مسافر زاده الخيال - قراءة في كتاب واجب الذاكرة: حقيبة إعلامي أممي في عالم متقلب
بقلم د. وحيد خضراوي - اختزال مسيرة مهنية تمتد على أكثر من أربعة عقود ليس بالأمر الهيّن لاسيما إذا كانت هذه المسيرة حافلة بشهادات تتصل بأحداث هامّة وبمحطات فارقة.
احترتُ بعد قراءة "واجب الذاكرة"، كيف أنتقي ما هو حَريٌّ بالإبراز في وثيقة ثريّة غير مسبوقة كل محتواها جدير بالتوقف عنده والتعليق عليه.
فكلّ فصل فيها يوثّق لمراحل مفصلية في المشهد الإعلامي التونسي كما يوثّق للتجاذبات وحتى الصّراعات التي رافقت تموقع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في المنظومة الأممية.
يقال كلّ الطّرق تؤدّي إلى روما ! وقد مثّل الإعلام لصديقنا وزميلنا عبد المجيد الشّعار طريقا سالكا إلى روما وبالتحديد إلى منظمة الفاو حيث انتقل من الشّأن الوطني إلى الأممي : من رئيس تحرير الأخبار في التلفزة الوطنيّة في السبعينات إلى المشرف على دائرة الإعلام والاتصال في منظمة الفاو التي اضطلع فيها الإعلام بدور محوري إستراتيجي بالخصوص في فترة مديرين عامّين استثنائيين هما اللبناني "ادوار صوما" والسنغالي "جاك ضيوف".
على مدى ثلاثة عقود في موقع قيادي في منظمة الفاو، أدار عبد المجيد الشّعار ملف الإعلام والاتصال لا كإعلامي عادي في منظمة أممية، بل برز فيها بكفاءته المهنية كصاحب مبادرات متميزة وكمهندس لمشاريع رائدة ذات إشعاع دولي.
هذا الحس الإعلامي المرهف وروح المبادرة لازما زميلنا وصديقنا عبد المجيد الشّعار في التلفزة الوطنية لدى إشرافه كرئيس تحرير على قسم الأخبار التلفزية وبعد ذلك على دائرة الإعلام في منظمة الفاو.
إدارته لقسم الإخبار في التلفزة الوطنية
كان المنسّق اللّبق والمنشّط الماهر لفريق من الإعلاميات والإعلاميين فسح لهم المجال للبروز والتّألق في كنف روح الزّمالة وعرف كيف يمتصّ الضغوط وهي كثيرة، التي كانت تمارس من خارج مبنى التلفزة ويصرّفها بحكمة حفاظا على مصداقية الخطاب الإعلامي الرّسمي واحتراما لشخصية الزملاء بل أخذ في بعض الحالات بزمام المبادرة وأقنع أصحاب القرار بوجاهة التمشي الواجب إتباعه لصالح النّظام الذي يعتبر التلفزة واجهته وامتدادا له.
ومن الأمثلة على ذلك، إدارته باقتدار وحرفية بعد أخذ وردّ، التغطية التلفزية لزيارة الرّئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل وإنتاجه لبرنامج تلفزي سياسي متميّز عنوانه "نحن والعالم " (صورة غلاف الكتاب مأخوذة لإحدى حلقاته) والذي مثّل منبرا سياسيا مرموقا ومؤثرا في المشهد الإعلامي الوطني وحتّى العربي، سلّط فيه أضواء كاشفة على مجريات الأحداث العالميّة من خلال استضافة شخصيّات سياسية مؤثرة في السّاحة الوطنيّة والعربية.
انفرد هذا البرنامج، عديد المرّات، بسبق إعلامي أحدث فرقعة كبرى وطنيّا ودوليّا.
نحن والعالم سبق إعلامي
في حصة سجلت قبل زيارة السادات إلى إسرائيل، صرح إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري الذي استضافه برنامج "نحن والعالم" بأنّه ما إذا تأكدت هذه الزيارة فإنّه سيقدّم استقالته دون تردد وهذا ما حصل بالفعل.
ولكم أن تتصوروا الفرقعة التي أحدثها هذا التصريح المفاجئ في برنامج تلفزي تونسي.
كما استضاف برنامج "نحن والعالم" في إحدى حلقاته أبو إياد الشخصية المؤثرة في منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي أوّل إطلالة له على شاشة التلفزة، فاجأ أبو إياد الجميع بتصريح تاريخي ملخصه : "لو أنّ القيادة الفلسطينية من الرّعيل الأول قبلت بقرار التقسيم الأممي وأقامت دولتها في الحيز الممنوح ثم طالبت بالجزء الباقي لكان حال الفلسطينيين غير الحالة التي عليها الآن" معترفًا بذلك برجاحة رأي الزعيم بورقيبة بخصوص القضية الفلسطينية.
برنامج رائد: Télé Food
روح المبادرة الوقادة التي يتحلّى بها عبد المجيد الشّعار تجلت منذ استلامه لمهامه في منظمة الفاو في بداية الثمانينات حيث تعددت مبادراته التي جعلت منه عنصرا فاعلا ومتميزا عن زملائه مما أعطى لصورة المنظمة ألقًا زاد في إشعاعها عالميا.
ومن أبرز هذه المبادرات، كمشرف على دائرة الإعلام والاتصال بالمنظمة، نجاحه في استقطاب عدد من النجوم والشخصيات المرموقة في برنامج إنساني غير مسبوق هو برنامج "Télé Food".
هؤلاء النجوم أقنعهم صديقنا عبد المجيد بلباقته ودبلوماسيته بأن يوظفوا شهرتهم للدفاع، من خلال مشاركتهم بالغناء أو بالدعم الأدبي والمادّي، في هذا البرنامج الضخم، عن الحق في الغذاء كحق أساسي من حقوق الإنسان في عالم يعاني فيه أكثر من مليار شخص من سوء التغذية أو انعدامها.
خلال خمس سنوات متتالية، طاف هذا البرنامج عبر العالم في شكل تظاهرات ضخمة نقلتها القنوات التلفزية العالمية هدفها جمع التبرّعات لتمويل مشاريع إنمائية لفائدة الفئات الهشّة في البلدان النامية، وكانت الحصيلة ما يناهز 37 مليون دولار (حوالي 120 مليون دينار تونسي) ضُخّت بأكملها لتنفيذ حوالي 3700 مشروع إنمائي صغير من بينها مشاريع في تونس.
وبإنجاز برنامج إنساني مماثل من قبل إعلامي يمكن أن نسُوق مقولة معبرة جاءت في تعليق على هذه المبادرة : "الإعلام قوة خير حين يمتلك البصيرة !"
وقد حصل لي شرف المساهمة في التعريف بهذا البرنامج من خلال إنتاجي سنة 2004 لشريط وثائقي عنوانه "أول الغيث" شاركت فيه النجمة اللبنانية المتألقة السيدة ماجدة الرّومي بصفتها سفيرة فخرية للمنظمة وبُثّ هذا الشّريط في جل القنوات العربية وكذلك من خلال تأليفي لكتاب بعنوان "سنابل الخير".
لاقى برنامج تلفود نجاحا وصيتا كبيرين ويرجع الفضل في ذلك بالدرجة الأولى إلى شبكة العلاقات التي نسجها صديقنا عبد المجيد الشّعار مع مؤسسات الاتصال الدولية والقنوات التلفزية الكبرى التي دعمت البرنامج بالتغطية الوافية لتظاهرات التي تجاوز عددها السبعين.
نجاح هذا البرنامج الرائد الذي أداره باقتدار زميلنا عبد المجيد الشّعار يبين كيف يمكن خدمة أهداف نبيلة ترجع بالخير على الإنسانية من خلال استنباط فكرة مبتكرة لامعة هي أكثر سلطة من المال.
مركز الشيخ زايد للإعلام والمعرفة
من الإنجازات الكبرى ذات الصبغة الإعلامية في منظمة الفاو، إحداث مركز دولي للإعلام على درجة عالية من التطور التكنولوجي. جاءت فكرة اقتناع المدير العام "أدوار صوما" بأهمية الإعلام في استراتيجيات المنظمة وأخالُ أن علاقته المهنية الوطيدة بمساعده عبد المجيد الشّعار التي ارتقت إلى درجة الصداقة كان لها أثرها في تحقيق هذا الإنجاز.
وبعد جهد كبير وترحال عبر عواصم العالم موفدا من قبل المنظمة لإيجاد التمويلات للمشروع، وجد عبد المجيد الشعار ضالته في الإمارات العربية المتحدة التي أطلق مؤسس دولتها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان شعار "أعطوني زراعة أضمن لكم حضارة".
ولتناغم هذا الشعار مع أهداف المنظمة بادرت دولة الإمارات التي استحسنت الفكرة بتمويل المشروع بسبعة ملايين دولار.
مركز الشيخ زايد للإعلام والمعرفة يبدو اليوم في المدخل الرّئيسي للمنظمة مثل قطعة فنية فريدة للعمارة الحديثة ساهمت فيها حرفية تونسية السيدة صديقة كسكاس المختصّة في البلور المنفوخ.
هذا المركز هو الآن عبارة عن منصة إعلامية واتصالية متعددة الوسائط بتجهيزات ومعدات تقنية عالية الجودة والحداثة.
الفرصة الثمينة المهدورة
في زيارة لي لمقر المنظمة في روما، أطلعني صديقي عبد المجيد الشعار على فضاء شاسع يمسح حوالي 350 مترا مربعا يقع في الطّابق الثامن لمبنى المنظمة ويشرف على حمامات "كاركلا" الرومانية الشهيرة وعلى قصر الكوليزي، وأعلمني بكل حسرة وشعور بالأسى أن هذا الفضاء الفريد الاستراتيجي تم تخصيصه لتونس ليكون واجهة لها في منظمة أممية في روما تَعرض فيها منتجاتها وتعرّف بتاريخها المجيد.
وتم الاتفاق على ذلك بمشاركة المدير العام وثلة من خبراء الأجانب يكنّون لتونس كثيرا من المحبة.
أُريد لهذا الفضاء أن يعكس في جماليته الطابع المعماري المميز لتونس من نقش وزخرفة وألوان سيدي بوسعيد الزرقاء والبيضاء وكذلك أن يكون فضاء ملهما لاستحضار ثقافة الطبخ التونسي.
والتزمت المنظمة بالتكفل بالبناء والمعدات المرافقة وتهيئته في هذا المكان الساحر لينافس دول عديدة مثل المغرب والسعودية والصين واندونيسيا وألمانيا وغيرها.
ومَردُّ حسرة وأسى صديقي عبد المجيد أن وزيرا للتجارة والصناعات التقليدية في إحدى حكومات ما قبل الثورة، ارتأى أن الأمر لا يعتبر أولوية!
وهكذا وبكل بساطة وسوء تقدير إن لم نقل شيئا آخر، حرم بلادنا من موطئ قدم وواجهة عالمية لا يقدران بثمن، بلا تعليق!
علما بانّ الزائر للمقر الرئيسي للمنظمة يشاهد لوحة فسيفسائية رومانية كبيرة سبق للرئيس الحبيب بورقيبة أن أهداها للمنظمة اعترافا لها لما قدمته لتونس في سنوات الاستقلال الأولى من دعم مباشر لجهود التنمية كما سبق له أن أهدى لمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك لوحة فسيفسائية كبرى ثبّتت في مدخل المقر الرئيسي حتى تكون أول مشهد يعترض الوافدين.
تقاطع السرديات
وخلاصة القول أن هذا الكتاب الثري بالمعلومات والشهادات ليس من صنف الذكريات الشخصية فحسب، بل هو يوثّق لفترات مفصلية في تاريخ تونس ويلتقي مع العديد من زملائه الإعلاميين في ضرب من تداخل وتقاطع السرديات.
ومن الأمثلة على ذلك تعبيره عن الامتنان والعرفان للمرحوم صلاح الدّين بن حميدة المدير العام السابق للإذاعة والتلفزة الذي منحه ثقته على صغر سنه بتعيينه رئيس تحرير لقسم الأخبار بالتلفزة الوطنية وتشجيعه ودعمه له وكان ذلك منطلقه إلى وظيفة أممية.
وهنا تتداخل مسيرته بمسيرتي، حيث خصّني المرحوم صلاح الدين بن حميدة بنفس الثقة عندما كان مديرا بجريدة العمل وأدخلني على صغر سني إلى عالم الصحافة من الباب الكبير حيث بدأت محررا بجريدة العمل ثم انتقلت إلى أقسام التحرير بوكالة تونس إفريقيا للأنباء ثم باشرت رئاسة تحرير جريدة "الصحافة" ومنها إلى ديوان وزير الشباب والطفولة مكلفا بالإعلام ثم حططت رحالي في القاهرة حيث أدرت مكتب الوكالة التونسية للاتصال الخارجي وهكذا تتقاطع مسيرتنا على يد معلمنا المشترك الذي استنجبنا ومنحنا ثقته والذي ندين له بالكثير. وهذا ما يفسّر صداقتنا التي لم تزدها السنين إلا رسوخا ومتانة.
وحيد خضراوي
- اكتب تعليق
- تعليق