أخبار - 2024.11.18

عزّالدّين المدني: أضواء على تنظيم المجامع

عزّالدّين المدني: أضواء على تنظيم المجامع

يرجع أصل مفهوم المجمع ووجوده إلى حضارة الإغريق القديمة قبل ميلاد المسيح. فلقد أسّس أفلاطون في أثينا الأكاديميّة الخاصّة بفلسفته. ثمّ توالى فلاسفة آخرون بعده لتأسيس ديارهم كلُقْيوم أرسطو ورواق زَيْنُون مثلًا. وكانت الغاية نشر تعاليمهم ومعارفهم بين مريديهم مع مناقشتها ونقدها وتمحيصها بكلّ حرّية لأنّ المجال هو مجال معرفة لا مجال سلطة ولا سياسة. ونحن نعلم أيضًا أنّ الإسلام في عهوده النّيرة قديمًا قد كانت بعض المساجد والجوامع عامرة بحلقات الأشعرية والمعتزلة العقلانيين إلى غير ذلك من حلقات الملل والنِّحل والفلاسفة والمفكّرين العرب المنعقدة حتّى في محلّات الورّاقين والنُّسَّاخ حسب شهادة أبي حيّان التّوحيدي. وقد تأسّس بيت الحكمة العربي الأوّل على عهد الخليفة المأمون العبّاسي أيّام كان العرب منكبّين على معرفة علوم الأوائل وآدابهم الفكرية. وقد جمع المأمون فيه بالإضافة إلى العلماء العرب علماء السّريان والرّوم المستعربة والفرس وكلّفهم بالتّرجمة لمخطوطات الإغريق والّلاتين والتّحقيق وأجرى عليهم سواء هو أو رجاله التّكرمة والأموال، ووفّر لهم مباشرة أو غير مباشرة مخطوطات علماء الإغريق ومفكّريها في العلوم الصّحيحة والطّبّ والآداب والفلسفة وقد كانت من مكتبة الرّهبان يجندي سابور على مشارف العراق.

كان الخليفة المأمون أحد الأسباب الرّئيسيّة في دفع الحضارة العربية الإسلامية نحو القمّة، نحو عهدها الذّهبي، نحو سلطان المعرفة في العالم يومئذ، وذلك بإنشائه بيت حكمة وفتح المجال للتّفكير الحرّ، وإن كان تفكير النّخبة نسبيًّا ومتأرجحًا بين الاعتقاد الدّيني بأن القرآن قديم أو مخلوق. ومعنى كلمة مخلوق في أيّامنا هذه أنّ القرآن تاريخيّ بجميع معاني المصطلح ومفاهيمه الّتي لا يحصرها حصر.

    لم يكن بيت الحكمة على ذاك العهد العبّاسي المزدهر كُتّابًا للتّعليم ولا مدرسة ولا معهدًا ولا كلّية بل كان عبارة عن تجمّع بين أكابر المثقّفين وخيرتهم. وهذه الصّفة نجدها متوفّرة في مجمع الّلغة العربية بالقاهرة، وفي الأكاديميّة الفرنسيّة بباريس، وفي أكاديميّات أوروبيّة كذلك مثل الأكاديميّة الألمانية والأكاديميّة الرّوسيّة السّوفياتية (سابقا).

وفضاء المجمع هو فضاء المجمعيّين بلا منازع لم يزاحمهم فيه أحد كبر شأنه وسلطانه أو صغر. إنّه فضاء مخصوص. فهذه الصّفة تطلق اليوم أيضًا على مقّر مجمع الّلغة العربية بالقاهرة كما تطلق على مقّر الأكاديميّة الفرنسيّة الّتي تأسّست منذ قرون على يد الكردينال الوزير روشيليو. ولا حاجة لنا أن نضرب أمثلة بالمجمع الألماني أو بالمجمع الرّوسي، على أنّنا نقول إنّ هِتْلِر بِعَنْجَهِيَتِهِ الشّهيرة ضدّ الفكر والمفكّرين لم يقدر على المجمع الألماني كما لم يستطع ستَالِينْ الحاكم الكلياني أن يهيمن على المجمع الرّوسي (السّوفياتي سابقًا) رغم أنّه كان مؤلفًا شهيرًا في علم الّلغة مثلما تدّعي الدّعاية الشّيوعيّة.

لا هرمّية ولا انتخاب في الأكاديمّية الفرنسيّة وأيضًا لا في مجمع الّلغة العربيّة الّلهم إلّا في مواضيع معيّنة معظمها إداريّ للتّواصل والإعلام والتّصرّف. ولا تراتب ولا أفضليّة بين الأعضاء ولا بين الّلجان لأنّ المجمع ليس بمكان سلطة وحكم بل هو مكان للبحث الفردي والجماعي وللثّقافة برّمتها وللمعرفة قصد العمل لفائدة اليوم والغد وعلى مدى طويل ليشمل الإنسان في المستقبل هو وأولاده وأحفاده.

ومن الغلط أن يجمع المجمع كلّ فروع الثّقافة والمعرف في هيئة واحدة وأنشطة متعدّدة ومختلفة في آن واحد. فلا بدّ إذن من الاختصاص في فرع أُمٍّ للثّقافة والفكر. والاختصاص هو سرّ الإفادة والتّقدّم والنّجاح والإشعار، لا التّعميم! مثل ما يفعل مجمع الّلغة العربيّة من حيث عناصرها وعواملها وقديمها وحديثها وسماحتها مع الزّمن الرّاهن والآتي وآدابها وفنونها بالإضافة إلى فنّ الموسيقي وفنّ الصّورة، ومعالجتها للعلوم الصّحيحة وللتّقنيّة وللتّكنولوجيا وربما في الغد للذكاء الاصطناعي.

وإذا كان الأمر المجمعي يتجنّب عملية الانتخاب للأعضاء الجدد فإنّ المجمعيين القدماء عليهم أن يقترحوا انخراط فُلَان كعضو جديد بينهم لكي يكون زميلًا لهم. وفي غالبيّة الشّأن يتطوّع عضوان من القدماء السّابقين أو حتّى ثلاثة لتَرْشِيح من يرونه أهلًا من حيث القيمة العلميّة أو من حيث قيمة إبداعه ليتبّوأ مقعدَ مجمعيٍّ سابقٍ في حالة شغور، والمقعد منقوش باسم من سبقه إليه ليتبوّأه وليكون معروفًا به، وكأنّ صفة "فلان المجمعي" تصير ملتصقة بالعضوي الجديد كالتّصاق الهويّة بالمواطن مدى الحياة فلا تتغيّر...

ونحن نعلم أنّ العادة في الأكاديمية الفرنسية وفي مجمع الّلغة العربية تقضي بأن يلقي العضو الجديد كلمة في حفل تنصيبه لشكر من اقترحوه وعرفوا بالدّقّة قدره الفكري وأعماله الماضية ومشاريعه الآتية، ولهم ثقة به وإكبارًا وإعزازًا لأنّه سيكون ضمن عائلة المجمعيين.

إنّ كاتب أو أمين عام المجمع لا يتعيّن في مهمّته إلّا بالتّوافق، وذلك من بين المجمعيّين أَوّلًا ثمّ من بين المثقّفين الأكابر القريبين من المجمع ومن مهمّاته. وإنّ كلّ ما يقوم به هو بالتّشاور مع المجمعيّين حتّى يتمّ له القيام بدوره على صعيد الإعلام والنّشر والتّرويج وتوزيع دورية رسمية تصدر عن المجمع فليس له أن يتّخذ قرارًا بمفرده أو بشكل مباغت للجميع! فالتّعاون إنّما هو أحد أسس نجاح أيّ مجمع. ورحم الله أمين عام مجمع الّلغة العربيّة بالقاهرة السّابق الفيلسوف الدّكتور إبراهيم بيّومي مدكور الّذي قام بدوره كاملا. بنجاح منقطع النّظير.  

عزّالدّين المدني
 
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.