أخبار - 2024.12.18

الجامع الكبير بصفاقس، في كتاب رائع للأستاذ فوزي محفوظ

الجامع الكبير بصفاقس، في كتاب رائع للأستاذ فوزي محفوظ

بقلم رضا القلال (مؤرخ وكاتب صحفي) - يُمثّل الجامع الكبير بصفاقس الذي يعود بناؤه إلى 1200 سنة، قيمة دينيةّ، معمارية وتاريخية استثنائية لم تحظ بما فيه الكفاية من عناية الباحثين ولا حتى بكتاب واحد.

وها هو الأستاذ فوزي محفوظ يتذكّر ذلك بإصداره لكتاب قيّم نشرته دار محمد علي. وقد تولّى تقديمه مؤخرا بصفاقس فيما رتّبت المندوبية الجهوية للثقافة بالتعاون مع المعهد الفرنسي بتونس، (فرع صفاقس) زيارة ميدانية لهذا المعلم في تزامن يوم 18 ديسمبر 2024 باحتفاليّة اليونسكو باليوم العالمي للّغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر من كلّ عام. وللإشارة فإن هذا الكتاب يذكر محراب الجامع الكبير المحلّى بزخرفة هندسية وكتابة كوفية لآيات قرآنية، وأبيات شعرية يفتخر فيها الشاعر على الغراب بالمسجد:

ته يا صفاقس وافتخر طول المدى *** عجبا بمسجدك العديم مثاله
سيما بمحراب تكامل حسنه *** ويزيد في نظر اللّبيب جلاله

ثم إنّ الأستاذ فوزي محفوظ أصدر سنة 2017 كتابا، مشتركا مع أ. د. لطفي عبد الجواد المختصّ في الكتابات والنقائش العربية، موسوما: «مدوّنة النقائش العربيّة بمعالم مدينة صفاقس". والأستاذ فوزي محفوظ علامة ودلالة فائقة في التاريخ الوسيط وفي الأركيولوجيا الإسلامية، وفي معرفة خصائص مساجد القيروان والمهدية وجامع الزيتونة والجامع الكبير بصفاقس. وقد اشتغل كثيرا على موطنه، صفاقس، من خلال عدة مؤلفات منها "الدينامية الإقتصادية بصفاقس، بين الماضي والحاضر"، وهو كتاب توثيقي، لفعاليّات ندوة علمية بمعيّة أ. د. علي الزواري وأ. د. رياض الزغل، والكتاب المشترك حول "صفاقس من خلال البطاقات البريدية"، مع د. ناصر البقلوطي ود. نبيهة الجدّي وسمير السلامي. كما ناقش أطروحة الدكتوراه في الأركيولوجيا والحضارة الإسلامية سنة 1988 بالسوربون، وكان عنوانها: "المدينة العتيقة بصفاقس، بحوث في أركيولوجيا المعالم والتطوّر الحضري"، وهي أوسع وأضخم الأعمال، التي صدرت عن تاريخ صفاقس، في ماضيها وحاضرها. قادته خبرته العالمية إلى العمل في مسقط بسلطنة عمان لإنجاز متحف "بيت البرندة"، ومثّل تونس لدى مركز التراث العالمي باليونسكو(باريس)، وفي الكثير من المناسبات لدى الألكسو(تونس) وهو خبير معتمد لدى الأيسيسكو (الرباط). والأستاذ فوزي محفوظ عاش في تونس وأحاط بتاريخها وآثارها، وكان ملتزما وفيا تجاه وطنه وأهله ومدينته وطلبته وأصدقائه.

1 - الجامع الكبير بصفاقس: مدرسة نموذجية لمساجد القاهرة والنورمان نقلوا هندسة قبابه

نُورد هنا حزمة من مكتشفات الأستاذ فوزي محفوظ بخصوص الجامع الكبير بصفاقس، الجامع الأعظم تاريخيا وأركيولوجيا، مع لفت الانتباه إلى أنّ الجامع الكبير بصفاقس يحتفل سنة 2025 بمرور 1210 سنة، حسب التقويم القمري، على تأسيسه (235-1445) هجري:  
الجامع الكبير بصفاقس معلم بارز في تاريخ العمارة الإسلامية، يتمتّع بسمعة عالمية، ويدرّس في كلّ الجامعات إلى اليوم. وفي الأركيولوجيا الإسلامية، وليس هناك كتاب لا يتعرض للجامع الكبير بصفاقس.

الجامع الكبير بصفاقس ثاني جامع شيّد في العهد الأغلبي، بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان. تاريخ بناء جامع القيروان(221هجري)، جامع صفاقس (234هجري)، جامع سوسة (237 هجري)، وجامع الزيتونة (250 هجري).

الجامع الكبير بصفاقس عاش بعد تأسيسه 130 سنة تقريبا على وضعه الأصلي، ثم أعيد بناؤه كليا سنة (378هجري /988م). وهذا الجامع يكتب تاريخه بتاريخه، لأنّه مؤرّخ تأريخا جيّدا. وقد أعاد تأسسه الأمير الزيري الثاني، أبو الفتح المنصور عدّة العزيز بالله، والعدّة هي العائلة، والعزيز بالله هو الخليفة الفاطمي. بحيث يعتبر المنصور نفسه مؤسّس هذا الجامع، وأنّه أوفى الأوفياء للخليفة الفاطمي.

الجامع الكبير بصفاقس مهمّ جدا في تاريخ العمارة الإسلامية، فهو الجامع الرابع مباشرة في الفترة الفاطمية من الناحية التاريخية، ولكن من الناحية الفعلية هو الثالث. لأن جامع المهدية أعيد كليّا مع يوسف صاحب الطابع، وليست له أيّة صبغة فاطمية إطلاقا، ولم يعد يعرف من الناحية الواقعية. وفي الستينيات من القرن العشرين تمّ إعادة جامع المهدية، انطلاقا خاصة من النظر في جامع صفاقس، وبذلك انعكست الأدوار. جامع الأزهر شيّد قبل الجامع الكبير بصفاقس الذي هو جامع الدولة الفاطمية. بناه المعز لدين الله الفاطمي، الذي هو ابن المهدية. جامع آخر في القاهرة هو جامع الحاكم بأمر الله، الذي هو سابق لجامع صفاقس الكبير بحوالي 12 سنة. بناه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. لقد كانت صفاقس تنظر إلى الشرق، والذي يقع بصفاقس يصل بسرعة إلى الشرق، وقد اشتغل أ. د. علي الزواري على هذه العلاقة.

الجامع الكبير بصفاقس يتوسط المدينة العتيقة بصفاقس، على خلاف المدن التونسية الأخرى (سويو، القيروان، تونس...) زلا نجد مثالا لموقع الجامع في وسط المدينة سوى الكوفة بالعراق، الذي كتب عنها الأستاذ المؤرخ هشام جعيط، وهكذا تبدو المدينة التاريخية بصفاقس، مرة أخرى، مثالا فريدا من نوعه.

في الفترة الزيرية تقلّص حجم الجامع، خسر تقريبا الشطر الغربي منه، والذي تحول إلى منازل وبالخصوص إلى حوانيت. ولكن في المقابل ازدادت أهمية الجامع، بدرجة عالية، لأن أسلوب الزخرفة والزينة شهد تغيرا عميقا وجذريا. فأضحى العنصر المعماري هو الذي يزين الجامع وهذا على خلاف الزخارف الأغلبية التي يمثل مسجد ابن خيرون بالقيروان أحسن مثال لها من خلال زخرفته الكسائية، ففي جامع صفاقس تقتصر الزينة على العناصر المعمارية (القوس والطاقة المجوفة أو المسطحة والطنف). والواجهة الشرقية لجامع صفاقس لا مثيل لها في العالم. وستصبح مدرسة نموذجية للجامع الأقمر ولجامع الطلائع ولجامع صلاح الدين بالقاهرة.

صفاقس معروفة بأنّها سُنِيّة المذهب. وبعد أن أصبحت الشيعة مهيمنة على المدينة، هاجر عدد كبير من السكان من أهل السنة الجامع الكبير، وتقلّصت أعداد المصلين به كثيرا. ولهذا السبب تم تشييد، في الفترة الزيرية الشيعية نفسها ما بين 5 و10 مساجد صغيرة على الأقل، لجأ إليها المتشبثون بالمذهب السني.

عندما احتل النورمان صفاقس بقوا بها حوالي 10 سنوات. اتخذوا صفاقس مركزا أساسيا لها، ولم يبقوا كثيرا في المهدية. وأخذوا الشيخ حسين الفرياني من صفاقس رهينة عندهم في صقلية ثم أعدموه بعد ثورة المدينة. النورمان نقلوا هندسة قباب الجامع الكبير، القبة الجميلة أمام المحراب، والقبة بالرواق القبلي من الصحن إلى صقلية، واقتصر استعمالهم للقباب على نماذج القباب الصفاقسية، وهم يقرّون بذلك.

بالجامع الكبير بصفاقس أبواب فريدة من نوعها، الذين صنعوها "سطوات"، أو "معلمين" صفاقسية في نقش الأبواب. وقد استنجدت بهم القيروان لصنع أبواب جامع عقبة بن نافع. وإذا كانت مدينة صفاقس بدأت مدينة طرفية تابعة للقيروان، لكنها في النهاية اصبحت هي المركز، عندما اكتشفوا كفاءة الصنايعية الصفاقسية في البناء والحدادة والنجارة. الأبواب العشرة التي صنعها في نهاية القرن 12 للهجرة المعلمان أحمد الشرفي ومحمود المسدي، وتشهد نقائش هذه الأبواب الرائعة على تضج الفنون وتقدمها في صفاقس.

بالنسبة للقطي والمنيف فقد وقع ذكرهما منذ العهد الحفصي، ولكن في الفترة العثمانية، وهذا ذكر في النقاشات وليس في الكتاب، أصبح يشكل هذا الثنائي المقاولة الرسمية للدولة في الجنوب التونسي. ولهذا نجد المنيف في بناء جامع قابس ويتدخل في الجامع الكبير بقفصة وفي توزر. ويشيد ويرمّم ليس المساجد فقط، إنما أيضا العمارة السكنية.

2 - أربعة نقائش نادرة من الفترة الزيرية 

النقيشة الأولى

النقيشة المؤرخة في (378هجري/988م) لا وجود لها تقريبا في غير الجامع الكبير بصفاقس. وقع محو كل ما يتعلق فيها بالشيعة، ونذكّر بأن هذا الجامع أعاد بناءه أبو الفتح المنصور عدة العزيز بالله. وقد أخذ الأستاذ فوزي محفوظ جملة (صلى الله على نبيه محمد وع.. على أبرار عترته الطيبين) من نقيشة أخرى في باب الجبلي، لا يعرفها الكثير، والتي هي نسخة طبق الأصل من هذه النقيشة، ولكنها تؤرخ طبعا لباب الجبلي (صلى الله على نبيه محمد وع.....). وقد فسخت هذه النقيشة، بضربها بالمطرقة أو مطرقتها، عند عودة السنة سنة 444 هجري، مع الأمير الزيري المعز بن باديس (أبو تميم). الذي أمر بمحو كل آثار الشيعة، بصهر نقودهم، وإخفاء كلّ ذكرهم. ومن حسن الحظ أنّ التاريخ بقي قائما.

النقيشة الثانية

هذه النقيشة، أو اللوحة القديمة، هي بالتأكيد بيزنطية لأنّها مكتوبة بالأحرف الإغريقية، التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي. وقع اكتشافها سنة 1902، وهي مأخوذة من كنيسة في القرن 5 م، ونجد فيها طاووسا على اليمين وطاووسا على اليسار، مع وديكور من أوراق وعناقيد العنب، وبوسطهما مزهرية. وهذه الوثيقة، وخاصة الطاووس، لها قيمة كبيرة عند المسيحيّين، الذين يؤمنون به على أساس أنّه من عجائب خلق الله. وفي أدبيات الشيعة هناك كتاب معروف، ينسب إلى علي بن أبي طالب هو "نهج البلاغة"، وهناك كتاب شيعي آخر عنوانه "منطق الطير" وفيه تركيز على الطاووس، بأنّه من عجائب واكتمال الخلق. وعندما وجد الشيعة هذا الطاووس وضعوه في الجامع الكبير، مع الانتباه كما يقول الأستاذ فوزي محفوظ، أن الرمزية المسيحية لهذه القطعة قد اندثرت، ولم يعد عندها معنى عند المسلمين. وبالتالي لم يعد لهم مانع في وضعها، خاصة وأنّ هناك لوحة عثر عليها في القاهرة. واللوحة مشابهة تماما للوحة صفاقس، ونجد فيها نفس الموضوع. والأقرب أنّ بعض الصفاقسيين ذهبوا إلى قصر الخليفة في فترة المنصور الذي سمّى نفسه عدّة العزيز بالله، أعجبته اللوحة، وعندما عاد إلى صفاقس عثر على لوحة مماثلة في إحدى المناطق الأثرية (طينة، يونقة) فوضعوها في الجامع الكبير بصفاقس. وبذلك يضربون عصفورين بحجرة. من ناحية إرضاء الشيعة في البلاد، ومن ناحية أخرى إرضاء المسيحيين الموجودين بأعداد كبيرة في إفريقية في حدود عام 1057م. وقد أشار الأستاذ فوزي محفوظ إلى نقيشة لاتينية مسيحية، عثر عليها في القيروان، تذكر في التقويم الهجري (تقويم الكفرة). بما يعني أنهم كانوا يعيشون في القيروان ويكتبون باللاتينية، ويؤرخون بالمسيحي والهجري.

الوثيقة الثالثة

هذه وثيقة أخرى تعود إلى 478 هجري، تذكر في الأخير حمو بن مليل البرغواطي، الذي استقل بصفاقس عن المهدية. هذه النقيشة لا يوجد مثيل لها. ففي الفترة الزيرية أقاموا محرابا جديدا فيه زخرفة معمارية بالأساس، وبدؤوا في إعادة استغلال الآثار القديمة (مثل تاج جوبيتير)، وتطويعها.
وقد أقدم البرغواطي على ضرب العملة، كدليل على سلطة الدولة، ورمّم الجامع الكبير بصفاقس أيضا، ليظهر نفسه كقوة سياسية رمزية، وكأمير مثل أمراء المهدية، أو افضل منهم.

النقيشة الرابعة

الجامع الكبير بصفاقس هو الوحيد الذي له محراب خارجي في الغرب الإسلامي، لا مثيل له في القيروان، ولا في المهدية، ولا في جامع الزيتونة. هذه اللوحة فيها قرآن كريم، وتضمّنت عنصرا معماريا طوره الشيعة، هو العنزة (بفتح العين والنون)، الذي هو المحراب الخارجي. بما يعني أن الفترة الزيرية هي فترة شيعية، وقد عرفت عدة تحولات منها مفهوم العنزة.على سبيل الخاتمة

كتاب "الجامع الكبير بصفاقس، 1200 سنة من الفن والتاريخ" كما يقول الأستاذ فوزي محفوظ لم ينجزه "بشمولية"، ولكن سطّره بحب، وأهداه لأجداده ولعائلته ولمسقط رأسه، مرتع صباه وطفولته وجزء من شبابه قبل نيل الباكالوريا. ودلّه البحث في هذا الكتاب على أحد جدوده، وكان اسم جدّه حسن بن علي بن محفوظ، وبن محفوظ أصل لقب العائلة. كان يملك في القرن 19 منزلا في حي الحميدية، وغرفة في قيسريّة سوق الغزل، تسوّغهما من وقف الجامع الكبير. ولا يمكن أن أقفل هذا المقال، دون الإشارة إلى الكيمياء الخاصة، أو البصمة الشخصية، التي يتمتّع بها صديقي العالم الأستاذ فوزي محفوظ. من الصوت الدافئ إلى لطفه مرورا بتواضعه. والحقيقة لا تروقه دائرة الأضواء، ولكنه يملك ثقة بالنفس وبعلمه وبأريحية العلاقات التي يقيمها. الجامع الكبير بصفاقس، يمتلك قيمة عالمية استثنائية، كما أبرز ذلك تاريخيا وأركيولوجيا، الأستاذ فوزي محفوظ في موسوعته "الجامع الكبير بصفاقي، 1200 سنة من الفن والتاريخ". ولمزيد اشعاع هذا العمل البحثي الذي امتد على أكثر من 30 سنة، علينا توظيف معطياته في وسائل الاتصالات الحديثة، والتفكير في إنجاز شريط فيديو أو شريط وثائقي من قبل مؤسسات ذات صلة بالتراث والسياحة مثل المندوبية الجهوية للسياحة بصفاقس، أو وكالة إحياء التراث، أو المعهد الفرنسي بصفاقس الذي دعا بالتعاون مع المندوبية الجهوية للثقافة بالجهة إلى هذا الزيارة التاريخية الثقافية الفريدة للجامع الكبير بصفاقس.

رضا القلال
(مؤرخ وكاتب صحفي)
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.