أخبار - 2025.04.21

عزالديـن المدنـي: هل ننســى فنّانينــــا وإبداعاتهــم؟ كَلَّا لا!

عزالديـن المدنـي: هل ننســى فنّانينــــا وإبداعاتهــم؟ كَلَّا لا!

بقلم عزالديـن المدنـي - من منّا لم يلاحظ أنّ مجال الفنّ والفنّانين مجال متخلّف؟! على صعيد التّعريف خاصّة فضلًا عن أصعدة أخرى... والتّعريف بالفنّ وبالفنّانين يستدعي منّا اليوم قبل الغد المثابرة على الإعلام بهم وبأعمالهم الفنّية، وعلى إشهارهم لدى مختلف طبقات المجتمع ولا سيّما طبقة الإطارات العليا القياديّة، وعلى تمكين الأقطار العربيّة الأخرى من الاطّلاع عليهم وعلى فنونهم في الغناء والطّرب، في التّلحين والعزف بالإضافة إلى تكوينهم للأركسترات وإلى تكوين النشء وتعليمهم السُّولْفَاج والمقاماتْ والنّغماتْ وتدريبهم على الآلات سواء كانت محلّية أو مستوردة أجنبية لكنّها باتت وطنية على طول الزّمن، وعلى ربط الموسيقي المبادر الخلّاق بالموسيقي اللّاحق والمتابع والهاوي المتذوّق. فلا بدّ من تكوين المزيد من الجمعيّات والنّوادي والوداديّات وحلقات التّلقين، والتّدريب على الآلة والزّمالة أو المعارضة في العزف بحيث يكون فنّ الموسيقى يربّي الطّفل ويلتذ به الكهل روحيًّا وفكريًّا وحتَّى يتمتّع به الشّيخ ولم لا؟ إذ فنّ الموسيقى ليس لهوًا ولا تلهيّةً، وليس عبثًا ولا هو من قبيل ملء الفراغ أو قتل الوقت وإنّما هو نِعْمَةٌ للشّعور والأحاسيس وللجسم وتكوين للعقل ومرجع للفكر. أليستْ الموسيقى من حيث هي فنّ وعلم ذات علاقة متينة ووطيدة بعلم الرّياضيّات؟
وفنّ الموسيقى يدفع الإنسان نحو السّمّو والإبداع والخلق غير المسبوق والتّفّرد الفنّي والفكري، فأيّ لحن لا يشبه لحنًا آخر، وأيّ عزف لا مثيل له بالنّسبة لعزف آخر، وأيّ صوت لا يعوّض صوتًا آخر، ولا أي كلمات تعني كلمات أخرى. وإذا كان الفنّ الموسيقي يحثّ على بذل العطاء فإنّه بالأحرى يبذل جهده في سبيل التّكاتف والتّضامن والتّقدير المتبادل بين الموسيقيّين حتّى تنتقي الطبّائع السّلبية من الغيرة والحسد.

ولطالما تساءلنا: علام لم نجمع رصيد الموسيقات التّونسية المختلفة من القديم والحديث، من الإرث الأندلسي الافريقي ومن الجديد، من أعمال الملّحنين ومن عبقرية العازفين وناظمي الكلمات للغناء؟
أكيدًا أنّ التّعريف بالفنّانين وبأعمالهم على عهد الاستعمار الفرنسي كان على غاية من الضّحالة لأسباب يعرفها الجميع، ممّا زاد في عدم تأريخ الموسيقَى والموسيقيين وفي إهمالهم واعتبارهم كلا شيء، لا يصان ولا بحفظ. فلقد صدرت أيامها كُتَيْبَات صغيرة كالنشريات قليلة الصّفحات رديئة الورق والطبّع والنّشر فقيرة المحتوى تتخلّلها أخطاء باهتة الصورة والتّصوير كالكُتيب الّذي صدر من هذا النّوع السّوقي الرّخيص عن المطرب علي الرّياحي رحمه الله. ولعلّ عهد الاستقلال قد حسّن ذلك الوضع الرّديء فسعى كلّ السّعي في التّعريف بمختلف الموسيقات التّونسية وبمبدعيها ومكرّسيها والتّنويه بها وإشهارها ولو كان كلّ ذلك قليلا وعلى عجل: ولكن من جهة أخرى بفضل الإذاعة الوطنية الّتي أدارها مثقّف تونسي من كبار المثقفين وطنّي القيم والمبادئ والمُثُل باعتبار أنّ المجال الّذي تحتلّه الموسيقى والموسيقيون إنّما هو ركن عظيم من أركان الشّخصيّة الفاعلة الإيجابية الوطنّية التّونسية بما في ذلك الهُوِيَّة وهي الطّابع المميّز لها. على أنّ نجاح ما بادر به عهد الاستقلال كان ضئيلًا نسبيًّا. وإن كان خيرًا بالنّسبة للآمال العريضة في الازدهار الموسيقي المعقود عليه.

لم نكن نعرف من المجال الموسيقي التّونسي إلّا فنّ الغناء والمغني بصوت علي الرّياحي وبصوت فتحية خيري وبصوت المغنية صليحة مثلا أو بأصوات أصحاب المالوف وموسيقاه. فلم نعرف من هو الملحّن؟ ومن هو العازف؟ ومن هو ناظم كلمات الأغنّية؟ ومن يذكر منشّط الحفلات ولا صوت المذياع أسماءهم؟ فهل ذهب اسم الملحّن (قد يكون فردًا أو جماعة أو جهة من البلاد) ذَهَبَ سُدًى! كما ذهب اسم العازف ويليه اسم الشّاعر سُدًى - إلاّ فيما ندر - بمعنى أنّه كان صالحًا للنّسيان والإندثار تمامًا للأسف وبعد سنوات يأتي صاحبي وأخي الأستاذ فاخر الرّويسي الباحث الموسيقي بفضل أعماله وبحوثه فيشمّر عن ساعده للتّنقيب والحفْر والمُلاحقة وكسب النّجاح أحيانا ولكن الخيبة أحيانًا أخرى، فلا يستسلم ولا ينقطع عن البحث كلّفه ذلك ما كلّفه من أغلى التّكاليف، وكأنّه يبحث عن تراث كتراث فنّان موسيقيٍّ عاش في القُرُون الوُسطى الغابرة فلا يعثر منه إلّا على نَزْر ناقص من الشّتات الإبداعي... ولطالما كان يؤكّد صاحبي الأستاذ فاخر ومازال يؤكّد في محاضراته إلى هذا اليوم: ما نسيناه من التّراث الموسيقي التّونسي إنّما هو نسيان منّا للثّقافة بل للشّخصيّة التّونسية إذ الموسيقى أحد أسس الحياة التّونسية وعمادها الباقي.

لقد أدرك الفنّان والنّاقد الّليبي البشير فحيمة معاني التّعريف بالفنّ وبالفنّانين التّونسيين والعرب الآخرين فأصدر كُتبًا سجّل فيها كلمات الأغاني للمطربين المشارقة المشهورين كالمطرب محمّد عبد الوهّاب مثلًا وكالشّاعر أحمد شوقي كاتب الكلمات وكالملّحن (وهو المطرب نفسه). ولكن لم نجد اسم كاتب الكلمات لأغنية "هيلا هُبِّـيّ هِيــلا" مثلا...أَ لأنّها شَعبّية لا تَستحّق التّنويه ولا الإشهار؟ كما لا نجد اسم من كتب كلمات أغنّية سيّد دَرويشْ الشّهيرة: "أنا حبّيـت وفَنيـت..." بينما هو الملّحن المعتمد على من سبقه من الموسيقيّين المصريّين وما تعلّمه من معلّمه الموسيقي الإيطالي. والحقُّ أنّ جمهور المستمعين للإذاعة الوطنية بالأمس والمتفّرجين على التّلفزة اليوم بمناسبة بثّ الحفلات لا يعرفون من الموسيقى والموسيقيين في الأغلب الأعمّ إلّا أصوات المغنّين وظُهورهم على ركح الحفلات مع العازفين المعرُوفين أي أنّهم يعرفون الظّاهر لا الخافي من عامّة جنود الكلمات والألحان والعزف.

ونحن عندما نرغب في عزفٍ موسيقيّ لإحدى أغنيات عُلَية أو شافية رشدي أو فتحيّة خيري مثلا لا نجد أثرًا للنصّ المنّوط قصد التّذكير بفنهنّ والتّقدير لهنّ إلّا ما أنقذ ربّك من النّسيان والإهمال والهلاك فلا نبخس أحدًا من الماضين ولا نقول مثل أنصاف المثقّفين: أولئك الّذين فات ركبهم ولا قيمة لهم. ولكنّهم في الحقيقة هم حاضرون معنا في يومنا هذا وفي بلادنا هذه، مثل الشّيخ العفريت ومحمّد التريكي وعبد الرّزاق كرباكه وقدّور الصّرارفي وراءول جورنو وغيرهم كثيرون... بل نحن نحترم ما خلّفوه ونقدّر ما وهبوه لتونس.

ومن واجبات وطننا أن يخصّص متحفًا حيّا متحرّكا يحفظ فيه ودائع أسلافنا ومعاصرينا على غرار متحف السّيناتاك مثلا الّتي تعلّم وتثقّف وتوفّر الاعلام للسّنيمائيّين والإمتاع للمحترفين وللهواة بشكل دوريّ مع التّقديم المناسب والنّقد التّعريفي المناسب أيضا، وكلّ ذلك خارج المؤسّسات المختصّة التي تغار على رصيدها خوفا من التلاشي والاضمحلال.

وأحبّ في هذا التّمهيد الإجمالي استئنافًا لطرق محتويات ثلاثة كتب: "فتحية خيري" و"فتحي زهير" ومشاهير المطربين التّونسيين اليهود وتنويهًا بنجاح المؤلف الأستاذ الباحث فاخر الرويسي وأيضا بنجاح بحوثه الّتي لفتت انتباه الجمهور في الجمعيات والنّوادي وحلّت محلّ اطلاعهم عليها ومناقشاتهم وقبولهم.

عزالديـن المدنـي

يتبع

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.