أخبار - 2023.02.10

الطيب البكوش في ورقات جديدة من مذكراته: بين وزارتي التربية والخارجية (الحلقة الأولى)

الطيب البكوش في ورقات جديدة من مذكراته: بين وزارتي التربية والخارجية (الحلقة الأولى)

نشرع بداية من اليوم في نشر ورقات من مذكرات جديدة للأستاذ الطيب البكوش، الأمين العام الحالي لاتحاد المغرب العربي، والوزير الأسبق غداة 14 جانفي 2011، ويتناول فيها بالخصوص ظروف تعيينه وزيرا للتربية وما عاشه من أحداث وبادر باتخاذه من قرارات.

ولأوّل مرة، يكشف الأستاذ الطيب البكوش عن خفايا تكوين حكومة السيد محمد الغنوشي وظروف استقالته واختيار السيد الباجي قائد السبسي لمواصلة المسيرة، كما يلقي الأضواء على اعتصام القصبة وظروف عمل الحكومة وانشاء هيئة بن عاشور، وغيرها من الأحداث الهامة.

1- مفهوم الثورة خلافي

ليس هذا وحده محلّ خلاف، فثمة من يعتبر الثورة بدأت باحتراق محمد البوعزيزي يوم 17 ديسمبر 2010 الذي انجّرت عنه انتفاضة سيدي بوزيد، وتتالت بعدها الانتفاضات والاحتجاجات والمسيرات والاعتصامات حتى وصلت العاصمة تونس وآلت الى خروج الرئيس زين العابدين بن علي في 14 جانفي 2011 مع زوجته وأبنائه على متن طائرة هبطت في جدة حيث استقر لاجئا الى مماته رحمه الله هذا التاريخ هو الذي تم إقراره آنذاك تاريخا لما اصْطُلح على تسميته "ثورة". فهذان التاريخان مازالا حتي اليوم محل جدال وخلاف.

ويمكن أن نعتبر أيضا أن مفهوم الثورة مازال بدوره خلافيّا، فثمة من يعتبر أنه ليس ثورة بالمقاييس الفلسفية، وهو موقف كان في ذلك الوقت محل استنكار عاطفي، رغم أن فتحي بن سلامة في كتابه بالفرنسية "وفجأة كانت الثورة ؟" (من تونس إلى العالم العربي : مغزى انتفاضة) يجمع المفهومين في عنوان واحد في سياق تحليل نفساني للظاهرة وملابساتها.

2- ملابسات الاحتراق

رواية الاحتراق الواعي هي الطاغية رغم وجود رواية أخرى راجت في وقت ما وهي أن البوعزيزي هدد بالاحتراق بسكب الوقود على جسمه وأن بعض رفاقه من خلفه أشعلوا النار فيه لاستغلال الحادثة وانطلاق أحداث اجتماعيّة تخرج من سيدي بوزيد وتنتقل كالنار في الهشيم لتعم كامل البلاد.

ولنا أن نتساءل لماذا لم تحدث النتائج ذاتهاعندما احترق الشاب عبد السلام تريمش أمام بلدية المنستير وهو أيضا بائع متجول بعربة وأطرد من المكان تماما مثل البوعزيزي؟

ولقد احترق كثيرون من قبل ومن بعد، دون إحداث هذه النتائج ذاتها. المسألة تتعلق باختلاف الظروف المكانية والزمانية وما حفّ بها. فالمراكمة يصعب التنبؤ بالتوقيت الذي تُحدث فيه الانفجار، وليست مثل القطرة التي تُفيض الكأس والتي قد نراها بالعين المجردة.

ولكن يمكن القول إن بعض الأحداث، يجعلنا نشعر بأن انفجارا سيحدث من وقت الى آخر. ومن أهم الأحداث الهامة التي هيأت لما حدث في سيدي بوزيد، أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 في ولاية قفصة التي تُمثل مؤشرا جديّا على تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتنم عن بوادر طفح الكيل، خصوصا أنها عُولجت بالقمع الشديد.

3- هروب الرئيس بن علي أم مغادرة مؤقتة؟

المهم في المحصَّلة أن انتشار نار الاحتجاجات في كامل البلاد ومشاركة جميع الشرائح الاجتماعية التي تمثلها منظمات وطنية هامة مثل نقابيي الاتحاد العام التونسي للشغل، والمحامين برمزية الزي الرسمي وغيرهم، قد ارتجت لها أركان النظام السياسي ودب الذعر في أقرباء الرئيس وأصهاره، مما دفع بزوجته الى الفرار مع أبنائها مصطحبة زوجها، كما تجمّع أصهاره، في المطار قصد الفرار قبل تدخل بعض الضباط لصدهم عن الرحيل وإيقافهم.

ومازالت ملابسات خروج بن علي من القصر الرئاسي ملتحقا بأسرته في الطائرة الرئاسيّة قبل أن تقلع من المطار الخاص بالعوينة، متضمنة إلى حد اليوم نقاط استفهام تتعلق بدور عديد الشخصيات العسكريّة والمدنية في كل ذلك: هل قرّر بن علي المغادرة أم دُفع دفعا بتخويفه من مظاهرات عارمة تتحرك في اتجاه قصر قرطاج؟

وأظن ان أسرارا عديدة مفرقة تحتاج الى جمعها من عديد الفاعلين أنذاك ولاسيما الجنرال عمّار والجنرال السرياطي والضباط سامي سيك سالم وسمير الطرهوني ورضا قريرة وزير الدفاع وغيرهم مثل قائد الطائرة العميد شيخ روحه وملابسات عودتها الى تونس بدون الرئيس. لكن الثابت أن بن علي كان يفكر في العودة بسرعة بعد الاطمئنان على أسرته وعلى عودة الأمن والاستقرار في تونس. وقد تكون بعض الأطراف وعدته بذلك حتى يرحل. ومن المؤشرات على ذلك، اتصاله هاتفيا من منفاه بالوزير الأول محمد الغنوشي وبالرئيس المؤقت فؤاد المبزع، فضلا عما تسرب فيما بعد من حواره مع رجل الأعمال كمال اللطيف.

هذه الصفحة من تاريخ جانفي 2011 مازالت يكتنفها كثير من الغموض، إلا أن الثابت أن الجميع أكدوا له فيما بعد أن عودته أصبحت غير مطروحة وغير ممكنة، بالتلميح أو بصريح العبارة.

4- انتقال السلطة التدريجي بداية من 14 جانفي 2011

بمجرد أن غادر بن علي تونس دون ترك وصية تخص تسيير شؤون الدولة، تم تطبيق الفصل 56 من الدستور تحمّل بمقتضاه الوزير الأول محمد الغنوشي المسؤولية وتلا في قصر قرطاج، بحضور فؤاد المبزع، رئيس مجلس النواب، وعبد الله القلال، رئيس مجلس المستشارين، نصّ بيان يؤكد تطبيق الفصل 56 من الدستور بسبب غياب رئيس الدولة الذي وصفه البيان بانه "غياب مؤقت"، ومعلنا عزمه على احترام الدستور وتطبيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالتشاور مع مختلف الأطراف الوطنية من أحزاب ومنظمات ومكونات المجتمع المدني.

وسريعا ما تقرر أن الغياب نهائي لا مؤقت فمن الغد 15 جانفي 2011، أدى فؤاد المبزع اليمين بصفته رئيسا مؤقتا للجمهوريّة، طبقا للفصل 57 من الدستور، في مقر مجلس النواب بباردو، بعد أن أصدر المجلس الدستوري في ذات اليوم إعلانا يؤكد فراغ السلطة فراغا نهائيا بعد أن كان قبل يوم واحد يعتبر مؤقتا، مما يجعل هذا الانتقال المؤقت للسلطة متوفر الشروط دستوريا، لمدة تتراوح بين 45 يوما (حدّ أدنى) و60 يوما (حدّ أقصى). وهي الفترة اللازمة لتنظيم انتخابات رئاسيّة جديدة لمدة خمس سنوات. ويعني ذلك أن الرئيس المؤقت لاحقّ له في الترشح للرئاسة. وقد تم ذلك أمام مجلسي النواب والمستشارين مجتمعين حيث ألقى فؤاد المبزع بيانا بالمناسبة.

واعتبارا أن الحكومة السابقة تعتبر دستوريا منحلة، وأن تواصل الدولة أمر ضروري، فقد كلف الرئيس المؤقت الجديد الوزير الأول السابق محمد الغنوشي بتركيب حكومة وحدة وطنية طبقا للفصل 50 من الدستور.

5- مشاورات تشكيل الحكومة

اتصل بي زميلي منصر الرويسي رحمه الله وأعلمني برغبة الرئيس فؤاد المبزع والوزير الأول محمد الغنوشي في أن أتحمل مسؤولية وزارة التربية التي يتبين، خصوصا في هذا الظرف بالذات، أنها من أعسر الوزارات. فسألته لماذا لم يتصلا بي في الغرض؟ فقال لأنهما يعرفان أنك لم تقبل الوزارة في عهد الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ويخشيان أن يتكرر ذلك معهما وفيه إحراج لك ولهما، وقد تطوعت لجسّ النبض لدالّتي عليك بحكم الزمالة والصداقة. فسألته : وكم تدوم هذه المسؤولية؟ فقال : لقد أكدا لي أنها لن تتجاوز شهرين أو أربعة على أقصى تقدير، ويتم إثرَها تنظيم انتخابات رئاسيّة وتشريعية طبقا لأحكام الدستور (بصيغته الأولى) 1959، وهو دستور الجمهورية.

وقبل الرّد، مرّ بخاطري ما كنت أشاهد وأسمع، فالتلاميذ الصغار في الشوارع، واللصوص ينهبون المعاهد والمدارس والإرهابيون يسرقون في مخابر الموادّ الكيمياوية ليصنعوا بها المتفجرات، فبدا لي أن تحمل المسؤولية الوطنيّة لإنقاذ قطاع التربية من الفوضى وحفظ التلاميذ من مخاطر الشوارع في مدة أشهر قليلة، واجب وطني في ظرف استثنائي. ولم أتصور حجم التحديات التي سوف أواجهها أثناء المباشرة كما سنرى من بعد، فأعلمتُه بالقبول.

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.