رشيد خشانة: احتجاجات الجهات ورهـانات اللاّمـركـزيّـة

احتجاجات الجهات ورهــــــانات اللاّمـــركــزيّــــــة

في السياسة لا يكون الاختيار بين الخير والشّرّ وإنّما بين المُفَضّل والمكروه (ريمون آرون)

في أوج أزمة 1986، التي كانت أزمة اقتصادية معطوفة على أخرى سياسية، كان السؤال الذي يفتتح به التونسيون صباحاتهم، يتعلّق بعدد أيام التّوريد التي تُتيحها مُدّخـــرات البنك المركزي من العملات الدولية. واليوم عـُـــدنا إلى السّؤال نفســه فكثـــر الكـــلام عن إشهار إفلاس الصناديق العمـــومية والعجــز عن صـــرف المرتّبـــات...لكن في سياق وفي مناخ مختلفين. فأمّا السّيــاق فهــو تجـــربة الانتقـــال الديمقراطي، التي مـــازال كثيرون يُشكّكون فيها، غير أنها ماضية قُدُما بالرّغم من العثــرات والارتباكـــات. وأمـــّا المنـــاخ فهو التّبـــاري بين الأحـــزاب والمنظّمات واللّـــوبيات لتحصيــل مغـــانم خـــاصّة، وســـط التّهوين مـــن المخاطر الجمة التي تحيط بالبلاد.

ألسنا نـــرى في مـــواقف أولئك الفــــاعلين أحزابا ونقـــابات، تركـيــزا على  السيـــاسة السيـــاسوية أكثـــر مـــن تقـــديم الاقتـــراحات والحلـــول للخـــروج مـــن الأزمة الراهنـــة؟ وبالــرغم من أن أزمة تطاوين والأزمات الممـــاثلة في جهـــات أخرى تتعلق جوهـــريا بملف التّنمـــية الاقتصـــادية والاجتمـــاعية، لم نر مــن اتحاد الشغـــل أو منظّمة الأعــراف طرحا لبدائل يمكن أن تُساهم في نــزع فتيل الاحتجـــاجات بحلـــول غيـــر ظـــرفية. ولا أدل على ذلك من أنّ بيــــان الهيئة الإداريــة لاتّـحــــاد الشّغـــل يوم 4 ماي تحدّث عن «مبادرة وطنيّة تنقذ البلاد وتجنّبها الاحتقــان» ظلت مبهمة. مع ذلك فإن ما حصل في تطاوين ثمّ في الكامور لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، إذ بادر المحتجّون بإغلاق المدخل الصّحراوي الذي يعبر تطاوين في وجه الشّاحنات والعربات المتّجهة إلى الحقول النّفطية، ولمّا انتقلت الحركة عبر الكامور، وهو ثاني بوّابتين إلى الصّحراء، عمدوا إلى إغلاقها أيضا.

ارتباك وعثرات

ساهمت الاحتجاجات المُشتعلة هنا وهناك، بشكل عفوي حينا وبفعل فاعلين معروفين أحيانا أخرى، في إضعاف الحكومة وهزِّ مصداقيتها. وارتكب رئيس الحكومة وأعضاؤها أخطاء في التّعاطي مع التحــــركات الاجتماعية، وإن كان المُحتجّون ارتكبوا أيضا أخطاء عندمــــا رفضـــوا الحوار مع رئيس الحكومة، ورفعوا في وجهه عبارة «ارحل». وتصرَف المعتصمون في الكامور تصرُّفا ألغى وجود الدولة عمليا، بـمـــا في ذلك المؤسّسة الأمنية والعسكرية، في منطقة بالغـــة الحســــاسية بالنسبة للأمن الوطني. ويمكن القول إن مُجمل التعاطي الحكــــومي مع موجة الاحتجاجات في الجهـــات اتّسم بالارتباك وقلّة المهنيّـــة، ممّا سمح لمُحترفي إضـــرام الحرائق أن ينفخوا في الرّماد سعيا لنقل أزمة الكامور إلى مناطق أخرى. وبالفعل تمّ غلق الطريق المؤدية إلى معبر ذهيبة وازن بتعلّة التّضامن مع المعتصمين في الكامـــور. وهدّد المعتصمون في تطاوين بغلق الإدارات العمومية إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم وشنّوا إضرابا عامّا شلّ النّشاط في المدينة يوما كامــلا. كما جدَّ اعتصام في مغسلة الفسفاط بولاية قفصــة، مع استمرار تعطيل نشـــاطات شركة «بتروفـــاك» النّفطيـــة. ولكـــلّ هذه التّعطيلات كلفتهـــا البـــاهظة التي تتحّملها المجمـــوعة الوطنيـــة. هل أنّ ضرب الفسفاط والنّفـــط، وهما دعامتان من دعائم اقتصادنا، المُتضعضع أصلا، يُقرّبنا من إيجاد فرص عمل للعاطلين ويجلب استثمارات للمناطق المحرومة؟

من الواضح أن «المُعارضة» التي تُحرّض على تلك الأعمال لا تبتغي سوى زعزعة الحكومة، المُتعثّرة أصلا، من أجل فرض انتخابات سابقة لأوانها تُمكّنها من العودة إلى الحكم، مثلما تتصوّر. وساعدتها على ذلك وسائل إعلام داخلية وخارجية لتحمل خطابها التّحريضي إلى بيوت التّونسيين.

سيكولوجيا الوزراء

لكنّ الائتلاف الحاكم لم  يستطع مجابهة التّصعيد أوّلا لأن العلاقة بين مكوّناته تقوم على المحاصصة والمُغالبة، وثانيا لأنّه لا يملك حلولا للخروج من الأزمة. وأيّا كانت نجاعة الإجراءات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية في خطابه الأخير، بما في ذلك تكليف الجيش الوطني بحماية مواقع الإنتاج والطّرق المؤدّية إليها، فإنّ تنقية المناخ السياسي والاجتماعي تبقى أولوية الأولويات، خـــاصّة في ظلّ احتمـــال تكــرار الاحتجاجات الفوضوية في المناطق نفسها، أو في ولايات أخرى، بما يزيد من تسميم الأجواء ويُفقد الحكومة السّيطرة على الأوضاع. وما من شكّ في أنّ الأجواء داخل الفريق الحكومي لها تأثير مباشر في الأداء، فإقالة وزيرين استجـــابة للضغــوط، وفي توقيــت غيـــر مناسب اختاره الضـــّاغطون، جعـــل باقي أعضاء الفريق الحكـــومي لا يشعرون بـ«الأمان» والاستقرار ويكتفون بتصريف الأعمال.

إنّ المرحلة الرّاهنة تفرض تحديد الأولويات وهي تتمثّل في وقف انزلاق الدّينار وتكثيف التّصدير وتحقيق الاستقرار في مختلف الجهات كي يتسنّى استقطاب الاستثمار الدّاخلي والخارجي المُولِّد لمواطن الشّغل. لكنّ العلاج لا يكون بالوعود، وإنّما بالخطوات الإصلاحية وإعادة هيكلة القطاعات المأزومة مثل قطاعي النّسيج والملابس. فهذان القطاعان، اللذان كانا عمودا فقريا للصّناعة الوطنية، خسرا أربعين ألف موطن شغل في غضون السّنوات الخمس الأخيرة.  وبالإضافة للمنافسة الساحقة التي تمثّلها المستوردات من دول آسيا، والتي تدخل غالبيتها بواسطة التهريب، أدّت الزيادات المتوالية في الأجور إلى فقدان المنتوج المحلّي من المنسوجات والملابس ميزاته التنافسية. ولا أدلّ على ذلك من أن حجم الأجور في شركاتنا يُمثّل 70 إلى 75 في المئة من كلفة الإنتاج على عكس الوضع لدى منافسينا. كان هذان القطاعان يتبوّآن الرّتبة الثّانية بين القطاعات الصّناعية المُصدّرة، بعد الصّناعات الميكانيكية والكهربائية، غير أنّهما يتراجعان منذ فترة بمعدّل 7 بالمئة سنويا.

في هذا المناخ الغائم والمُخيف تبدو الأحزاب، الحاكمة منها والمعارضة على السّواء، مُفتقرة إلى الخيال وهي تصبُّ جهدها في البحث عن «تفاهمات» مُربحة ومُجزية، ممّا يُنذر بنهايتها بعدما فقدت مصداقيتها لدى الرّأي العام، تماما مثل اللوبيات الإعلامية التي مجَّ التّونسيون حواراتها الصّاخبة واشتباكاتها السّخيفة. والأرجح أن هذه الظّاهرة ليست خاصّة بتونس، ففي فرنسا أيضا يتوقّع الباحثون نهاية الأحزاب، ويجزم المؤرّخ والباحث المعروف جاك جوليار  Jacques Julliard بأنّ فرنسا تشهد موت الأحزاب مع تأجيل التّنفيذ، مشيرا إلى أنّ الحزبين الكبيرين (الاشتراكيون والجمهوريون) لم يعودا يثيران لدى الفرنسيين سوى اللاّمبالاة أو الاحتقار.

مليونا أمِّيّ

في تونس لدينا معضلة مختلفة تستحقّ كبير العناية، إذا كانت الأحزاب تريد فعلا البقاء في المشهد، وتخصُّ هذه المعضلة تزايد الأمّيّة التي كنّا محوناها في عهد سابق. وأظهر استبيان أجرته وزارة الشؤون الاجتماعية بالشّراكة مع المؤسّسة الدولية للنُظُم الانتخـــابية، أنّ مليونين من التّونسيات والتّونسيين لا يُحسنون القراءة والكتابة، وأنّهم بقوا على هامش عمليات الاقتراع التي عرفتها بلادنــــا. كما كشفت الأسئلة التي تضمّنها الاستبيان والأجوبة عليها مستوى لا بأس به من الوعي السياسي.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.