الأستاذة راضية القسطلّي: رائدة تحــليـــل البصمــة الـوراثــيــة بـواسطة الحمـض النـووي في تــونس
لعبت المرأة التونسية عبر التاريخ أدوارا هـــامّة في بناء تــونس. ويخلّد التـاريخ منــذ عهــــد عليسة (221 ق م) إنجازات عـــزيزة عثمانة وبشيرة بن مراد رائدة الحركة النسائية في تونس، وتوحيدة بن الشيخ أوّل طبيبة عربية تونسية 1936، وغيرهنّ من النساء اللاتي قدّمن جليل الخدمات للبلاد. واليوم لنا أن نضيف إلى القائمة رائدة في مجالها ، البيولوجيا، وهي أوّل من أدخل تحليل البصمة الوراثية بواسطة الحمض النووي في تونس ضمن التحاليل البيولوجية. وهذه المرأة الرائدة في مجال اختصاصها هي الصيدلية والبيولوجية الأستاذة راضية القسطلّي.
من هي؟
تحدثنا الأستاذة راضية القسطلّي عن نفسها فتقول إنّها تكوّنت في كلية الصيدلة وفي معهد باستور بباريس أيضا وفي المستشفيات الفرنسية واختارت العودة إلى تونس سنة 1971 بعد انتهاء تكوينها رغم العروض التي تلقّتها للبقاء في فرنسا وهدفها خدمة الوطن. انطلقت في العمل في معهد باستور بتونس وتركت بصمتها هناك بعملها وبالجديد الذي أضافته.كانت مهّتمة خاصّة بأمراض تخثّر الدّم فبعثت أوّل مخبر لأمراض تخثّر الدّم يقوم بكلّ التّحاليل التي كانت ترسل من قبل لفرنسا ويقدّم خدماته لكلّ المرضى بكامل تراب الجمهورية. ثمّ أنشأت مخبرا آخر لأمراض فقر الدم واكتشفت في بحوثها أصنافا لمرض فقر الدم حسب الجهات مثل تونس وصفاقس وجندوبة. وهمّها دائما حسب تعبيرها خدمة تونس والرّفع من صيتها ومكانتها وإثبات قدرة أبنائها على مواكبة التطوّر. وفي سنة 1980 انتقلت للعمل في مستشفى الحبيب ثامر بالعاصمة رئيسة لقسم التحاليل الطبية . وكانت تتعامل في إطار عملها مع الشرطة الفنية. وكان التّعامل في البداية يتعلّق فقط بمعرفة فصيلة الدم للعيّنات التي تقدّمها لها الشرطة العدلية والشرطة الفنية والعلمية والتّأكد من أنّ العيّنة لإنسان وليست لحيوان. لاحظت الأستاذة القسطلّي أنّ تلك التحاليل المطلوبة آنذاك لا تعطي نتائج دقيقة وحاسمة وتزامن ذلك مع بداية استعمال البصمة الوراثية باعتماد الحمض النووي ADN في فرنسا سنة 1996. وبما أنّها كانت مطّلعة على التقنيات الجديدة ولمزيد التعمّق سافرت إلى فرنسا سنة 1997 لتلقّي تكوين في مخبر مختصّ في مدينة نانت. وبعد عودتها ورغم عدم توفّر التجهيزات الضرورية بعد في المخبر طوّرت بنفسها طريقة يدوية لتحليل البصمة الوراثية استعملتها حتّى سنة 1999 وأعطت نتائج ساعدت التحقيقات. وفي سنة 2000 اقتنت تجهيزات جديدة لمخبر التحاليل الطبية بالمستشفى وكان لها الفضل في شراء آلة الكشف عن ADN ضمن تلك التجهيزات (séquenceur d’ADN).
وتؤكّد الأستــــاذة القسطلّي أنّهـــا تطوّعت لمساعــدة وزارة الداخلية (الشرطة الفنية والعلمية) حبّا لتونس لتكون ضمن الدّول المتقدمة في هذا المجال رغم وجود معارضة آنذاك من بعض الأطراف . وتشدّد على أنّها تحدّت كلّ الصعوبات من أجل إنجاح هذا المخبر وساعدها في ذلك حبّ رجال الشرطة الفنية لعملهم وتفانيهم فيه وخاصّة السادة عبد الوهاب السباعي وجمال بن سلامة وشهير قديّم ولطفي العبيدي، والذين كانوا يقضون معها ليالي بيضاء في مباشرة بعض القضايا . وتقول إنّ المهمّ لديها هو أن يكون لتونس مخبر ADN ونجحت في ذلك وبدأ المخبر بالعمل لفائدة وزارة الداخلية ولفائدة التّحقيق الخاصّ بوزارة العدل وأعدّ المخبر تحاليل في قضايا مثل القتل والاغتصاب وإثبات النّسب. وكانت الأستاذة القسطلّي تقتصد في المادة الفعّالة غالية الثمن والمستوردة من الخارج والضرورية للتحليل والتي تستعمل كميّتها لكشف 200 حالة فطوّعت نفس الكميّة لتكشف عن 600 حالة. ونظرا لتفانيها في العمل وجديتها كرّمتها وزارة الداخلية اعترافا بفضلها على الشرطة الفنية والعلمية التي أصبحت اليوم تقوم بكلّ تحاليلها الجينية في مخابرها بصورة مستقلّة وطوّرتها وأضافت إليها الكثير. وقبل الإحالة على التقاعد كوّنت الأستاذة راضية القسطلّي سنة 2010 عديد الإطارات في الشرطة الفنية والعلمية إضافة إلى بعض الفنيين في مخبرها بالمستشفى لتنقل خبرتها إليهم حفاظا على تواصل العمل مع تواصل الأجيال وليحملوا المشعل بعدها، وهو ما تمّ فعلا.
إنجازات رائدة أخرى
في سنة 1975 أنشأت مخبرا لفائدة عمليات زرع الأعضاء يتكفّل بالقيام بتحليل أساسي قبل الزرّع وهو تحليل التعرّف على الخصائص الفردية للمريض للتأكّد من تطابقها مع خصائص العضو الذي سيزرع HLA.
ومن الإنجازات الأخرى المميّزة للأستاذة القسطلّي بعثها مخبر ADN للخيول في مستشفى الحبيب ثامر أيضا في إطار التعاون مع المؤسسة الوطنية لتحسين وتجويد الخيول وتمكّنت من تصنيف آلاف الخيول الأصيلة العربية والإنقليزية وأصبح لكلّ جواد بطاقة تعرّف به وتحمل سيماته الجينية . وبهذا وفّرت المؤسّسة الأموال الضّخمة التي كانت تصرفها لمعرفة فقط فصيلة دم الخيول في الخارج. وحول مصدر مرض السيدا في تونس أخضعت الأستاذة راضية القسطلّي عيّنات من المخنثّين (حوالي 600 حالة) ومن متعاطيات البغاء (حوالي 60 حالة) للتحليل وتبيّن خلاء تلك العيّنات من مرض السيدا لكن في تحليل عيّنات من بعض المرضى الذين يحتاجون إلى مكوّنات الدم المساعدة على التخثّر والتي تستورد من أوروبا مثل الذين يعانون من اضطراب في تخثّر الدّم أو من لديهم أمراض وراثيّة تبين أنّ 60 بالمئة منهم مصابون بالسيدا لذلك طلبت وقف استيراد تلك المكوّنات من الخارج وتمّ ذلك فعلا وأعدّت لهم ذلك محليا.
فتح القبور
وعمّا علق بذهنها من قضايا أو أعمال قامت بها أشارت إلى أنّ عملية نزولها إلى القبور بحثا عن الأدلّة في عدّة قضايا تبقى دائما راسخة في الذاكرة حتّى بلغ عددها 17 قبرا في قضايا مختلفة في سنة واحدة .وذكرت في هذا الإطار بعض القضايا منها قضيّة تتعلّق بعاملة لدى فلاح في ماطر ادّعت بعد وفاته أنّه والد ابنتها التي كان عمرها آنذاك 17 سنة حتّى ترث مع أبنائه وبعد سنة من وفاة الفلاح ولإثبات النّسب تمّ فتح القبر في المساء ولأوّل مرّة تتأثّر بهذا الظّرف. وتتعلّق القضية الثانية (ما بين 2007 و2008) بوفاة جنين في الشهر السابع لزوجين من السويد قدما إلى تونس للسياحة وطلب الأب الإبقاء على الجنين في غرفة الأموات في انتظار إتمام إجراءات تسفيره إلى السويد ودفنه هناك. إلاّ أنّه في إطار إجراء روتيني تمّ دفن جماعي لـ 17 جنينا ميّتا من أعمار مختلفة في مقبرة الجلاز وقد دفن الجنين السويدي معهم خطأ واكتشف ذلك عندما أرسل الأب لاستلام الجنين. فطلبنا ADN الأب والأم من السويد وتمّ فتح القبر واستخراج كل الأجنّة منه وبالتحليل تمّ التعرّف على بقايا الجنين البنت وأرسلت إلى والديها مع تقرير طبي مفصّل ورغم محاولة التشويش على هذه العملية من طرف الصحافة السويدية على ما يبدو بدفع من شركة تأمين باعتبار أنّ بقايا الجنين المرسل هو لذكر وليس لأنثى إلا أن دقّة ووضوح التحاليل وصدقها جعلتهم يتراجعون.
أمّا القضية الثالثة فحدثت في آخر سنة 2010 في بومهل عندما خرج صديقان للبحر وعاد أحدهما ولم يعد االثاني وبعد حوالي أسبوع ألقى البحر بجثّة شاب على الشاطئ تعرّفت عليها عائلة الشاب المفقود على أنّه ابنها الذي كان يشتغل ميكانيكيا وتمّ دفنه . لكن بعد أسبوع عثر على شابّ منتحر شنقا في شجرة في مزرعة في مرناق وعثر على بطاقة تعريفه معه وتبّين أنّ الشاب الذي تمّ دفنه ليس الميكانيكي. وبعد شهر تقريبا تمّ فتح القبر وأخذ عينات من الجثّة وتحليلها للتعرّف على صاحبها.
خالد الشّابي
قراءة المزيد:
قضايا مثيرة باشرتها الشرطة الفنية والعلمية في تونس
خــــــاصّ: خـفايــا الثّـورة الـعلـمـيّــة في مخابر الشّرطة الفنيّة التونسيّة
الأستاذة راضية القسطلّي: رائدة تحــليـــل البصمــة الـوراثــيــة بـواسطة الحمـض النـووي في تــونس
- اكتب تعليق
- تعليق