هل مازال الأنموذج التونسي ناجحا؟
يفترض الانكبابُ على حل المُعضلات التي تفاقمت بعد الثورة (الفساد، البطالة، تآكل الفئة الوسطى، التفاوت الجهوي...) وجودَ مشروع متكامل الأبعاد لدى صُنّاع القرار، على تنوّع منابعهم ومساراتهم، وهو ما يستوجب، بدوره، رؤيةً سياسية مُوحدة تُجسد ذلك المشروع. لكن الطبيعة الائتلافية للحكومة، وما ينتج عنها من تناقضات واشتباكات شبه دائمة تجعل غياب الوحدة في المستوى الأعلى ينعكس بالسلب في المستويات الأخرى. وهكذا انعكس الصراع بين رؤية ليبرالية وأخرى أكثر ليبرالية شكلاً على صعيد القرارات الاقتصادية، في وقت كثفت فيه المؤسسات المالية الدولية من ضغوطها على تونس، لاتخاذ إجراءات لم يعُد منها بُدٌ، رغم أن مضمونها قابلٌ للنقاش، بل يجب التفاوض في شأنه باستماتة حفاظا على استقلال القرارالوطني.
بهذا المعنى أصبح الهاجسُ الأول للكيانات السياسية المُتآلفة في الحكم هو المحافظة على الخيمة المُشتركة، بدلا من وحدة الرؤية، وهي خيمة نقلت الجغرفيا البرلمانية (تقريبا) إلى السلطة التنفيذية بناء على مبدإ تقاسم الفيء الانتخابي، وليس على قاعدة التشارك في المشروع.
صحيح أن ثمار الثورات لا تينع إلا بعد حين، لكن عندما نرى أن بلادنا أصبحت في مقدمة الترتيب بين الدول الأكثر فسادا، وأن نسبة العجز في الميزانية تتفاقم وحجم المديونية يرتفع والبطالة تتمدّد، وأن المداخيل الجبائية للدولة (التي تشكل 62 في المئة من مواردها) في تناقص، في مقابل ارتفاع أعباء صندوق التعويض، التي تجاوزت عتبة 200 4 مليون دينار، فضلا عن الانجراف المُتسارع للفئة الوسطى، نُدرك مثقال القفزة التي قطعناها... إلى الوراء.
وهذا يستدعي من النُّخب، وبالدرجة الأولى الجماعات الحاكمة، برنامج إنقاذ اقتصادي واجتماعي لا يستشرف «تونس عام »2030 (بناء على تخمينات؟) وإنما تونس 2020 ، باعتبارنا نملك بعض المُعطيات الواضحة (نسبيا)عن الأمدين المنظور والمتوسط. والثابت اليوم أن الوضع الاقتصادي، كما السياسي، ليسا على ما يُرام، فهل من الطبيعي أن يُضطر البنك المركزي، نتيجة شح السيولة في البنوك، إلى ضخ أكثر من 000 5 مليون دينار في شرايين البنوك، بسبب عجزها عن الالتجاء إلى الاقتراض من السوق الخارجية، بعد تدهور ترقيم تونس السيادي؟
وهل من الطبيعي أيضا أن صندوق النقد الدولي قدّر، في ضوء دراسته لأوضاع البنوك الوطنية بعد الثورة، أن الجهاز البنكي سيحتاج إلى ضخ أموال إضافية تُعادل 2،1 مليار دولار، أي 5 في المائة من الناتج الوطني الخام؟
مع ذلك مازالت الحكومة لم تحسم خياراتها في شأن إعادة هيكلة البنوك العمومية الثلاثة (وهي تمثّل 37 في المئة من مُجمل جهازنا البنكي) التي تترنّحُ تحت وطأة القروض «المُتعثرة »، وهي عبارة مُهذّبة يُقصد بها في غالب الحالات الاستيلاءُ على المال العام.
وبما أن الحاشية السابقة والمُتنفّذين كانوا يعتبرون البنوك العمومية الحائط القصير، بوصفها «رزق بيليك »، نجدُ اليوم أن هذه البنوك تستأثر ب80 في المائة من القروض «المتعثرة». ونلمحُ التشخيص نفسه في المضمار السياسي، فعدا النجاح النسبي في المعركة مع الارهاب، طغى التجاذب والمُغالبة على مشروع «المُصالحة» التي رأى فيها بعضُهم «مَطهرة » لغسل الذنوب بأزهد التكاليف، خصوصا بعدما اتخذ كبار رموز الفساد من الانتخابات الأخيرة حمّاماً يسمح بارتداء ثوب جديد، مع التخلص من الملفات الثقيلة التي يُفترضُ أنها مازالت مُعلقة.
من هنا تغدو المحاسبة ضرورة اقتصادية وسياسية في آن معًا قبل طي الصفحة، فبذلك لا نُرسي العدالة فحسب، وإنما نردعُ أيضا الاستباحة المتزايدة للملك العمومي وثقافة الأنانية التي استشرت في مفاصل المجتمع. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى مثل هذه القيم من أجل تحقيق المشاركة الواسعة في وضع الخيارات، والقطع مع التفرد بالرأي والقرار.
وهذا يُحيلنا إلى دور المدرسة والجامعة في بناء جيل جديد من المواطنين، لكن هذا مَبحثٌ آخر.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق