نجاة البراهمي الزواوي -التحكيم والتنمية المستدامة: لقاء الصدفة ام موعد مع التاريخ (1)؟
بقلم الأستاذة نجاة البراهمي الزواوي. مديرة كرسي الالكسو للتحكيم التجاري الدولي.
1- التحكيم والتنمية المستدامة: لقاء الصدفة ام موعد مع التاريخ؟
2- على الشاكلة التي صيغ فيها هذا السؤال نقرأ أيحاءا من الباحث بوجود جدل بخصوص العلاقة بين التحكيم من جهة و التنمية المستدامة و بعبارة أوضح يطرح السؤال حول طبيعة العلاقة بين المفهومين من حيث القطع او الوصل.
3- و الحقيقة ان الرد على هذا السؤال يقتضي بدءا تحديد أهمية الطرح في اطار ملتقى علمي يهتم بالتغيرات المناخية في المنطقة العربية و بكيفية الحد من التأثيرات السلبية لتلك المتغيرات. و يصبح من أولوياتنا المنهجية في اطار هذه المداخلة تحديد أهمية الربط بين المفهومين في ملتقى يبحث في التنمية المستدامة و في اليات دعمها و دعم حقوق الأجيال القادمة في بيئة سليمة.
4- ان الربط بين المفهومين يهدف في الحقيقة الى بلورة التطور التاريخي الذي عرفته العلاقة بين التحكيم و التنمية المستدامة و قوامه تاريخ قائم على التنافر بين المفهومين و حاضر يأبى هذا التنافر و يتجه نحو التواصل بينهما.
5- وبغاية إرساء المقومات الأساسية للبحث اتجه الوقوف بدءا عند تعريف المفاهيم التي يقوم عليها البحث وهي التحكيم من جهة والتنمية المستدامة من جهة أخرى.
التحكيم
6- يعرف التحكيم بكونه الية بديلة لفض النزاعات التي تنشأ عن المعاملات التجارية بالخصوص. ومؤدى الطابع البديل للتحكيم هو ان يحل التحكيم محل قضاء الدولة. فيكون التحكيم بذلك قضاء خاصا تنجز فيه مهمة القضاء من طرف محكمون تعهد لهم مهمة فض النزاعات بمقتضى اتفاق يمضيه المحتكمون ويكون سابقا عن نشوب النزاع ويسمى شرطا تحكيميا او لاحقا له ويسمى الاتفاق على التحكيم.
وباعتباره قضاءا خاصا بديلا فانه لا يجوز في المسائل القانونية التي تهم النظام العام ومنها القانون الجزائي و قانون الجنسية و المواد التي لا يجوز فيها الصلح بصفة عامة. وتبقى العلاقات التجارية منأهم مجالات التحكيم سوآءا كان داخليا او دوليا.
7- ويستمد التحكيم أهميته في المادة التجارية من خلال خاصياته كقضاء يقوم على السرية من جهة والسرعة من جهة أخرى. فرصيد التاجر قائم على سمعته التجارية وعلى ثقة المتعاملين معه في اسمه التجاري ونوعية منتوجه. فاذا حصل و انتشر خبر تورط التاجر في نزاع أي كان موضوعه أمام القضاء الوطني فان الثقة التي يحظى بها لدى المتعاملين معه ستهتز الى درجة ان يفر بعضهم من حوله و يعدلون عن معاملات تجارية كانت في مرحلة التفاوض بغاية الإنجاز.
8- ويعزى ذلك الى كون قضاء الدولة هو قضاء علني ينطق فيه بالأحكام باسم الشعب وفي جلسات علنية مفتوحة للعموم. والامر على خلافه بالنسبة لقضاء التحكيم الذي تستبدل فيه العلنية ب بالسرية التي تميز إجراءات التحكيم وقراراته(2).
9- واعتبارا لجملة خاصياته هذه ظهر التحكيم في شكله المعاصر في المنتصف الثاني من القرن العشرين وشكل يومها القضاء المفضل للتجار ورجال الاعمال واقترن اسمه بنطاق تدخله المتمثل في التجارة الدولية.واكتسى التحكيم التجاري الدولي أهمية بالغة ميزته في بداياته عن غيره من اشكال التحكيم الأخرى.
10- وانطلاقا من هذه الخلفية التاريخية اتجه التذكير والتأكيد على كون التحكيم كقضاء بديل قد ولد وترعرعوشق طريقه في منوال اقتصادي قائم على الاقتصاد الحر او اقتصاد السوق القائم على الخيارات الربحية والداعم لفكرة المال قوام الاعمال.
11- ويطرح السؤال عندئذ بخصوص مكانة التحكيم إذا تغيرت مؤشرات السياسات الاقتصادية الدولية وأصبح منوال التنمية يقوم على اعتبارات تفوق من حيث أولوياتها وقيمتها مجرد الربح لتهتم بالإنسان كانسان يطمح الى أن يعيش في محيط تضمن فيه حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ومن بينها حقه في التنمية المستدامة؟ بصفةأخص ماذا سيكون حكم التحكيم في ظل التوجهات الحديثة للسياسات الاقتصادية التي أصبحت تغيب اليوم الربح ك كهدف أساسي للاقتصاد لتكرس علوية مبادئ أخرى لعل من أهمها مبدا التنمية المستدامة؟
التنمية المستدامة
12- يمكن تعريف التنمية المستدامة بكونها أحد المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها المنوال الاقتصادي الجديد المتمثل في الاقتصاد الاجتماعي والتضامنيوالذي يقوم على مقوم أساسي يتمثل في الارتقاء بالمصلحة الاجتماعية الى مستوى أحد العناصر القانونية لتعريف هذا المنوال الاقتصادي(3).
قانونيا يمكن الحديث عن التنمية المستدامة فيأحدمعنيين اثنين: البعد الاجتماعي للتنمية المستدامةوبعدها الاقتصادي. أما عن المعنى الاجتماعي للتنمية المستدامة فيقصد به مراعاة حقوق الانسان في عمل وأداء المؤسسة الاقتصادية.ومن الحقوق المتجه مراعاتها حق الفرد في بيئة سليمة خالية من التلوث من جهة وفي التمتع بالثروات الطبيعية بطريقة عادلة. وأما عن المعنى الاقتصادي للتنمية المستدامة فيتمثل في ضرورة التزام المؤسسات الاقتصادية بالشفافية والحوكمةالرشيدة من خلال فرض السياسات الاقتصادية الجديدة لالتزام المؤسسات الاقتصادية بوضع تقارير مالية وغير مالية تتعلق بأنشطتها على ذمة مختلف الأطراف المتدخلة في عمل المؤسسة.
13- وتعتبر التنمية المستدامة بتعريفها هذا اليوم خيارا جوهريا للمشرع على المستوى الدولي والوطني.
فعلى المستوى الدولي اقرت المنظمة الدولية لتوحيد المعايير ISO العديد من التوصيات في اتجاه اعتماد منوال التنمية الاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة ومبدأ التنمية المستدامة بصفة خاصة. ونتج عن عمل هذه المنظمة العديد من التوصيات في اتجاه ادماج التنمية المستدامة كخيار جوهري في المؤسسات التعليمية ومنها توصية ISO 21001(4)
اما على الصعيد الوطني فقد اختار المشرع التونسي الانخراط في منوال الاقتصاد الاجتماعي والتضامني منذ سنوات منخلال سن القانون عدد 2020/30 المؤرخ في 30 جوان 2020 المتعلق بالاقتصاد الاجتماعي و التضامني و هو قانون اطار أقر المبادئ التي تؤطر هذا المنوال الجديد للاقتصاد. وكذلك القانون المنظم للمسؤولية المجتمعية للمؤسسة الصادر في 11 جوان 2018.
14- وقد ورد في احكام القانون الاطار تعريف للمبادئ الحاكمة للاقتصاد الاجتماعي و التضامني في الفصل الرابع الذي عدد سبعة مبادئ ارتقى مبدا التنمية المستدامة الى مستوى الصدارة فيها اذ ورد على راس القائمة و هو ما يؤكد الأهمية التي يكتسيها هذا المبدأ في خيارات المشرع التونسي بصفة خاصة و في الخيارات الدولية بصفة عامة.
15- و لا جدال في ان مثل هذه المتغيرات ستؤثر على التحكيم الذي نشا و ترعرع في اطار منوال اقتصاد حر و في اطار مؤسسات مغلقة محكومةبمبدأ السرية من جهة و على مبدا الحرية التعاقدية الذي يحكم العلاقة بين المحتكمين من جهة و المحكمين من جهة أخرى و هي كلها مبادئ تتعارض مع المبادئ المشار اليها سابقا و التي يقوم عليه منوال الاقتصاد الاجتماعي و التضامني.
16- وعلى اعتبار شواغلنا في اطار كرسي الالكسو للتحكيم التجاري الدولي في الاهتمام بالتوجهات الحديثة للمشرع الدولي في مجال التحكيم التجاري الدولي و نظرا لكون الأبحاث الفقهية المتصلة بالتحكيم في علاقته بالتنمية المستدامة تتبوا اليوم مكانة خاصة في الساحة الفقهية الدولية بصفة عامة(5) و في اطار أنشطة كرسي الالكسو للتحكيم التجاري الدولي بصفة خاصة.
17- وبغاية الحرص على مواكبة هذه الخيارات اختارت العديد من المؤسسات التحكيمية في العالم الانخراط في التوجهات الحديثة الداعمة لمبدأ التنمية المستدامة. هذا الخيار الذي يفرضه المنوال الاقتصادي الجديد سيشكل منعرجا جديدا في تاريخ التحكيم الذي دعي في السنوات الأخير الى مصافحة التنمية المستدامة فوجد نفسه مضطرا الى ان يضرب لها موعدا مع التاريخ (II) بعد ان كان لقاؤه معها صعبا وان وجد فعن طريق الصدفة تاريخيا (I).
I-التحكيم و التنمية المستدامة : لقاء الصدفة
18- تاريخيا ما كان للتحكيم ان يلتقي بالتنمية المستدامة وان كان اللقاء فسيكون من قبيل الصدفة لاختلاف المبادئ الحاكمة لكليهما على المستوى القانوني (أ)و لانتماء كل واحد منهما الى منوال اقتصادي معين(ب).
أ- المبادئ القانونية: مرجعيات متعارضة
19- يقوم التحكيم على مبدأ الحرية بينما تقوم التنمية المستدامة على ضرورة الحد من حرية الافراد لفائدة المصلحة الاجتماعية.ويقوم التحكيم على السرية بينما تستمد التنمية المستدامة قوتها من شفافية المعاملات وترجمتها التقارير المالية وغيرها من التقارير المتعلقة بأنشطة المؤسسة الاقتصادية.
1- مبدا الحرية في مواجهة مبدأ المصلحة الاجتماعية
20- تعتبر الحرية الأصل الذي يتحرك فيه التحكيم في مبتداه و في صيرورته ومنتهاه. فالتحكيم مثلما سبق تعريفه هو اتفاق بين المحتكمين على اخراج النزاع بينهما عن انظار القضاء الوطني و تكليف محكمين خواص افراد أو مؤسسات بفض النزاع بينهما. و باعتباره كذلك فلا يمكن للتحكيم مبدئيا ان يفرض على أي كان من المحتكمين كمبدأ و لا كهيئة. فطرفا الخصومة يتفقان على تعيين المحكمين وعلى إجراءات الخصومة التحكيمية وعلى مبدأ واليات الطعن في القرار التحكيمية بعد صدوره(6).
21- وتعتبر الحرية من المبادئ الحاكمة للتحكيم وقد اقرتها جميع النصوص القانونية الدولية والوطنية ومن بينها مجلة التحكيم التونسية. هذاوتتجه الإشارة الى ان حرية التحكيم هي مستتبع من مسستتبعات حرية التجارة الدولية و في جوهرها بالخصوص حرية اتفاق طرفي العقد على مضمونه في اتجاه تحقيق مصالحهما المشتركة.
22- وفي صورة وجود نزاع حول تنفيذ العقد فان المحكين سلتزمون بمضمون الشرط التحكيمي او الاتفاق على التحكيم وسيحرصون على البحث على الإرادة المشتركة للطرفين ومنها مصلحتهما المشتركة(7).
23- ولئن كانت الحرية على مثل هذا المقام في التصور الاقتصادي التقليدي القائم على مبدأ "دعه يعمل دعه يمر" فانه قد تراجعت اليوم لتصبح محكومة بمبدأ المصلحة الاجتماعية للمؤسسة في اطار المنوال الاقتصادي الاجتماعي و التضامني.
24- تعتبرالمصلحة العامة للمؤسسة اليوم حدا لحريةالأطراف في اطار عقد التجارة الدولية بصفة خاصة و غيره من العقود الاقتصادية بصفة عامة. وقد تضمنت التشريعات الاقتصادية الحديثة تكريسا صريحا للمصلحة الاجتماعيةكغاية أساسية تلتزم المؤسسة بتحقيقها في اطار كتبها التاسيسي و برامج و استراتيجيات عملها. ويمكن ان نجد اليوم استبيانات الرضا(8) التي تعممها المؤسسة على شركائها خير مثل على التزام المؤسسات الاقتصادية اليوم بالمصلحة الاجتماعية.
ولعل من ضمانات هذه المصلحة الاجتماعية التزام المؤسسات بالشفافية في جميع أنشطتها الاقتصادية.
2- مبدا السرية في مواجهة مبدا الشفافية
25- لئن كان التحكيم قائما على السرية فان التنمية المستدامة -قوم على معايير الشفافيةو منها ضرورة التزام المؤسسات بوضع تقاريرها المالية و غير المالية على ذمة مختلف الأطراف المتعاملين مع المؤسسة و منهم بالخصوص دائنوها و شركاؤها. وقد ارتقى مبدا الشفافية اليوم الى مستوى المبدأ الحاكم لأنشطة المؤسسة في اطار خيارات اقتصادية دولية ووطنية جديدة.
ب- الخيارات الاقتصادية: اختلافات جوهرية
26- ينتمي التحكيم الى منظومة الاقتصاد الحر القائمة على الفردانية وعلى الغايات الربحية ينحدر بذلك من مرجعية اقتصادية مختلفة اختلافا جوهريا عن التنمية المستدامة التي تتلاءم مع متطلبات و مبادئ المنوال الاقتصادي القائم على المصلحة الاجتماعية.
II- التحكيم و التنمية المستدامة: موعد مع التاريخ
27- لا يمكن للتحكيم ان يبقى بمعزل عن التوجهات الاقتصادية الدولية التي تبوؤ التنمية المستدامة مكانة هامة.والمتأمل في واقع التحكيم اليوم على مستوى النص (أ) والممارسة(ب)لا يفوته ان يلاحظ تطويعا للمبادئ التي تحكمه بغاية الانخراط في التوجهات الحديثة للمنوال الاقتصادي و الاجتماعي.
أ- على مستوى القانون
1- الفقه: اخلقه قانون الاعمال
28- يشتغل شراح القانون اليوم على ما يسمى بمبادئ القانون المرنة والتي تهدف الى توجيه مضامين عقود التجارة الدولية نحو اعتماد البنود الخاصة بحقوق الانسان في اطار ما يسمى اليوم باخلقة قانون الاعمال بصفة عامة و قانون التحكيم بصفة خاصة(9).
2- التشريع: واجب الحيطة
29- ارتقى واجب الحيطة الذي تتحمل به المؤسسات الاقتصادية الى مستوى الواجب التشريعي الملزم للمؤسسات و نخص بالذكر منها قانون قرونيل لسنة 2009 المنظم للتنمية المستدامة في فرنسا.
ب- على مستوى الممارسة
1- ضرورة اعتماد المؤسسات التحكيمية على مدونات سلوك.
2- انخراط المؤسسات التحكيمية الكبيرة في الخيارات الاكاديمية الداعمة للتكوين في مجال التحكيم والتنمية المستدامة.
3- كرسي الالكسو للتحكيم التجاري الدولي انخرط في هذا التوجه الداعم للتكوين في مجال التحكيم والتنمية المستدامة وهو يعلن من هذا المنبر عن توجهه نحو تامين هذه الدورات التكوين بمشاركة خبراء وطنيين ودوليين و تحت برعاية المنظمة الراعية لكرسي الالكسو للتحكيم التجاري الدولي و تحت اشراف جامعة تونس المنار التي نالها شرف توطين الكرسي لديها.
و الله ولي التوفيق
الأستاذة نجاة البراهمي الزواوي
مديرة كرسي الالكسو للتحكيم التجاري الدولي
1) محاضرة وقع تقديمها في اطار المنتدى العربي الأول لشبكات المدارس و النوادي و الكراسي العلمية المنتسبة للالكس"دور القيادات الشبابية و المجتمع المدني في التصدي لمخاطر التغيرات المناخية في المنطقة العربية"مقر المنظمة 17-18 ديسمبر 2024.
2) حول التحكيم بصفة عامة و خاصياته بالنسبة لقضاء الدولة بصفة خاصة يراجع الأستاذ نور الدين قارة:قانون التحكيم (مقدمة عامة-التحكيم الداخلي) مركز النشر الجامعي طبعة ثانية 2025.ص13 و ما يليه
3) يراجع حول جملة هذه المبادئ الفصل 4 من القانون عدد 2020/30 المؤرخ في 30 جوان 2020 المتعلق بالقانون الاجتماعي و الاقتصادي.
حول دراسة شاملة لهذا القاون تراجع
Brahmi Zouaoui(N),La loi n 2020/30 relative à l’économie sociale et solidaire ou la nouvelle éthique des affaires et de l’entreprenariat en Tunisie, in Mélanges offerts au PrM.KAMEL.Carfeddines, CPU 2023, P527
4) يراجع مرجعنا أعلاه الهامش عدد 3.
5) تراجع اعمال الملتقى الدولي تحت اشرا الاساذ فيلالي عصما:
Osman(F)(Sous-direction) : Droits de l’homme et droit du commerce international, Revue internationale du droit des affaires, ,n34, Sweet /Maxwell
6) يراجع الأستاذ نور الدين قارة المرجع المذكور سابقا ص 16 و ما يليه
7) تراجع في ذلك
Brahmi Zouaoui(N) L’offre, l’acceptation et le contrat in Le nouveau droit français des contrats dans l’arbitrage commercial international, Revue de droit des affaires, 2017.
8) Questionnaire de satisfaction.
9) ترتقي اخلقة قانون الاعمال اليوم الى مستوى المادة القانونية المستقلة بذاتها التي تدرس على منابر العديد من الجامعات الدولية.
- اكتب تعليق
- تعليق