عزالدين المدني: بين رجلين، فاخـر الرويسـي ومحمــود بوعلـــي
المقال الذي كتبه ونشره أخيرا على أعمدة مجلة "ليدرز" الغراء، هو رثاء صادق وأمين، كتبه أخونا المؤرّخ الأستاذ فاخر الرويسي صديقنا العزيز الكريم. ومحلّ الرّثاء هو المرحوم المعلّم محمود بوعلي تغمّده الله بألف رحمة. وقد كان محمود بوعلي صديق حبيبنا فاخر الرويسي وعشيره رغم فارق السّن بينهما. وقد كان محمود بوعلي معلّمي في القسم الثالث بالمدرسة الصّادقية الإبتدائية التي نسمّيها بـ"الصّادقية الصّغيرة"، بينما كانت تسمية المعهد الصادقي بـ"الصّادقية الكبيرة"، معهد أولاد النّخبة آنذاك والتّلاميذ الشبّان النّجباء من ذوي الأُسرُ المستُورة والمتواضعة من جميع النّواحي والآفاق.
علاقتي كانت محدودة الزّمان والمكان بمحمود بوعلي، أقصد زمن صباي وتلمذتي، بينما الرّوابط التي جمعت بين محمود بوعلي وبين فاخر الرويسي كانت أطول وممتدّة نسبيا في الزّمان، تستغرق سنوات فضلا عن أنّ فاخر الرويسي كان حبيب محمود بوعلي وخليطه وخدينه. لذلك كان كاتب الرّثاء صادقا دقيقا في قوله، في وصفه، في صدقه، في أمانة الأخوّة التي جمعتهما.
ونِعْمَ محمود بوعلي الإنسان، المعلّم والمربّي والمثقّف. نِعْمَ هذا الرّمز للإنسان التونسي المُعاصر والحديث، نِعْمَ هذا اليقظ الوطني والقومي، نِعْمَ هذا المُتفتّح على الدّنيا وعلى العالم، نِعْمَ هذا الرّجل الكريم طوال وجوده وأعماق قلبه وفكره وحياته بحبّه ونزاهته وإخلاصه. ذلك هو لسان حال صديقي وهو نفس لساني...
الأحداث التي تجدُّ زمن سنوات الطفولة والصّبا لا تُنسى أبدا مدى الحياة والى ما لا نهاية. لقد أثّر فيّ مقال أخي فاخر فحفّزني ودفعني الى التذكّر. فشكري مضاعف: شكري الى صديقي وعزيزي فاخر وشكري الى مُعلّمي محمود بوعلي...
كان محمود بوعلي مختلفا عن المعلّمين المتمسّكين بتطبيق البرنامج المُقرّر بلا زيادة ولا نقصان، إنّما هو مثل ثلّة مختارة – عرفت أنّها مختارة فيما بعد – وفيهم سي الزّغواني وسي بوجميل والسّيدة شريفة المسعدي وسي عمر الجمّالي وسي العربي... هؤلاء المعلّمون الذين كوّنوا جيلي باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، وبعضهم حبّبونا في اللّغة العربيّة حبّا عميقا شاملا وفي اللّغة الفرنسيّة وتأديتها حبّا لا يزول. وكذلك في مادّة الحساب ومادة خصائص الأشياء، وفي الاستقامة والتّربية والأخلاق والتّواضع.
الحقّ كنت متفوّقا في اللّغتين كتابة وكلاما وحفظا. فجاء والدي يحتجّ على مدير المدرسة سي صاحب الطّابع الذي أراد أن ينقلني الى ما فوق من الأقسام الابتدائية، فطالب الوالد بأن أتابع دراستي قسما بعد قسم رغم تفوّقي واجتهادي الملحوظ من قبل سي محمود بوعلي وعدد من زملائه.
أريحيّته وحنانه وشغفه بنا
أتذكّر أنّ معلّمي محمود بوعلي ذكر الكاتب الفرنسي هونري دي بلزاك Honoré de Balzac بمناسبة دراسة أحد نصوصه في كتاب القراءة، فرفعت إصبعي لأقول له: إنّي أعرفه!!!
قال: كيف تعرفه ومتى؟ وماذا قرأت؟...
فأجبته على الفور دون تردّد: صفحات من كتابه" الأب ڤوريو"Le Père Goriot، وهو كتاب شقيقي سيدي محمّد (بكر أبي) سرقته منه، من مكتبه...قرأت صفحات منه...وانزويت لأقرأه...كالعادة...
كانت هذه هي قَدْحة الخير بيني أنا التّلميذ الصّغير وبين معلّمي سي محمود بوعلي الكبير...وانطلق يلقي درسا حول أهمية الكاتب بلزاك في الأدب الفرنسي وقيمة كتبه وكتاباته المعتمدة على وصف المجتمع وصفا فنيّا دقيقا مصوّرا بذلك الرّجال والنّساء بمساكنهم وأحوالهم وطباعهم وأهوائهم الجنونية...
كنت كلّي آذان صاغية! كنت أنا وحدي في القسم هكذا أحسست. لا يخاطب إلّا التلميذ ع.م لا سائر التلاميذ...سحرني...وهبه الله صوت مازال في سمعي الى هذا اليوم...
وفي يوم آخر، قال لي: أحبّ أن تصوّر لنا صورة للكاتب بلزاك كما شاهدته في كتاب أخي الأكبر...ومن الغد سلّمت الصّورة إلى معلّمي سي محمود بوعلي فور ما دخلنا كلّنا الى القسم. فأُعجب بالصّورة وسمّرها على السبّورة...
وقال لي مرّة حسب ما أتذكر: هل تدري أنّ بلزاك كان ينافس بقصصه وكتبه كُتّاب الحالة المدنيّة لأشخاص معروفين وغير معروفين في المجتمع؟ في المجتمع الذي عاش فيه؟
قلت له باحتشام: لا أعلم يا سيدي، وما معنى الحالة المدنية ومزاحمة كُتّابها؟
فانطلق يشرح لجميع التلاميذ مهمّة الحالة المدنية وقيمتها في معرفة الأفراد في المجتمع... أتذكّر ذلك الدّرس الذي ألقاه علينا وكأنّه اغتنم الفرصة لإعلامنا وتربيتنا بكلمات مختارة مفهومة في مستوى تعليمنا ودراستنا وزاد لمستقبل حياتنا.
هذا الإجراء التربوي نادرا كان خلال النّصف الثّاني من السّنوات الأربعين ومن فجر السّموات الخمسين من القرن العشرين. كان المعلّم سي محمود بوعلي متمايزا حتّى على أفراد النّخبة الذين ذكرت بعضهم في السّطور السابقة رحمهم اللّه جميعا.
وظلّ بلزاك أهمّ ما قرأت من الأدب الفرنسي يومئذ، ظلّ في ضميري وعقلي ووعيي ومرجعي وحجّتي طوال سنوات الى مطلع السّنوات السّتّين. والله أردت بكل عزيمة وحزم أن أكتب مثله! فشرعت أن أكتب قصّة طويلة عنوانها" سيدي منصور". وهو اسم الحيّ الشّعبي الشّهير بربض باب الجزيرة، صنو حيّ الحلفاوين بربض باب سويقة " الجنيّح لخضر"!
لكني في الأخير مزّقت كلّ ما كتبت عند بزوغ الستّينات نتيجة لمخاض فكريّ وضميريّ حادّ صعب. على أنّي لم أنس أبدا ما تعلّمته عن بلزاك من معلّمي سي محمود لا يقلّ أثرا فيّ ولا وقعا عليّ من رواية أندري مُورْوَا André Maurois النّاقد الفرنسي الجهبذ عنوانها " بروميثيوس، أو حياة بلزاك"Prométhée ou, La vie de Balzac.
حفّظنا معلّمنا الشّاعر القيرواني المقلّ الجميل قصيدة الشّاعر المصري حافظ إبراهيم مطلعها الشّهير: "قم للمعلّــم وفّه التّبجيــل".
فقلنا نحن الشبّان العصاة المُعاندين عناد عُقُول الصّخر وحجر الصّوّان لإتمام عجُز بيت مطلع القصيد "كاد المعلّــم أن يكون رســولا"، قلنا: "كاد المعلّــم أ، يكون مربيــا مســؤولا". وهو بصدق على معلّمنا محمود بوعلي رحمه الله.
فشكرا جزيلا مجدّدا على ما ذكّرتني به يا أخي فاخر وعلى ما أمتعتني به من ذكرى زمن صباي وتلمذتي ومعرفتي بمن زاد في يقظتي وفي وعيي وفيما أردته لمهجتي ولفكري:
الكتابة الإبداعية.
فحيّاك الله يا أخي فاخر وأمتعك بالصحّة والكتابة والعافية.
عزالدين المدني
قراءة المزيد
- اكتب تعليق
- تعليق