أخبار - 2024.10.10

"الحزب الحر الدستوري التونسي وتحديات تجربة الحكم 1955-1981" للباحث محمد الزواري: التجربة الصعبة، تحولت الى تجربة مثمرة في "التاريخ الراهن"

"الحزب الحر الدستوري التونسي وتحديات تجربة الحكم 1955-1981"  للباحث محمد الزواري: التجربة الصعبة، تحولت الى تجربة مثمرة في "التاريخ الراهن"

بقلم د.رضا القلال مؤرخ وكاتب صحفي

1) ماهي مفاتيح ديمومة هذا الحزب من 1955 الى 1981

وصلني عن طريق الصديق الإذاعي يسري بوراوي، كتاب د. محمد الزواري الموسوم: "الحزب الحر الدستوري التونسي "كعنوان رئيس، و"تحديات تجربة الحكم 1955-1981، في عنوان جانبي أو ثانوي. والكتاب صادر هذه السنة (2024) وهو في الأصل، أطروحة دكتوراه في التاريخ المعاصر، قدمها صاحبها يوم7 جانفي 2019 بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، معنونة بهذه الصيغة: "الحزب الحر الدستوري الجديد، وتحديات مرحلة ما بعد الاستقلال 1955-1981". الكتاب جاء في 600 صفحة، منها 100 صفحة مخصصة للمراجع والملاحق والفهارس.

ماهي إشكالية هذا البحث، بعد تخطي عتبة العنوان؟
كيف تصدى هذا الحزب وصمد رغم صراعات أجنحته الداخلية؟
ماهو حجم الأزمات التي ألمت به مع المنظمة الشغيلة والمعارضة السياسية؟  
وماهي مفاتيح ديمومته؟  وبالتالي ماهي الأفكار التي يريد أن يصدّرها للقارئ؟

الكتاب يرصد حياة الحزب الحر الدستوري التونسي ويحلل فترة حكمه التي تتجاوز ربع قرن. التاريخ الأدنى (1981) يتزامن مع قبول الحزب مرغما التعددية السياسية بعد أحداث قفصة جانفي 1980، وابتعاد الهادي نويرة ودخول محمد مزالي على واجهة الحياة السياسية، وبداية فترة احتضار الحزب وتواتر الازمات الاجتماعية والاقتصادية التي ستؤدي الى انهياره بعد 6 سنوات على إثر انقلاب بن علي. والتاريخ الأقصى (1955) هي السنة التي شهدت اتفاقية الاستقلال الداخلي، والانشقاق الخطر بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف الذي كاد ان يزج بالبلاد في حرب أهلية، والمؤتمر الخارق للعادة للحزب ايام15 - 19  نوفمبر 1955 بالحي الزيتوني بصفاقس.

ويمثل الكتاب إجابة تتسم بالعمق عن هذا السؤال المحوري. وهو ليس جافا، بل مثيرا، وعلى درجة كبيرة من الأهمية لأنه يتيح لنا الدخول عميقا في تاريخ الحزب منذ  الاستقلال الداخلي وتاريخ الدولة التونسية، والتصدعات التي عرفها وأهمها:
الانشقاق اليوسفي 1955- 1956، المحاولة الانقلابية سنة 1962، تداعيات تجربة التعاضد وعزل أحمد بن صالح 1969/1970، الازمة الأولى مع اتحاد الشغل  1964/1965، رجّة مؤتمر الطلبة بقربة (1971)، التصادم داخل  اجنحة الحزب  1970/1974، الأزمة الثانية مع اتحاد الشغل  1977/ 1978، وتصاعد المعارضة السياسية نهاية السبعينات وبداية الثمانينيات من القرن المنصرم، الى جانب معارضة الحركة الإسلامية. 

لقد فكّك الباحث محمد الزواري آلية الحكم في الفترة البورقيبية وكشف المسكوت عنه، بما في ذلك أزماته الصحية 1967 و1971 و1978 و1979. والتي أثرت بلا ريب على المشهد السياسي بتونس، وفتحت في الأخير صراع التسابق نحو "الخلافة". وهكذا استمر الحزب في دوامة الضعف والتراجع وبلغ انعطاف الاحتضار بداية من سنة 1981، وامتلأ بالانتهازيين والوصوليين. وعرفت البلاد مشاكل موجعة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، ورافدها وضع دولي غير ملائم بالمرة.

د. محمد الزواري يعمل حاليا أستاذا للتاريخ والجغرافيا، بمعهد 20 مارس 1956 بصفاقس، يخطو في حياته حدود ال50 عاما. لم يكوّن رصيدا في البحوث والدراسات الى حد الان، فقد عالج في شهادة الدراسات المعمقة: "الحركة اليوسفية بجهة صفاقس 1955-1956"، واشترك مع د.عبد الجليل بن عباس في تقديم وتحقيق كتاب: "عبد العزيز بوراوي: نضالات نقابية، زوابع وانفراجات" .وهو من جيل الباحثين الشبان (عبد الجليل بن عباس وكمال الحكيم….)،  وبالرغم من قصر التجربة الزمنية لانشغاله التاريخي، فانه قدم كتابا  جديرا بالقراءة والدرس  لا تأتي قيمته من قوته البرهانية فحسب، بل تأتي أيضا من التعاطي لأول مرة الكتابة  في تاريخ جديد.

2) كتاب غير مألوف.... والتاريخ لا يمكن ان يكون له شكل او بناء مستمر

هذا الكتاب حيّر مدخله البروفسور فتحي ليسير، وهو ذاته الذي أشرف على هذه الأطروحة. وكما نعلم هو مؤرخ ذائع الصيت، من الوجوه اللامعة في عالم البحث التاريخي وطنيا وعربيا. وأنا شخصيا يمتلكني شعور عارم من الاعجاب الممزوج بالافتخار أن أقرأ له، وأن أتابع وأكتب عن الأعمال التي يؤطرها، مثلما فعلت مع كتاب/اطروحة د. عبد الجليل بن عباس: "الحركة الوطنية بجهة صفاقس (1955/1920). و"يعزف" كتاب د. محمد الزواري، إن صحت العبارة، على نغمة أكاديمية جديدة، متوافقة مع أفكار مؤطره البروفسور فتحي ليسير، يطلق عليها : التاريخ الراهن، والتاريخ القريب، والتاريخ الحاضر...
أليس من المفيد إذن أن أقدم جرعة مكثفة عن هذا المفكر العربي الذي لا تعوزه سويّة المنهج ولا الرؤية الثاقبة في التحليل التاريخي والتنظير له! 

يقول البروفسور فتحي ليسير تاريخ الزمن الراهن "يهتم بالخمسين أو الستين سنة الماضية "و"يعكس في الوقت ذاته جدليّة الماضي والحاضر" ويمضي ليذكر "أن الماضي هو قضية الراهن، والراهن هو واقع التاريخ". وقد فصّل كل ذلك في كتابه: "تاريخ الزمن الراهن، عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر" (صدر عام 2012)، "وهو الأول في هذا الموضوع باللغة العربية، الذي يؤسس أداة منهجية للباحثين في التاريخ الساخن الجارية وقائعه". وأعقبه بمقال لافت عن "تاريخ الزمن الراهن: السياقات والاشكاليات"، بمجلة أسطور، العدد2، جوان2015. وفيه حفر البروفسور فتحي ليسير في سياقات بروز تاريخ الزمن الراهن، ومظاهر الانتعاشة الكبرى لهذا النوع من التاريخ، والرهانات التي يطرحها على المؤرخين. ولحسن حظ د. محمد الزواري أن تتقاطع مسيرته البحثية مع البروفسور فتحي ليسير الذي دفعه -وربما غيره أيضا- الى الاهتمام بالتاريخ الراهن في محاولة لإعادة الحيوية والنشاط الى حقل البحث التاريخي الذي يتناول بالدراسة حوادث الماضي القريب رغبة في الفهم ومواجهة المستقبل بطريقة أفضل. ثم لا غنى للمؤرخ اليوم عن الخوض في معالجة قضايا الزمن الراهن أو التاريخ الفوري، التي تظل ذات أهمية قصوى في عصر العولمة. وأصبح الاهتمام بالراهن للمؤرخ بمنزلة الضرورة، فلم يبق مجال التاريخ يقتصر على الماضي كما في السابق، وإنما توسّع ليشمل الحاضر أيضا لجلاء هذا الحاضر وتوضيحه. وبذلك يلتحق المؤرخ بالصحفي على راي قولة ألبار كامي "الصحفي هو مؤرخ اللحظة"، لكن بأدواته ومناهجه ورؤاه.

وبخصوص هذا الكتاب سجّل البروفسور فتحي ليسير ان محمد الزواري تعاطى مع تيمة صعبة، وكان يحتاج إلى جرأة لا حدود لها. فقد رفض أغلب المؤرخين العرب الخوض في هذا التاريخ الجديد، وتنصلوا من مهمّة الاشتباك بقضايا الواقع والراهن، بدعوى غياب المسافة والموضوعية، في حين تطور هذا التاريخ الحافز بنسق لافت في الغرب، منذ الثمانينيات من القرن الماضي، وغدا تخصصا مستقلا، تُحدث له الكراسي الأكاديمية.

هذا ما يجعل الكتاب لا يبدو عاديا، ولا يشابه الكتب التاريخية الأخرى. وبالتالي هو كتاب مختلف نسجه الباحث محمد الزواري بمعرفة وكفاءة وذكاء لنصرة قضية "التاريخ الراهن"، مدركا في ذات الوقت حجم الكوابح والتحديات المعيارية،  ليكون في نهاية المطاف، باكورة الأعمال التاريخية، بل عملا رائدا في هذا الاختصاص الفارق. وبذلك تحولت التجربة الصعبة الى تجربة مثمرة.

3) ترك بورقيبة ارثا كبيرا عصيا على النسيان

وإذا كان الامر كذا، فما الجديد أو الفريد في هذا الكتاب؟

وهل تجاوز د. محمد الزواري، إشكاليات "التاريخ الراهن'' وتحفّظاته؟  وإلى أيّ حدّ تخطّى إكراهات وضغوطات "ظرفية 2011 المؤلمة" حتى لا أقول "ثورة2011" التي كرّست من خلالها "هيئة الكرامة والحقيقة" الاستعمال المغرض للتاريخ والذاكرة الجمعية ومنها التنكيل بتاريخ بورقيبة. لقد ترك بورقيبة ارثا كبيرا عصيا على النسيان، وهو صاحب الايديولوجية  المتفائلة والمفتوحة على العصر.

أولا- هذا الكتاب عمل توثيقي من درجة أولى لفترة امتدت اكثر من نصف قرن كامل  من 1934- الى سنة 1981. فهو من أوائل المطلعين القليلين على الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانت  Nantes الفرنسية، الذي يحتوي على وثائق الاقامة العامة، والمراقبات المدنية وخاصة وثائق السفارة الفرنسية بتونس. وقد نسخ الباحث  7000 ورقة، وتمكن من فتح 28 صندوقا في هذا المعين، من جملة المئات. ورغم كمية وحشد الأسئلة التي طرحها على هذه الوثائق،  والمعلومات التي حصدها إلا أنه ليست هناك طاقة بحثية غير محدودة، وليس هناك تاريخ مكتمل أبدا.

ثانيا- تاريخ هذا العمل البحثي مكتوب تحت "مراقبة" فاعلين وشهود ورموز وازنة تمحورت حول عبد السلام القلال ومصطفى الفيلالي  والهادي البكوش. الى جانب شهادات مسجّلة، وملفات الذاكرة الوطنية بمركز التميمي للبحث العلمي والمعلومات، بعضها صادر بالمجلة التاريخية المغاربية، علاوة على الصحف والمجلات والدوريات والمذكرات (منصور معلى، الطاهر بلحوجة، احمد المستيري، عمر الشادلي، محمد الصياح، البشير بن سلامة، حامد الزغل ...) ومقالات ومراجع ومصادر، ورسائل جامعية غير منشورة.

ثالثا- بمجرد الاطلاع على هيكلة الكتاب وبنية العناوين التي نسجها المؤرخ واتخذها مؤشرا دالا، نفهم أنه لم يجنح في بحثه إلى الخطة الكرونولوجية، بل استند إلى تخطيط محوري يشي بسيطرة الباحث على موضوعه واستناده الى قاعدة قدح الذهن وزناد الفكر. كما استثمر مدونته التوثيقية استثمارا أمثل وعززها بتفاصيل وافية في الهوامش.

وبذلك حفر في تاريخ الحزب على مدى ربع قرن، وهو "من أعسر ما يمكن تناوله"، ودخل في كل مسالكه ودروبه، وانحناءاته وتعاريجه، ليبيّن قوته وحلقات ضعفه.  وتابع الخارجين عن طوعه، والمنشقين عنه، والمتمردين على سياسته، ورصد رجّاته وتصدعاته. وتابع بعين ثاقبة ربيع هذا الحزب وشبابه وسنوات احتضاره الكارثي.  وكشف عن مفاتيح استمرارية هذا الحزب التي فسرها برصيد الشرعية النضالية والشعبية التي راكمها زمن الحركة الوطنية ومعركة التحرير والجلاء. علاوة على الشخصية الكاريزمية لرئيسه الحبيب بورقيبة، وقدرة الحزب على التأطير الاجتماعي، وديناميكيته في تجديد هياكل الحزب وتشبيبها، كما حصل ذلك عقب فترة احمد بن صالح والهادي نويرة.

الكتاب لحظة فارقة يفتح زمن الكتابة في التاريخ الراهن

وصفوة القول، كتاب د. محمد الزواري "الحزب الحر الدستوري التونسي، وتحديات تجربة الحكم 1981/1955" ازدانت به الاستريوغرافيا التونسية وتعزّزت في آن بعمل غزير المادة جزيل الفائدة" والتوصيف للبروفسور فتحي ليسير. ولئن استحالت الكتابة في تاريخ" الزمن الراهن" بالجامعة التونسية إلى تقصير، لانها  مازالت تعيش في كسل فكري وحدود متصلبة وطقس مقدس، فقد سدّ هذا الكتاب في النهاية ثغرة وملأ فراغا وتدارك نقصا، وحفل بالأفكار وحقّق قيمة معرفية مضافة.

لا شك ان الباحث الجاد والمجتهد د. محمد الزواري امتلك بوصلة منهجية الكتابة في تاريخ الزمن الراهن وهو "تلميذdisciple" البروفسور فتحي ليسيرالذي فتح نافذة من نوافذ التاريخ القريب في الجامعة التونسية، وأصبح رائدا أكاديميا على المستوى العربي أيضا في هذا الاختصاص، لهذا ننتظر من مؤلف هذا الكتاب د. محمد الزواري   مزيدا من الأعمال في هذا الحقل التاريخي المغاير، وأن يستمر فيه برغبة وسرور. واتصور ان البحث الأكاديمي اليقظ والمنهجي يمكن ان يكشف بشكل علمي على المزيد من مزايا المؤرخ وخصوصيات التاريخ الراهن في هذا الكتاب. واتمنى ان ينال الكتاب القبول الحسن يبرر ما سكب فيه المؤلف من جهد جديد.

د.رضا القلال مؤرخ وكاتب صحفي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.