محمّد علي بلحولــــة... الإذاعي المغمـــــور

بقلم فاخــــر الرّويســــي - منذ نشأة الإذاعة في عهد الاستعمار، عديدون ساهموا في تأسيس هذا المرفق الحيوي الذي كان حمّالا للواقع التونسي ومطامح النخبة المثقّفة التي كانت ترنو لتونسة القطاع، والانعتاق من التبعية الاستعمارية. فعملوا بكدّ وجدّ وإخلاص على اثرائه وتطويره وتطويعه وتنويع مجالات تدخّله خدمة لجملة من القضايا الوطنية التي عرفها المجتمع التونسي.
ولقد اعتنى عدد من الباحثين، جامعيّين وأحرار بالتعريف بعدد كبير منهم والتذكير بإنجازاتهم ومساهماتهم في القطاع الإذاعي والتلفزي وإبراز مناقبهم. لكن بعضهم أغفل عن عدد لا بأس به من هؤلاء الجنود...جنود الخفاء الذين خدموا تونس وإعلامها وخاصة مؤسستي الإذاعة ثم التلفزة العريقتين اللّتين لعبتا أدوار هامّة في دعم كلّ السّياسات التي اعتمدتها كل الحكومات التي تعاقبت قبل وبعد الاستقلال...من هؤلاء، المغمورين الذين عابوا عن المشهد الإعلامي، ولم نعد نتحدّث عنهم...وغيّبتهم ذاكرة الإذاعة والتلفزة التونسية...الصّديق الشّهم المذيع القدير محمّد علي بلحولة...
نعم، وللأسف، فقد غفلت عنه وسائل الاعلام، وتناسته وتغاضت عن التذكير بمسيرته الاذاعية الحافلة التي بدأها بُعيد استقلال البلاد الى سنة مغادرته المُبكّرة للإذاعة والتلفزة التونسية، بعد أن قضّى فيه قرابة الـ 35 سنة من العمل الجادّ والنّافع.
وأعتقد إنّه رغم أنّ مزاج هذا الرّجل وطبعه المتواضع الرّافض للظهور والدّعاية والبهرج ساهما شيئا ما في تناسيه، فإنّي أعتقد أنّ هذا لا يُعدّ سببا مقنعا لتناسي ماضيه الإعلامي والثقافي المشرّف، وعدم التعاطي معهما...
ولا أذكر أنّه منذ مغادرته الإذاعة أن هذه المؤسسة ذكّرت به أو خصّصت له برنامجا ليتحدّث فيه عن تجربته الإذاعية أو عملت على التعريف بمسيرته الإعلامية المثالية الثريّة...
عرفتُ محمّد علي بلحولة الإذاعي منذ طفولتي عن طريق المذياع... إذ صادف أن استمعت إلى بعض برامجه...كنت أطرب لنبرات صوته الرّخيم المتفرّد... وكنت مشدودا إلى طرافة برامجه القريبة من المواطن التونسي التي غالبا ما تخفّف عن همومه ومعاناته اليوميّة...
كنت أتلذّذ تدخّلاته الرّشيقة الطّريفة...
سنة 1981 شاءت الأقدار أن تعرّفت إلى محمد علي بلحولة الإنسان والأديب والإعلامي هذه المرّة.. ومنذ ذلك التاريخ تتالت وتكثّفت لقاءاتنا واتصالاتنا... فنالني شرف معاشرته... وتعرّفت إليه عن قرب... وتمكّنت من التمتّع بالتعرّف على تفاصيل دقيقة عن حياته ومسيرته... خاصّة منها الإذاعيّة...
اليوم، بعد مُضيّ تلك السّنوات، يطيب لي التّذكير بهذه القامة الإنسانية والاعلامية والأدبية التي عاشرتها وحاورتها مرارا وتكرارا، والتي أحتفظ لها بالبعض من الأحاديث والذّكريات، دوّنت بعضها وسجّلت بعضها الآخر.
ولد محمد علي بلحولة بقفصة في 20 أكتوبر 1938 وزاول تعليمه الابتدائي بالمدرسة القرآنية ثم بالمدرسة "الفرانكو آراب" L’école franco-arabe.
أحرز على الشهادة الابتدائية (1951)...
كان في الأثناء شغُوفا بالمسرح، فانظمّ سنة 1948 الى الفرع التمثيلي لجمعية ابن منظور، وشارك في مسرحية "الواثق بالله الحفصي". لكن لم تستمرّ مسيرته المسرحية طويلا حيث كان يطمح إلى مواصلة تعليمه الثانوي بالمدرسة الصّادقية. وللأسف بلّغوه أنّه أخفق في المناظرة التي شارك فيها... ما حزّ كثيرا في نفسه وقتئذ، وغمره إحساس بالضيم، خاصّة عندما أدرك أنّ المدرسة الصّادقية لم تعُد متاحة لأبناء الشّعب من النّجباء من التلامذة مثلما كانت في الماضي، بل تحوّلت في تلك الفترة من القرن الماضي إلى مدرسة لا يؤمّها إلّا أبناء الوجهاء والذّوات من القوم.
فاتجه الى التعليم الزيتوني وتوصّل الى حفظ الرّبع من القرآن الكريم ومتون اللغة في النّحو والصّرف وأصول الفقه والتوحيد وأحرز على شهادة الأهلية العصرية سنة 1956، في وقت بدأت فيه إصلاحات التعليم الزّيتوني تؤتي أُكلها خاصّة بعد اقحام الشعب العلمية والعصرية.
اجتاز الشاب محمد علي الامتحان الشفاهي في صفاقس بنجاح في 22 اكتوبر 1956، وقد تزامن ذلك التاريخ ويوم اختطاف طائرة الخطوط المغربيّة التي كانت تقلّ زعماء الثورة الجزائريّة (محمّد خيضر، وحسين آية أحمد، وأحمد بن بلّة، ومحمّد بوضياف) والتي كانت متوجهة من الرّباط إلى تونس.
انتقل إلى معهد ابن رشد بنهج الصّبّاغين بتونس ليواصل المرحلة الثانوية الثانية بالشعبة العصرية التي كانت تدرّس العلوم الصّحيحة (فيزيا ورياضيات) باللّغة العربية وكذلك علوم اللغة والآداب والفلسفة. وكان ذلك في إطار تطوير التعليم الزّيتوني. مع اقحام اللغتين الفرنسية والأنڨليزية، بفضل أساتذة المدرسة الصّادقية والعلوية، ومهندسين من وزارة البريد، ومن العائدين من التعليم العالي من بلاد الشرق بين مصر وسوريا والعراق، ومن المتعاونين مع حكومة الاستقلال من الجزائريين الذين خرجوا للمنفى منذ ثورة نوفمبر 1954 بقيادة جبهة التحرير الوطني…
وإذ ينسى بلحولة جلّ المربّين في مراحل التّعليم الابتدائي والثانوي فإنّه لم ينسى البعض ممّن عملوا على تربيته وتعليمه من المعلّمين والأساتذة أمثال: أحمد بوحوش - خليل القصري - يوسف بن عمر - المختار الآجري - محمد بن ساسي - عبد العزيز العكرمي - الإمام صميدة والأستاذ المستوري...
كما أنّه ما زال يتذكر البعض من أساتذة معهد ابن رشد الكائن بالصبّاغين مثل: بلحسن القروي - الهادي التميمي - عبد الله شريّط بن عمر - أبو القاسم كِرُّو - محمّد الصّالح شقير- محمّد الميلي وأحمد الفاني...
وبمرور موسمين دراسيين (1956/1957 و1957/1958) أحرز صاحبنا على شهادة التحصيل العصري الجزء 1 التي تقارب نسبيا شهادة الباكالوريا بجزئيها الأول والثاني (1ère et 2ème partie du Baccalauréat) ...
وإلى جانب دراسته التحق بإقليم الكشّافة "فوج قفصة، فريق الجوّالة" بقيادة توفيق حشيشة. وسنة 1954 بعد مشاركته في المخيّم الذي أقيم في بئر الباي بقيادة عبد الحميد القسنطيني انتدب للعمل (1958) مسؤولا على قسم الأشبال بإقليم قفصة. وكان يتردد باستمرار على مقرّ الكشافة الذي كان بنهج الصّادقية لمتابعة أنشطة هذا الاقليم.
في أكتوبر 1958 بعد أن أجرى مناظرة دخل إلى معهد الدّراسات الاقتصادية والاجتماعية المرحلة الوسطى الكائن مقرّه بنهج اسبانيا. وكان هذا المعهد يُعِدّ ُ لتخريج الاطارات الشبابية ويِؤهّلهم إلى تحمّل مسؤوليات في وزارة التخطيط والمالية استعدادا لتطبيق برنامج التعاضد.
إلّا أنّ شغفه وحبّه للّغة والأدب والتمثيل دفعاه إلى البحث عن عمل في الصّحافة والإذاعة. وكانت الصدفة مواتية للدّخول إلى الاذاعة في أكتوبر 1959 بعد اجراء مناظرة.
يَذكُرُ محمد علي بلحولة أن " المناظرة اشتملت على: تجربة صوتية (نصّ أدبي لميخائيل نُعيمة نُشر في مجلّة الفكر تحت عنوان "بِسْكِنْتا"، وهي قرية لبنانية وُلد فيها ميخائل نُعيمة وتحدّث عنها في المقال)، واعداد مواكبة صحفية كتابية عن معرض تونس الدّولي الذي أقيم في أكتوبر 1959... وكان لابدّ من زيارته للاطلاع على مختلف أجنحته... ومعروضاته؛ و التحوّل إلى هذا المعرض الذي كان يُنظّمُ بفضاء بـ"ڤمبطّة"، (شارع محمّد الخامس اليوم)- قريبا من دار الاذاعة، أمام نهج "كليبير" Rue Kleber(نهج الكويت)، كان على متن سيارة الإذاعة التي وضعت بالمناسبة تحت تصرّف المشاركين مع سائقها...
… تم اختيار سي محمد علي بلحولة للعمل في مصلحة البرامج والقسم الأدبي، تحت إشراف السّيدين التيجاني زليلة وعبد العزيز عشيش، الذي كان يحترمه كثيرا ويعتبره مثالا للصّدق والنزاهة...ولقد صرّح لي أنّه يعترف بفضل هذا الرّجل في شق طريقه وانطلاقته في هذه المؤسّسة التي أشرف عليها الأستاذ الشاذلي القليبي لفترة قصيرة، أي من سنة 1959 الى 1961 ثم تم تعيينه وزيرا للإعلام والثقافة بعد معركة بنزرت. وقد عُوّضت بـ وزارة الأخبار والإرشاد التي سبق وأن أشرف عليها السّيدان البشير بن يحمد ثمّ محمّد المصمودي... ولقد حدّثني عن الأستاذين الشاذلي القليبي والحبيب بولعراس اللّذان يعتبرهما من خيرة الرّجال الذين وضعوا أسس إذاعة الاستقلال وجعلوا منها صوت تونس الصّادح دون منازع. وغالبا ما أشاد بالأستاذ محمد مزالي الذي تولى الإذاعة سنة 1965 والذي مقرّبا من الرئيس بورڤيبة. ولقد حسّسه بحال هؤلاء الأعوان في كل-الاختصاصات- الذين خدموا الدّولة ومؤسّساتها...ويتكلّمون بلسانها ويدعمون مخططاتها وبرامجها وانجازاتها. ورغم هذا، لم يتمتّعوا -إلى فترة ما- بخدمات التقاعد والتغطية الاجتماعية كغيرهم من أعوان الدولة!
نعم يقول سي محمّد علي بحماس: "لولا مزالي الذي فاتح رئيس الدولة بالموضوع لما تمكّن هؤلاء من الانخراط في الصندوق ليحصلوا على منافعه في الوقت المناسب...منهم أنا...فقد مررت بفترة حرجة، تدهورت خلالها صحّتي وأجريت عليّ عمليّة دقيقة...وقع التكفّل بجزء من مصاريفها بفضل محمّد مزالي... ".
لقد ثأر محمّد علي لنفسه، لأنّ الإذاعة كانت بالنّسبة إليه -رغم مؤاخذته للبعض من مسؤوليها- جامعة تعليمية وثقافية عوّضته عن التعليم العالي...
وبفضل المصدح تمكّن من الدخول إلى بيوت التونسيين بدون استئذان وتعرّف اليه السّامعون وتفاعلوا مع صوته الرّخيم وبرامجه المتنوّعة.
... كان يسعى إلى الاتصال المباشر بالمواطنين وأعوان الخدمات العمومية من شرطة وحرس وممرضين ورجال مطافئ وعمّال بلديين وغيرهم لينشر فيهم الدفء ويرفّع من معنوياتهم ولمخاطبتهم مباشرة وللوقوف على همومهم ومشاكلهم ومشاغلهم ورفعها ونقلها على أمواج الأثير المباشر بكلّ أمانة الى المسؤولين أملا في إيجاد الحلول الملائمة والإصلاحات اللّازمة والمستعجلة لقضاياهم متنقلا بين المدن والقرى والأرياف في حرّ الصيف وبرد الشتاء...ليلا ونهارا...... بصدق نيّة وإخلاص على حساب صحّته وظروفه العائلية... خلافا للبعض من زملائه الذين كانوا يجتنبون إحراج المسؤولين حفاظا على مصالحهم ومراكزهم.
لقد ترك سي محمّد علي ـ طيلة السّنوات التي قضّاهاـ بصماته في العمل الإذاعي تارة كمقدّم ومشارك، وتارة كمنتج للعديد من البرامج، يمكن التذكير ببعضها:
البرنامج الشهير "يوم سعيد" الذي انطلق سنة 1977 (يتواصل بثه إلى اليوم) - "في كل ولاية مهرجان"، "معالم حضارية"، "الجوامع والمساجد"، "مسيرة الخير"، "سهرة مع فنّان"، " العاملون بالليل" أو "تونس بالليل"، "على الشط"، " مدن وقرى تونسية"، " البث المباشر"، و" مسيرة الخير (مسكن لكل مواطن في اطار إزالة الأكواخ) ...وغيرها من البرامج...
والجدير بالذّكر أنّه حدّثني عن بعض البرامج الأخرى التي أنتجها مثل" يوم في ولاية"، و" أسماء الشوارع"، التي أُنتُزعَتْ منه وأُسْنِدَتْ الى مذيعين آخرين لأسباب متعدّدة...ورغم تحسّره على ذلك...آثر الصّمت...
وبعيد انبعاث التلفزة أنتج برنامج" مُدُنُ المياه"، و" تعليمنا" و"بيوت الله" التي لم تجد الدّعم اللاّزم، لذلك لم تتحقّق الاستمرارية. كما شارك في دبلجة بعض الأشرطة السّنيمائية للأطفال التي كان ينتجها ويقدّمها البشير الغزالي، وقد كتب نوّه بها كثيرا المرحوم محمود بوعلي في جريدة "لاكسيون" L’Action
لقد أفادني باعتزاز أنّه تعرّف عند دخوله المجال الإذاعي على عديد الأسماء البارزة الي شكّلت النّواة الأولى للإذاعة قبل الاستقلال وعمل إلى جانبهم منهم:
عبد المجيد بن جدو- مليكة بن خامسة- مصطفى خريّف- عبد العزيز الرياحي-حمادي الصيد-عمر البرناوي-الطاهر مبارك- منير شمّاء- حامد عمّار-الأخضر الساعي-مصطفى الفارسي...
كما عرف متعاونين مع الإذاعة من الأوائل: صالح رضا الأحمر- زين العابدين السنوسي-حسين الجزيري- عبد الحميد بن هدوڤة- المختار حشيشة- حمادي الجزيري- منوّر صمادح- الصادق بسيس- الصّادق مازيغ- البشير الزريبي- محمّد بلحسين (الصحفي القديم اللامع منذ جريدة النهضة) - أحمد خير الدّين- الحبيب شلبي-الشيخ اللقاني- الشيخ محمد الخضراوي- السيد حسن عبّاس-عبد الوهاب الرزڤي- الهادي الغالي- محمد دمق- عبد الحميد البخاري-عبد الحميد الغرياني- حامد الدبّابي وصالح شبيل...
وارتبط بصداقات مع أسماء لامعة من المذيعين مثل: عادل يوسف -أحمد فرح- البشير رجب- صالح جغام- نجيب الخطاب- صالح بيزيد- أحمد الجنحاني...وأدباء مثل: الهادي العبيدي - زبيدة بشير- مصطفى الفارسي- أبو زيان السعدي- منصور لطيف..... وفي الغناء مثل: يوسف التميمي- عزالدين ايدير-مصطفى كامل- نعمة- زهيرة سالم- المطربة فائقة... وفي التمثيل الإذاعي مثل : البشير الرحال- حمّودة معالي- محمد بن علي- توفيق العبدلي ومحمد الهادي... وغيرهم.
لم يكن محمّد علي بلحولة يقتصر على عمله الإذاعي الذي كان في أغلبه ذو طابع ثقافي، بل كانت له اهتمامات أخرى. فكان يكتب خواطره في الجرائد والمجلّات ويساهم فيها ببحوثه. كما ألّف كتبا مرجعية نشر منها خمسة وهي:
• الجهاد التونسي في الشعر الشعبي
• زمن العسر رحلة في عشر سنوات من الكفاح الوطني 1930-1940
• محمد علي الحامي وحوادث الأيام
• قفصة: قديما وحديثا
• الطبيب التونسي: رسالة ومواقف
وهو بصدد إتمام اجراءات إصدار كتاب جديد عنوانه "الغناء التونسي في القرن العشرين (1900-2000)" في جزئين.
والذي أعلمه إنّه يحتفظ بكتب أخرى مازالت مخطوطة تنتظر النّشر منها:
"منارات الايمان". كما حدّثني عن كتاب آخر تناول فيه مذكّراته وذكرياته في الإذاعة والتلفزة وأعتقد أنّه كتاب مهمّ وجدير بالنشر.
بعد مسيرة اعلامية حافلة بمؤسسة الإذاعة دامت 35 سنة عاشها سي محمد علي بلحولة بحلوها ومرّها انقطع سنة 1993 عن العمل الإذاعي مُبكّرا...بمحض إرادته ولأسباب شخصية...وهو الآن بين عائلته بعيدا عن الأضواء...
أطال الله في عمرك سي محمد علي
فاخــــر الرّويســــي
- اكتب تعليق
- تعليق