حدّثني صديقي العياش، وهو مواطن زوالي، حاله مثل حالي، يسير في الحياة خطوة القدّام وعشرة لتالي، قال: مرّت عليّ أشهر صعبة، أكلت فيها الرعبة وراء الرعبة، وغرقت ميزانيتي فوق الركبة، حتى صرت أمشي كالمجنون، ولا أعرف أحيانا من أكون. وقد بدأ الطوفان بحلول شهر رمضان، وهو شهر مبارك، لكنه مع الجيوب متعارك، ففيه تتفتح العيون على شهوات البطون، وشهوة الصائم مثل حكم السلاطين، طاعتها واجبة وأمرها نافذ في الحين. وبما أن العيون في أسرتي الكريمة كلها محلولة، ولأن لكل واحد منّا رغباته وميوله، فإن قفة رمضان تولّ قفتين، ولّي تاكلو الكرش أقل برشة ملّي تاكلو العين، بحيث (كيف ما يقول هاك الراجل) ما يعود لكميون البلدية أكثر بكثير مما تنتفع به أبداننا الزكية. ولا تسل في آخر هذا الشهر عن جيبي وجيوب الناس، فكلها-كما قال الشاعر حسين الجزيري، «مخرومة من الإفلاس».
ثم جاء العيد الصغير، وهو -على عكس اسمه-مفترس كبير، فمه مفتوح للحلويات، وشعاره: «هات! هات! »، لا يهمه إن خرجت من رمضان، زبنطوط عريان، أو كانت تنتظرك عودة مدرسية في الإبان. وهو يحرّض عليك الأطفال، هذا يريد كسوة ولاخر يطلب سروال، وكلهم لا يرضون بالمستورد بديلا، فلا يبقى إلا أن تصبر صبرا جميلا، وتهزّ إيديك لربي، منشدا مع المتنبي:
عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيك «تهديد»؟
ودون تمكيني من استراحة المحارب، قدم بعد العيد موسم الأعراس وأخرج المخالب، فلا بد من كذا روبة للمادام والبنات، لأن ما يلبس في هذا العرس أو ذاك يلقى بعد ذلك في سلة المهملات. ثم لا بد للعرسان من استضافة وهدية، تتراوح بين آلة كهرومنزلية وتلفزة جدارية، إن لم تكن زربية قروية... وهكذا في بلادنا الأعراس: العروس يعرّس والمشوم يتهرّس، وقد سقط على رأسي في هذا الصيف كم مرة المهراس. وما إن نزل الستار على مسلسل العروسات، حتى أقبل موسم العودة إلى المدارس والكليات. و دون أن يترك لي ترجيعة نفس، من حينو نزل ع الفلس، مطالبا على لسان الأولاد (وما باليد حيلة)، بالكرطابة و الكرارس والكتب و المنديلة. وما أكثر الكتب في تعليمنا المصواب، فما بقى إلا الرياضة ماعملولهاش كتاب! ومساكن أولادي وأولادكم، الكرطابة هدّتلهم أكتافهم، ولا تسأل عن سلسول الظهر، فقد تقوّس قبل الكبر! أما نحن الأولياء فالضربة جاتنا في السطوش، نصرفو على أولادنا وشوف ينجحو شوف ما ينجحوش. ويذا نجحوا زعمة يلقاو خدم، وإلا يشدو الحيط ويقعدو فم؟ ولم أكد أخرج رأسي من الماء، حتى نزل علي سيل هاطل من السماء، إذ قدم العيد الكبير و كبشه، وتوابعه و دبشه، من خضر و مشروبات وتوابل، وأواني من نحاس القيروان و فخار نابل. وكبشنا في هذا العام عليليش، لكنو عامل سوري وساقيه بالريش. فقد اغتنم غياب العلوش الروماني، وزميله الإسباني، ليصول في الأسواق ويجول، و يفرض على الشاري أسواما فاقت المعقول. وإزاء هذه الاسعار الخيالية، هددت بمقاطعة الضحية، طبعا بسبب «عجز الميزانية»، كما يقولون في التقارير الاقتصادية، ولكن كذلك بحجة الحفاظ على الثروة الحيوانية.
لكن تهديدي طلع فشوش، أمام تمسك الأولاد وأمهم بالعلوش، فاضطررت إلى تراجع تكتيكي محدود، كما تفعل الجيوش المهزومة على الحدود. والحقّ أقول يارجال، لم يكن إقناعي بالتراجع صعب المنال. فعيد الأضحى (ما بيناتنا) ينحّي لي شبعة م الزهومة، هبرة وكستيليات ولحمة الكرومة، وهيّ مرة وحدة في العام، ولّي مات بشبعة (و بفلسة) لا قام. لذلك «أتسبب» كل عيد بالأولاد والحرم المصون، وأشتري العلوش ولو بالمليون، وعلى رأي امرئ القيس (الله يرحم فمو): «اليوم كبش وغدا أمر». لكنني لما نفضت محفظتي وجيب سروالي، غيرت في الحين موالي، وأخذت أغني مثل أطفالي:
أهلا بكبش العيد ونطحه الشديد
جاء ليذبحني بمدية الحديد
وقد تقولون: «إيه، وماذا بعد العيد؟». هذا حقا سؤال سديد، لكنكم تعرفون مثلي جوابه بالتأكيد، إن كنتم من أصحاب الشهرية التي تنقص ولا تزيد: حساب في الروج، والقلب ممروج، ديون وشيكات، وشبعة كمبيالات، ولكلو جرة التسهيلات! لكن هل لمواطن عياش مثلي محدود الإمكانيات، حل آخر غير التسهيلات؟ فلولاها لهججت من البلاد، أو بعت نفسي في المزاد، لكن من سيشتري مثل هذا المخلوق، وهو لا يصلح لا للسوق و لا للصندوق؟
عادل الأحمر