في ذكرى رحيل الدكتور عبد الرحمان أيوب: "يرحل الكبار ولا يرحلون"
بقلم حمد غضباني - لئن كان الموت قدرا محتوما، وشبحا يحوم في أذهاننا باستمرار، منذ وعينا بوجودنا وبمن حولنا، حتى يباغتنا ويأخذنا إلى عالم العدم، فهو ما ينفكّ يفاجئنا ويفجعنا. في الذكرى الثانية لفاجعة رحيل الدكتور عبد الرحمان أيوب (12 أوت 2021)، استذكرت مقال لعالم الاجتماع محمود الذوادي "مقولة يرحل الكبار ولا يرحلون في ميزان نظرية الرموز الثقافية"، والذي جاء هو بدوره كتفاعل مع ما ورد في افتتاحية مجلة المستقبل العربي لشهر حزيران/يونيو 2010 تحت عنوان "محمد عابد الجابري: يرحل الكبار ولا يرحلون". وعالج فيه الذوادي مسألة ترشّح الفكر البشري للبقاء الطويل أو للخلود من منظور العلوم الاجتماعية. فالفكر برأيه جزء من منظومة الرموز الثقافية، ومن عالم الروحانيات على وجه التّخصيص، ممّا يؤهّله للاستقلال عن صاحبه، والبقاء بعده لزمن طويل أو للخلود النسبي.
ومن الصدف الجميلة أنّني رافقت أستاذنا عبد الرحمان أيوب للقاء الدكتور محمود الذوادي سنة 2008 لمناقشة نظريته حول "الرموز الثقافية". إذن ونحن نتذكر سي عبد الرحمان أيوب في الذكرى الثانية لوفاته، وجب القول بأنّ الراحل ترك إرثا فكريا عظيما سيظل مرجعا لا مندوحة عنه، بالنسبة للمشتغلين في حقل التراث والأنثروبولوجيا الثقافية بشكل عام، وكذلك لعموم الباحثين في الشأن الثقافي والأدبي، لقرون من الزمن، ولهذا، فهو رحل، لكنه لم يرحل، وسيحفظ التاريخ اسمه رفقة كبار المفكرين والأعلام التونسيين.
تخصّص عبد الرحمان أيوب في بداية مشواره العلمي في اللسانيات الاجتماعية، ومن خلالها ولج إلى عالم التراث الشفوي والانثروبولوجيا الثقافية، فألف حوالي ثلاثة عشر كتابا ونشر عشرات البحوث حول السيرة الهلالية ومباحث مختلفة في التراث كالألعاب التراثية والحكاية الشفوية والقصور الصحراوية والعلامات والرموز الثقافية والتراث الثقافي اللامادي. ترجم إلى العربية لأعلام الباحثين في مجال اللسانيات كدي سوسير وجيرار جينات وتودوروف. حقّق بعض المؤلفات مثل "كتاب السيرة وأخبار الأئمة لأبو زكرياء الورجلاني"، ونشر عدد كبير من القصص القصيرة في مجلات تونسية وعربية، ألّف حوالي ثمانية أعمال أدبية، كان آخرها "مدن النمل" (2019). كما أنجز المرحوم العديد من الدراسات في مجال التراث الثقافي اللامادي لفائدة منظمات غير حكومية ولمنظمات دولية كاليونسكو التي كان خبيرا معتمدا من طرفها، ومثّل الجمهورية التونسية لديها منذ سنة 1984. كما نشر عشرات المقالات في صحف تونسية، وشارك في – وعلى- عشرات الملتقيات والمؤتمرات الدولية حول التراث.
برحيل عبد الرحمان أيوب طُويت صفحة ناصعة من دفاتر البحث في التراث في بلادنا إلى الأبد. رحل وفي قلبه حبّ وأحلام كبيرين محورهما المهمّشون والمنسيون من سجلاّت السلطة، وشعب يعيش على وهم "تحرّر" غير ناجز، وكيف يكون ناجزا وأحلام أبناءه مغلولة، وكلّما لاح لهم شعاع أمل يضيء عتمتهم، باغتهم الظلام من جديدة. أحبّ الناس وانشغل بهمومهم بعمق وبإحساس شفّاف. وكان لي شرف مرافقته في أوقات كثيرة في أعماله البحثية الميدانية ورأيته كيف ينساب إلى تفاصيلهم الإنسانية كانسياب الماء، في غير تكلّف أو فضول أرعن، فيقيم معهم جسرا من الودّ والثقة. قال لي ذات يوم من سنة 2007 أنّ أساس البحث الميداني في مجال الأثنوغرافيا والأنثروبولوجيا، علاوة على الاستزادة الدائمة من العلم في مختلف المجالات الإنسانية والاجتماعية، هو متانة الثّقة مع الناس، لأنهم حملة المادّة التراثية والثقافية، وما نحن إلاّ جامعون ومحلّلون لها.
لا شكّ أنّ لعبد الرحمان أيوب، كأي إنسان، معارك وخلافات مع بعض زملاؤه وبعض من عرفهم طيلة تجربته الحياتية والمهنية، ومنهم يعيد ذلك لمزاجيته وحدّته، وصرامته أيضا، فهو لا يقبل أنصاف المواقف. ولكن من المؤكّد أنّ أكثرها كان بسبب نفوره من التملّق والطمع، وكرهه لنكران الجميل والجرأة على حقوق الآخرين، والبعض منها أيضا لاعتداده الشديد بنفسه، وهو لا يعدم مبرّرات ذلك في أكثر الأحيان. لقد كان ممّن لا يرتجلون الصداقات، ولا يستسهلون التخلّي عمّن صادقهم. وحتى وإن حصل له خلاف مع أحد، وفرضت القطيعة نفسها عليه، يظلّ متمسّكا بالحدّ الأدنى الإنساني.
حدّثني كثيرا عن طفولته الشقية، ومغامراته، وحبه للعلم ورحلاته إلى دول كثيرة دارسا ومدرّسا، وعن توجّهاته السياسية وخيباته من رفاق الطريق، ومراجعاته الفكرية. كان معينا من المعرفة والأخلاق قلّ نظيره، جوادا بالتعبير عن الحب بيده ولسانه، تجربة ثرية وكنزا علميا لم تتاح فرصة الاستفادة منه بما يكفي. وللأسف لم يتاح تكريمه كما يستحق وبالقدر الكافي، سواء من المعهد الوطني للتراث -المؤسّسة التي عمل فيها لأكثر من عقدين من الزمن-، أو من طرف وزارة الثقافة التي عمل فيها هي الأخرى لعدّة سنوات على رأس إدارة الآداب أو من الجامعة التونسية التي درّس وأطّر فيها العديد من الأطروحات الجامعية. ما الذي يمنع تأسيس ملتقى دوري باسمه حول التراث الثقافي اللامادي؟ أليس هذا أدنى عمل يمكن أن تقوم به مؤسّسة علمية لتكريم أحد أبناءها ؟!
رحم الله أستاذي عبد الرحمان أيوب وجازاه عنّي كل خير.
حقّا، ما أبخل الكلمات وما أفدح خواءها في حضرة الموت.
حمد غضباني
- اكتب تعليق
- تعليق