"ستّون، مازال الحلم ممكنا" لحافظ الزواري: أن تعطي القوس باريها...
بقلم ناجي الخشناوي - عادة ما ترتبط قراءة المؤلفات "الأوتوبيوغرافية" أو المذكّرات أو السير الذاتية، بالحذر، باعتبارها مؤلفات تطغى عليها المشاعر الشخصيّة ومحاولات تجميل الذات، وينزع مؤلفوها إلى رسم صورة وردية عن مسيراتهم وتجاربهم الحياتية، كما هذا الصنف، أيضا، من المؤلفات بنوع من الخوف، خاصة عندنا نحن العرب، فمثل هذه الكتب "السير-ذاتية"، قد تفتح أبواب الجحيم أمام مؤلفيها، لأنّها بكل بساطة مثلما يقول الكاتب الجزائري أمين الزاوي عن هذه الكتابة العارية هي "مغامرة تتطلب كثيراً من الصدق وجرعة عالية من الجرأة والصراحة والأمانة والحرية والتحرر من ضغط الضمير الجمعي الأخلاقي الخانق والمحافظ والرقيب على الحرية الفردية أولاً.".
ربّما هذا ما تفطّن له رجل الأعمال والسياسي التونسي حافظ الزواري وهو يكتب مذكراته أو سيرة تجربته في الحياة، امام السؤال المربك والمخيف: "علاش الكتاب؟ آش قام عليك تجيب لروحك في المشاكل؟"، ورغم أن هذا الكتاب كُتبت صفحاته الـــــــــــــــ365، "تحت ضغط نفسي رهيب"، فإن المطّلع عليه، وبكل تجرّد ودون مجاملة، سيلمس وسيشعر بكثير من الصدق وجرعة عالية من الجرأة والصراحة والأمانة والحرية والتحرر من الرجل الذي يؤمن أن دوره ليس الابتسام حتى تكون الصورة حلوة.
بالتعاون مع الإعلامي محمد بوغلاب، وعن دار "PR Factory-Leaders"، أصدر رجل الأعمال والنائب السابق بمجلس نواب الشعب المنحلّ، حافظ الزواري، كتابا بعنوان "ستّون... مازال الحلم ممكنا" قدّم له محمّد النّاصر رئيس الجمهورية بالنيابة ورئيس مجلس النّواب سابقا، وجاء في خمسة أقسام بعناوين فرعية هي "النشأة والجذور/العمل الجمعياتي والبلدي/مغامرة التصنيع/في خضم السّياسة/حكومات متعاقبة"، وأرفقه الكاتب بألبوم من الصور وثّقت حياة الرّجل طيلة العقود الستّة التي عاشها، والتي حملت عنوان الكتاب.
يقول الإعلامي محمد بوغلاب:"كنت حريصا على توثيق شهادة حافظ الزواري مساهمة منّي في كتابة تاريخنا المعاصر حتى لا يترك المجال واسعا رحبا للسرديات المفتعلة التي يتداولها المريدون أو يروّجها الخصوم لهذا الطرف السياسي أو ذاك"، ويبدو أن محمد بوغلاّب، كعادته، "لم يفلّت شيئا"، لا فقط من مسيرة حافظ الزواري، بل أيضا من خلال أسلوب الكتابة والتحرير والتأليف، فهذه الشهادة/المذكّرات، كُتبت بأسلوب سلس وشيّق يراوح بين تقديم المعلومات والأحداث والكشف عن المشاعر والمواقف في نفس الوقت لصاحب المذكّرات، محقّقا بذلك "المتعة والإفادة على حد سواء"، بل إن هذا الكتاب، ودون مجاملة أيضا، ينجح في انتزاع الاحترام والتقدير، لا فقط لمسيرة تونسي نجح في مجال الأعمال، بل أيضا لثبات مواقف هذا التونسي الصّميم، وتشبّثه بانسانيّته، رغم الإغراءات والتهديدات والمؤامرات...ولا نغالي إن قلنا أن هذا الرّجل، حافظ الزواري، وهو يختار عنوانا فرعيا لكتابه "مازال الحلم ممكنا"، يغذّي بشحنات ايجابية حلمنا بأن "تونس أخرى ممكنة".
زمن كتابة هذه المذكرات لم يتجاوز سنة واحدة، من 09 ديسمبر 2021 إلى 13 أوت 2022، لكن أحداثه تمتد إلى أكثر من قرن ونصف من الزمن، منذ حملة زرّوق الظالمة بعد انتفاضة الساحل عام 1864، ومنذ أن عيّن الباي سنة 1905 جدّ حافظ الزواري من الأب، محمد الأمين، أمينا على سوق القلعة الكبرى، ليكتشف الحفيد ويتأكّد أن الثروة الحقيقية هي حب النّاس وثقتهم، ولا ينتهي زمن الأحداث والذكريات في الكتاب يوم 30 مارس 2022 تاريخ انعقاد الجلسة العامة الافتراضية للبرلمان المنحلّ بالدبّابات، فمسيرة الرّجل مازالت متواصلة في المساهمة في بناء وتشييد اقتصاد تونسي وطني قادر على المنافسة، ومتواصلة في تمرير جينات "حب الناس والثقة" في أحفاده الحاليين والقادمين من أبنائه، أميرة ومهدي وفارس وشيرين.
تأخذنا هذه المذكّرات في رحلة "نموذجيّة" – كأننا في كار الزواري في شركة SAS قريبين من فرحات حشّاد في أربعينيات القرن الماضي- لنتقفّى أثر مواطن تونسي، في تجربة حياة ثريّة انتقل فيها حافظ الزواري من بائع أوشحة نسائية ومفروشات مطرّزة بقيمة 50 دينار في مدينة عنّابة الجزائرية، إلى أحد كبار مصنّعي السيّارات في تونس وإنشاء مجموعة اقتصادية رائدة، تشغّل أكثر من ألف شخص من بينهم ما لا يقل عن 350 مهندسا وإطارا عاليا وتوفّقت في تركيب أكثر من 7700 سيارة وشاحنة خفيفة، ولا يتأخّر صاحبها عن دفع الاداءات والضرائب للدولة بما قيمته 420 ألف دينار سنويا، ولا يعود ثراء حياة هذا المواطن التونسيّ إلى اكتناز الملايين وتجميع المليارات، بل إلى صداقات وعلاقات احترام وتعاون مع أناس من أصقاع الدنيا، يؤمنون أن الكفاءة والصّدق هي الرّصيد الذي لا ينفد، والورشة التي لا تُغلق أبوابها، فهذا الرجّل يشعرك فعلا أنه لا يحمل حقيبته بدفتر الصكوك والشيكات، بقدر ما يحمل غيرته على بلاده وإيمانه بمستقبل أفضل لشعبها، أينما كانت وجهته... فالثّراء وحده لا يجلب الاحترام، مثلما يقول، ومثلما نعرف.
يقول حافظ الزواري في هذه المذكّرات:"لم يكن انقطاعي عن التعليم عائقا أمام رغبتي الجامحة في النجاح، صحيح أنّني انقطعت عن التعليم ولكنّني لم أنقطع عن التعلّم"، ويضيف:"كلّما توقّفت بمطار أوروبي اقتنيت عددا من الكتب من أصناف مختلفة من رواية وكتب سيرة وتاريخ وشعر..." والثّابت والأكيد أن تلك الكتب، بما تحمله من قيم، كانت خير سند لهذا الرّجل الذي لم يظفر سوى بشهادة السيزيام، لمواجهة أصحاب الشهادات العليا الذين لم يفلحوا سوى في إرجاع تونس إلى زمن "باي الامحال"، من وسطاء السّياسة وسماسرة الاتفاقات، ورؤساء الحكومات المتعاقبين على جثّة وطن خرّبته طموحاتهم الشخصيّة التي لا تتجاوز في بعض الأحيان "بونوات الايسونس والسيارة الإدارية والسائق وضمان تقاعد مريح..."، وكل هؤلاء "الآفات النّاهشة" يسمّيهم حافظ الزواري في كتابه بالاسم والصفة دون تردّد أو مواربة، من مات ومن هرب ومن مكث ومن تلوّن، وما أكثرهم وهم يخطّطون ويتآمرون بين النّزل والفنادق والفيلات الخاصة وفي أروقة القصور الأربعة، قصر قرطاج وقصر باردو وقصر القصبة وقصر دار الضيافة... في علاقات اخطبوطية لم تعد خافية على أحد، وربّما لذلك يشعر القارئ لهذا الكتاب بالهوّة السحيقة بين الشعور بالافتخار والنّجاح – لا التّباهي والتّفاخر – لمساهمة الرجل في الاقتصاد التونسي، وبين الشعور بالمرارة والخذلان من تجربته السياسيّة التي وجد فيها كل شيء "إلا الأخلاق".
الكتاب لا يفتح النار على خصوم سياسيّين، ولا يدخل في باب تصفية الحسابات مع بارونات المنافسة غير الشّريفة في مجال المال والأعمال، بل هو يسرد وقائع وتفاصيل دقيقة من تاريخ تونس المعاصر بعيدا عن منطق "الضرب في جدرة زيتون"، فهذه المذكّرات تمنح القارئ فرصة حقيقيّة للاطلاع على أساليب وفنون التحيّل والتهديد التي كانت تتوخّاها رموز عائلة "إدارة دولة التغيير" للاستئثار بخيرات البلاد بكل جشع، وأيضا للاطّلاع على أساليب وفنون التشفّي والقصاص من هواة السياسة ولاعبي الدرجة العاشرة في دكاكين "إدارة دولة الثورة"، أو مثلما ينعتهم حافظ الزواري "طائفة المعمّرين الجدد في تونس".
واللافت في تجربة هذا الرجل، في الجانب الاقتصادي والمالي، أنه لا يقدّمها كنموذج شخصي، بقدر ما يحاول في أكثر من موضع من الكتاب لفت نظر الفاعلين الاقتصاديين والدولة عموما على أن "الارتهان" التقليدي للأسواق الأوروبية والأمريكية، لم يعد مجديا، متسائلا:"هل قدّر علينا أن نظلّ تحت عباءة الفرنسيين جيلا بعد جيل؟"، فتجربته مع الدول الآسيوية أثبتت أن العالم يشعّ من الشرق حيث لا يوجد سوى شعار العمل والنّجاعة والفاعلية وبالتالي النتائج المرجوة من النّجاح والازدهار والتطوّر والتخلّص من واقع الأزمات التي لا تنتهي، وربّما لذلك لا يتردد حافظ الزواري في إطلاق "رصاصة الرحمة" على سفير الاتحاد الأوروبي السابق باتريس برغاميني وعلى أولئك الذين يردّدون ما قاله بشأن الاقتصاد الريعي "وتحكّم بعض عائلات في اقتصاد البلاد"، فهؤلاء العائلات نفسها "هي التي تحظى بدعم أسياد برغاميني ورؤسائه، لان جانبا منها يمثّل طائفة المعمّرين الجدد في تونس، الذين يحظون بدعم بلا حدود من الدول التي كلن يمثلها برغاميني حماية لمصالحهم".
هذا الكتاب ينضاف إلى مدوّنة مهمّة وثرية تحرص مؤسسة "ليدرز" ودار النشر "PR Factory-Leaders"، على أن تساهم، من خلالها، في إضاءة الجوانب المعتّمة والخفيّة من تاريخ تونس المعاصر والحديث من خلال الإصدارات التوثيقيةّ والمؤلّفات السير-ذاتيّة ومذكّرات الفاعلين في عوالم الاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها، فقد صدر عن هذه الدّار مؤلّفات لعدد من الفاعلين منهم على سبيل الذكر لا الحصر الطيب البكوش ومنصور معلى ومحمد العزيز بن عاشور والهادي باهي وعمّار محجوبي وحبيب الصيد ورياض زغل وتوفيق حبيّب وحمزة كناني ومحمّد النّاصر وأحمد زغل ووليد بالحاج عمر وعبد العزيز قاسم وهادي بوراوي ومحمد فوزي دريسي ومحمد الطيّب اليوسفي، وأنيسة بن حسين، وهي المرأة الوحيدة في هذه السلسلة من الإصدارات، والتي نتمنّى أن لا تظل اليتيمة، فتاريخ تونس، هو أيضا تاريخ مؤنّث، كُتبت فيه صفحات كثيرة بتاء التأنيث، على يدي نساء رائدات وملهمات في الاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة والإعلام أيضا... يستحقّ القارئ أن يطّلع عليها، حتى لا يظلّ التاريخ أعرجا.
ستون. ومازال الحلم ممكنا
لحافظ الزواري، بالتعاون مع محمد بوغلاّب
منشورات دار ليدرز، 2023 – 364 صفحة، 40 د
متوفر لدى المكتبات وعلى المنصة الإلكترونية www.leadersbooks.com.tn
ناجي الخشناوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر هذا المقال بجريدة الشعب الأسبوعية لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل
- اكتب تعليق
- تعليق