ماذا بعد الانخفاض الكبير في قيمة الدولار الأمريكي؟

لا يوجد سوق يضاهي سوق صرف العملات الأجنبية. فمع حجم تداول يومي يتجاوز 7.5 تريليون دولار أمريكي، يُعد سوق صرف العملات الأجنبية أكبر وأكثر فئات الأصول المالية سيولة في العالم. وعلى عكس الأسهم أو السندات، يعمل سوق صرف العملات الأجنبية على مدار الساعة خمسة أيام في الأسبوع، حيث يتم تداول أزواج العملات الرئيسية في جميع أنحاء القارات. علاوة على ذلك، تُعد أسواق صرف العملات الأجنبية بمثابة مقاييس آنية لديناميكيات الاقتصاد الكلي العالمي، حيث تعكس فوراً التحولات في تدفقات رؤوس الأموال، ومعنويات المخاطرة، وتوقعات أسعار الفائدة، والتطورات الجيوسياسية.
تقدم تحركات أزواج العملات الرئيسية إشارة سريعة وشاملة وفريدة من نوعها حول كيفية إعادة تموضع المستثمرين استجابة للاتجاهات العالمية الدورية والهيكلية. في هذا السياق، فاجأ تراجع قيمة الدولار الأمريكي مؤخراً العديد من المشاركين في السوق، حيث جاء ذلك مناقضاً للإجماع السابق على "قوة الدولار الأمريكي" المرتبط بالاستثناء الاقتصادي الأمريكي طويل الأمد والرياح الداعمة المرتبطة بالنسخة الثانية من سياسة الرئيس ترامب الاقتصادية. في الواقع، بعد بلوغه ذروته في أوائل يناير 2025، على خلفية ارتفاع مدفوع بتوقعات بإدارة أمريكية جديدة مواتية للسوق بقيادة ترامب، انهار مؤشر الدولار الأمريكي بنسبة 12%.
مؤشر الدولار الأمريكي
(نقاط المؤشر، 2024-2025)
المصادر: بلومبرغ، تحليلات QNB
من الجدير بالذكر أن الانخفاض الحاد في قيمة مؤشر الدولار الأمريكي يمثل أسوأ بداية عام للعملة الأمريكية منذ عام 1973، عندما هندس الرئيس ريتشارد نيكسون عملية فك ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب، ما أدى إلى انخفاض كبير في قيمة العملة. كما شمل الانخفاض الأخير في قيمة مؤشر الدولار الأمريكي جميع العملات الرئيسية ضمن سلة المؤشر، وهي: اليورو، والين الياباني، والجنيه الإسترليني، والدولار الكندي، والكرونة السويدية، والفرنك السويسري.
تفاصيل مؤشر الدولار الأمريكي
(أوزان العملات وارتفاع قيمها من أدنى مستوى في عام 2025)
المصادر: بلومبرغ، تحليلات QNB
كان الدافع وراء هذا التراجع الكبير هو الارتفاع الحاد في حالة عدم اليقين بشأن السياسة الاقتصادية الأمريكية. وقد نتج ذلك بسبب تعقيد عملية صنع السياسات المالية والتجارية، مما أضعف ثقة المستثمرين وأدى إلى تباطؤ كبير في توقعات النمو الأمريكية، بالإضافة إلى تساؤلات طويلة الأجل حول الحوكمة وسيادة القانون ومستقبل دور الولايات المتحدة كملاذ آمن لرأس المال الأجنبي.
لكن بعد هذه الخطوة المهمة، من الطبيعي أن نتساءل عما ينتظر الدولار الأمريكي. هل تجاوز الانخفاض حده؟ ما الذي يمكن توقعه على المديين المتوسط والطويل؟
من وجهة نظرنا، في حين أن التحرك الحاد وتوسيع مراكز المتداولين قد يؤديان إلى تراجع في الدولار الأمريكي على المدى القصير، فمن المرجح أن تكون الظروف مهيأة لمزيد من انخفاض قيمة الدولار الأمريكي على المديين المتوسط والطويل. هناك ثلاث حجج رئيسية تدعم موقفنا.
أولاً، من المتوقع أن تضيق الفجوة الكبيرة في النمو بين الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الرئيسية الأخرى بشكل كبير خلال السنوات القادمة، مما يخفف فعلياً مما يسمى بالاستثناء الأمريكي. وكانت الهجرة القوية والموقف المالي الأمريكي الأكثر مرونة عوامل داعمة للأداء المتفوق للولايات المتحدة. ومع ذلك، تشير سياسات الهجرة الجديدة والحيز المالي المحدود إلى المزيد من التباطؤ في الولايات المتحدة. في المقابل، من المتوقع أن تتبع الاقتصادات الرائدة في منطقة اليورو، مثل ألمانيا، سياسة مالية أكثر مرونة، مما يزيد من الاستثمارات في الدفاع والبنية التحتية. ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يضيق فارق نمو الناتج المحلي الإجمالي بين الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، الذي كان لصالح الولايات المتحدة بمتوسط سنوي قدره 220 نقطة أساس خلال السنوات القليلة الماضية، إلى 70 نقطة أساس خلال الفترة 2025-2027. من المتوقع أن يعزز هذا الأمر قوة اليورو مقابل الدولار الأمريكي، مما يدفع مؤشر الدولار الأمريكي إلى مزيد من الانخفاض - حيث يمثل اليورو 57.6% من سلة عملات مؤشر الدولار الأمريكي.
ثانياً، يشير تقييم الدولار الأمريكي إلى أن العملة مبالغ في قيمتها وتحتاج إلى تعديل. من الطرق الشائعة للنظر في "قيم" العملات تحليل أسعار الصرف المرجحة تجارياً والمعدلة حسب التضخم، أي أسعار الصرف الفعلية الحقيقية، ومقارنتها بمتوسطاتها طويلة الأجل أو معاييرها التاريخية. يُعد مقياس أسعار الصرف الفعلية الحقيقية هذا أكثر دقة من أسعار الصرف الأجنبية التقليدية، حيث يسجل التغيرات في أنماط التجارة بين الدول، بالإضافة إلى الاختلالات الاقتصادية التي تتجلى في التضخم وفروقاته. تشير صورة أسعار الصرف الفعلية الحقيقية لشهر مايو 2025 إلى أن الدولار الأمريكي هو بالفعل العملة الأكثر مبالغة في قيمتها في العالم المتقدم، بأكثر من 17% من "قيمته العادلة" الافتراضية. وبالتالي، يُتوقع أن تتكيف العملة مع الأسعار العادلة على المدى المتوسط.
ثالثاً، تشير مراكز الأصول المالية العابرة للحدود إلى أن إعادة التوازن الهيكلي لتخصيصات رأس المال العالمية قد تحفّز موجة كبيرة من تدفقات رؤوس الأموال الخارجة من الولايات المتحدة. تُعد الولايات المتحدة حالياً مديناً صافياً كبيراً لبقية العالم، حيث يبلغ صافي وضع الاستثمار الدولي رقما سلبياً بمقدار 24.6 تريليون دولار أمريكي. كما تدهورت الصورة بشكل حاد، حيث تطوّر صافي وضع الاستثمار الدولي للولايات المتحدة من رقم سلبي هامشي بلغ حوالي 9% من الناتج المحلي الإجمالي في بداية الأزمة المالية العالمية إلى 88% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام الماضي. ويشير هذا الوضع إلى أن الولايات المتحدة هي البلد الذي تتركز فيه معظم الاختلالات الاقتصادية العالمية. ويبدو أن هذا المستوى من التعرض المتبادل بدأ يصبح مزعجاً لكل من الدائنين والمدينين، مما يتطلب تعديلات كبيرة. وهذا من شأنه أن يتطلب المزيد من تدفقات رأس المال الخارجة من الولايات المتحدة في عملية تستغرق سنوات عديدة، مما يسبب ضغوط بيع إضافية على الدولار الأمريكي.
إجمالاً، شهد هذا العام حتى الآن أقوى انخفاض في قيمة الدولار الأمريكي خلال نصف القرن الأخير. ومع ذلك، لا يزال هناك مجال لمزيد من الانخفاض في قيمة الدولار الأمريكي، على المديين المتوسط والطويل، نظراً لتقلص تفوق الأداء الاقتصادي الأمريكي، والمبالغة في تقييم الدولار، والتراكم الهائل للأصول غير المقيمة في الولايات المتحدة. ومن المرجح أن تتطلب عملية التنظيم الأمثل لتعديلات العملة تعاوناً عالمياً كبيراً على مستوى الاقتصاد الكلي.
- اكتب تعليق
- تعليق