عليها الوزراء أعضاد الرئيس التونسي (الباهي الأدغم و محمد المصمودي و الحبيب بورقيبة الإبن ثم لاحقا الباجي قايد السبسي)، اضافة الى المعلومات المتوفّرة لدى الوزراء أعضاد الرئيس الفرنسي («كوف دي مرفيل» (Couve de Murville) و «آلان برفيت» (Alain Peyrefitte) و «ميشال دوبري» (Michel Debré) و بتفحّص تصريحات الجنرال ديغول خلال ندواته الصحفية إثر معركة بنزرت و مقارنتها بما جاء في مذكّراته المنشورة، نستنتج بما لا يدع مجالا للشك أنّ الجنرال ديغول استضعف الرئيس بورقيبة و شعبه و يبدو أنّ اصرار بورقيبة على الدفاع عن مصالح بلده و استكمال سيادة دولته قابله عناد ديغول في التشبّث بأحد مظاهر عظمة الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية) قواعدها البحرية كما نظّر لها
«جول فيري.» و يجوز القول إنّ خطأ الرئيس الحبيب بورقيبة الوحيد يكمن في نظرنا في سوء تقديره لمدى حدّة عنف و وحْشيّة الردّ الفرنسي الذي تمثّل في الاذن للفيف العسكري باستباحة دماء جموع المتطوّعين العزّل و نواة جيش وطني باسل مازال وليدا آنذاك. و من هذه الزاوية٬ كانت معركة بنزرت ضروريّة جسّدت المعركة الأخيرة لاجتثاث الاستعمار العسكري و ستظل ذكراها خالدة الى الابد، باعتبارها من الاحداث البارزة في تاريخ تونس.
محمّد لطفي الشّايبي