التغيرات المناخية وندرة المياه وتأثيرهما على الأمن الغذائي
بقلم جمال العبيدي - يعتبر الماء العنصر الأساسي في حياة الإنسان، حيث يشكل العامل الرئيسي لإنتاج غذائه ومستلزماته الصحية والبيئية والقيام بمختلف أنشطته الاقتصادية. ولكن توقعات التغيرات المناخية تشير إلى مزيد من ندرته من جراء زيادة في درجات الحرارة وانخفاض في هطول الأمطار وتواتر فترات الجفاف في العديد من الدول. وتعتبر البلاد التونسية من الدول المعرضة لهذه الظاهرة. حيث، تشير الدراسات إلى توقع زيادة في درجات الحرارة بمعدل 2,5 درجة في أفق 2050 وانخفاض في هطول الأمطار يقدر بحوالي 14 %.
وقد سجلت مصالح المعهد الوطني للرصد الجوي بتونس خلال السنوات الأخيرة ارتفاع في معدل درجات الحرارة. حيث، تم تسجيل خلال سنة 2021 أرقاما قياسية شهرية بالعديد من الجهات. بلغت 51 رقما جديدا، كما سجلت مدينة القيروان بتاريخ 11أوت 2021 رقما قياسيا على المستوى الوطني بلغ 50,3 درجة محطما الرقم القياسي القديم البالغ 50,1 درجة الذي تم تسجيله يوم 26 جويلية 2005 بالبرمة. كما تواصلت هذه الظاهرة خلال سنة 2022 وتميزت باستمرارية فترات ارتفاع درجات الحرارة. حيث تواصلت درجات الحرارة مرتفعة بالمقارنة مع المعدلات خلال الفترة الممتدة من منتصف شهر ماي إلى موفى السنة الحالية.
ومن ناحية كميات الأمطار المسجلة خلال سنة 2021 فقد كان المعدل الوطني في حدود 172 مم وهو ما يمثل 74 % من المعدل العادي (232مم) وقد انعكس هذا النقص على واردات السدود حيث بلغت 804 مليون متر مكعب مقابل معدل سنوي يقدر بحوالي 1888 مليون متر مكعب وهو ما يمثل نسبة 42 % من معدل الإيرادات.
ورغم محدودية إيرادات السدود، فقد تواصل تزايد نسق استهلاك مياه الشرب حيث بلغ 827 مليون متر مكعب سنة 2021 مقابل 802 مليون متر مكعب سنة 2020 ما يساوي زيادة بحوالي 3 %. أما بالنسبة للري الفلاحي فقد بلغت الكمية 2,722 مليار متر مكعب سنة 2021 مقابل 2,710 مليار متر مكعب خلال سنة 2020.
إن نسق إستغلال مواردنا المائية يعتبر مرتفعا جدا بالمقارنة مع الطاقة المتوفرة، مما أدى إلى إستنزاف الموائد المائية الذي بلغ نسبة 130%. وما يجب ملاحظته أن النسبة الكبيرة (77 %) من إستغلال المياه مخصصة للقطاع الفلاحي وبالتعمق في توزيع مياه الري، نجد أنّ 58 % من هذه الكميات موجهة لري الأشجار المثمرة و36 % للخضروات و6% فقط للزراعات الكبرى والأعلاف. إنّ هذا التوزيع لا يتطابق مع الدراسات التي تم على أساسها إحداث المناطق السقوية حيث أنّ الإستغلال الحالي للمناطق السقوية لم يحترم التداول الزراعي الذي أحدثت بمقتضاه المناطق السقوية ولم يحقق الحد الأدنى من الأمن الغذائي. وقد أدت هذه الوضعية إلى إنتاج كميات كبيرة من بعض الغلال تفوق حاجيات السوق الوطنية ولم تجد رواجا في التصدير بسبب ضعف منافستها بالأسواق العالمية.
إنّ الأزمات التي عاشها العالم خلال السنوات الأخيرة (كوفيد 19 والحرب الأكرانية-الروسية) بخصوص صعوبات التزود بالمواد الغذائية الإستراتيجية (حبوب ولحوم وألبان وسكر وزيوت نباتية) تستدعي مراجعة جذرية لأولويات الزراعات المروية ونظرا لحالة الجفاف التي تمر بها البلاد التونسية منذ سنوات (شهر أكتوبر 2022 الأكثر جفاف منذ سنة 1960) يقترح ما يلي:
• التقليص من زراعة القرعيات (دلاع) نظرا لإستهلاكها كميات كبيرة من الماء ومنع تصديرها على غرار ما قامت به بعض البلدان التي تعيش نقص في الموارد المائية
• التقليص من زراعة الطماطم المعدة للتحويل في حدود حاجيات السوق الوطنية ومنع تصديرها نظرا لعدم مردوديتها الاقتصادية باعتبار التكلفة الحقيقية للماء ومدخلات الإنتاج المدعمة.
• تكثيف الإرشاد الفلاحي لمزيد ترشيد إستهلاك مياه الري والحد من نسبة الضياع بشبكات التوزيع ووضع خطة عاجلة لتحسين إنتاجية الزراعات المروية.
• إعطاء الأولوية عند توزيع حصص مياه الري بالمناطق السقوية العمومية للزراعات الكبرى والأعلاف والخضروات الفصلية الأساسية مع الأخذ بعين الإعتبار إنهاء كامل الدورة النباتية (cycle végétatif)للزراعات.
• وضع خطة عاجلة لتشجيع الفلاحين على القيام بعمليات زبيرة حادة للأشجارالمثمرة للتقليل من إستهلاك المياه وتخصيص إعتمادات وحوافز تشجيعية لحث الفلاحين على قلع الأشجار المسنة وضعيفة الإنتاج.
• إيقاف الغراسات الجديدة للأشجار المثمرة بالمناطق التي تشكو عجزا في مواردها المائية.
• القيام بدراسة لقطاع الأشجار المثمرة المروية لتحديد الحاجيات الأساسية للسوق الوطنية في علاقة مباشرة بندرة المياه وبالمردودية الاقتصادية للتصدير باعتبار الكلفة الحقيقية للماء وجميع المدخلات الأخرى التي تتمتع بدعم ميزانية الدولة. ودراسة إمكانية تعويض بساتين القوارص المسنة بأصناف أخرى أقل إستهلاك لمياه الري.
• الترخيص بحفر آبار داخل المناطق السقوية العمومية التي تحتوي على موائد مائية يمكن إستغلالها لتدعيم مياه الري بها.
• تنفيذ خطة إتصالية مكثفة تشمل كافة المستعملين للمباه لمزيد ترشيد الإستهلاك وحسن توظيف الماء إقتصاديا وإجتماعيا والحد من ضياعه وتبذيره.
• الإسراع بإتمام المشاريع العمومية الجارية لحفر الآبار العميقة.
جمال العبيدي
مدير عام سابق بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري
- اكتب تعليق
- تعليق