أخبار - 2022.12.12

تطور الشعر الغنائي من خلال الأغنية التونسية في بدايات القرن العشرين

تطور الشعر الغنائي من خلال الأغنية التونسية في بدايات القرن العشرين

بقلم فاخر الرويسي - مداخلتي حول تطور الشعر الغنائي بتونس في ملتقى القلم الذهبي للقصيدة الغنائية بباب سويقة، الدورة الأولى التي خصصت للشاعر الراحل رضا الخويني المنعقدة من 9 الى 11 ديسمبر 2022 التي نظمتها دار الثقافة أحمد بوليمان باب سويقة بالشراكة مع ودادية أعوان وموظفي المعهد الوطني للتراث الفرع الجهوي تونس الكبرى والجمعية التونسية للثقافة الشعبية.

تعتبر الأغنية ظاهرة موروثة منذ القدم، احتلّت مكانة هامة في تاريخ البشرية، فعرف حضورها لدى الخاصة والعامة تطورا عبر الحضارات المتعاقبة والمتلاحقة سيما في سائر البلدان العربية، واتخذت أشكالا وانماطا معتمدة على آلات متنوعة متعددة، تطورت بمرور الحقب والأزمنة، توارثتها وتداولتها وطوّرتها الأجيال عبر مختلف المحامل السمعية البصرية. 

فلا يمكن الحديث عن أغنية دون عنصر الكلمة التي ترنّم بها المطربون والمنشدون بواسطة القصائد والأشعار وسائر الأشكال اللغوية المنتشرة التي عرفتها البوادي والأرياف والأوساط الحضرية، انبثقت منها الإنتاجات الموسيقية المختلفة طرقا وأداء. ولقد مرت الأغنية في بلادنا في بدايات القرن العشرين بعديد التطورات التي تفاعل معها الجمهور المتلقي سلبا وايجابا. كما عرّف الشعر الغنائي بخصائص وطبيعة هذه المراحل التي مرت بها الشعوب ولعب دور مرآة عكست وجدان الشعراء وأحاسيسهم. ولقد كان للأنماط الموسيقية الأندلسية منذ لجوء المورسكيين لبلادنا خلال القرن السابع عشر، واقامتهم بعدد من المناطق التونسية الأثر العميق في صياغة الأغنية تعبيرا ولحنا. كما كان للموسيقى العرقية والإرتجالية بعد دخول المستعمر الفرنسي وقبله بقليل، تأثيرات كبير ة على الشعر الغنائي التونسي وتوجيه الذوق العام للمجتمع، الذي أقبل وقتئذ على المالوف والأغاني الشرقية الخفيفة ذات الأصول المصرية والشامية والسورية، والغربية كـ "الجاز "و"الصول ميوزيك" و"الهيب هوب" و"الروك" التي طبع أغلبها بالإبتذال والميوعة واصبحت ظاهرة متوارثة اثرت في مضمون الكلمة شكلا ومعنى وبعدا اجتماعيا، على خلاف الأشعار البدوية، القبلية، الرّيفية والجبلية  التي جاءت في شكل تعبيرات تعكس ضراوتهم وباسهم، وتشبثهم بأصولهم، وتتغنى ببطولاتهم وصولاتهم وتمسّكهم بهويتهم وأخلاقياتهم الدينية والاجتماعية المتوارثة. 

اما الأغاني والأشعار الحضرية، فقد اتخذت منحى آخر للتعبير عن كل ما هو مادي حياتي معاش، كتصوير لمشاهد الحب الإباحي المثير للغرائز والشهوات متحدية بذلك القيود الاجتماعية والاخلاقيات السائدة، بانتقاء مفردات فرنكوفونية  متحررة نعتها ناقدوها بـ"الهابطة الركيكة والهجينة"، عادة ما عبّر أغلبها  عن احاسيس دفينة ممنوعة ومحاصرة دينيا واجتماعيا، مثل عدد من إنتاجات جماعة تحت السور ، ككتاب علي الدوعاجي "جولة بين حانات البحر المتوسط"، أو  قصيدته "الي ما شاف عينك محروم" التي لحنها خميس ترنان وغيرها من الأشعار الغنائية الإباحية التي أدّاها مطربون مسلمون ويهود على حد سواء، منهم على سبيل الذكر لا الحصر، الثائرة الجريئة المتمرّدة شافية رشدي (أو زكية المراكشي) التي التحقت بجماعة تحت السور في بداية مشوارها الفني من خلال أغانيها مثل "علمني الحب يا معلّم"، أو حبيبة مسيكة من خلال أغنيتها "شفت الشفة لون الخمرة" للشاعر محمد الشاذلي خزندار، او "دير المدام في الكاس"، و كذلك ما يسمّى بأغاني الزندالي التي كان الشيخ العفريت من أبرز مؤديها وملحّنيها وروّادها، كأغنية "لو كنت نعرف فاطمة تنساني لا كنت نوصل ريقها وانمصو"، أو صالح الخميسي الذي يعتبر أحد المتأثرين بالفكاهي اليهودي التونسي كيكي قتة بأغانيه المرحة الساخرة مثل " آنا عمري ما سكرت أما اصحابي غرّوا بيا"، أو في بودفّة شبحتنا" إلى آخره من الأغاني التي أثارت حفيظة عدد كبير من المحافظين التونسيين ومن الوطنيين من شيوخ الزيتونة الذين ارتأوا في ذلك مساس بالهوية، ومؤامرة استعمارية خسيسة لطمس اللغة العربية وتمييعها، ومحاولة فاشلة لفرنسة البلاد وترسيخ الهيمنة الاستعمارية خاصة بعد المحاولات البائسة المؤتمر الأفخارستي المراد منه نصرنة البلاد سنة 1930 و للتجنيس سنة 1933.

فهل كان البارون ديرلانجي منتصرا للأغنية التونسية الأصيلة المتشبثة بالهوية العربية الاسلامية، ومقاوما للشعر الغنائي الهابط المشين، ومصحّحا لمسارها وحاملا لرايتها عندما دعا وأقنع الملك فؤاد بتنظيم مؤتمر للموسيقى العربية بالقاهرة سنة 1932؟  

الثابت الذي تأكده لنا الشهادات والوثائق والمؤيدات هو أن البارون لم يدّخر جهدا من أجل جمع ولمّ شتات جزء هام من تراثنا، تاركا لنا ست اجزاء، جمّع فيها وتناول بالدّرس بمعية المنوبي السنوسي ومحمد غانم و مريدخ سلامة وغيرهم، التراث الموسيقي التونسي ذات الاصول الاندلسية. وهي وثيقة قيّمة حافظ فيها مؤلفها على تراثنا من التلف.  والثابت ايضا أن الملك المصري فؤاد دعا لعقد مؤتمر بالقاهرة 1932 بتحريض مسبق، ودعم فاعل، وتنظيم محكم من البارون ديرلانجي نفسه الذي استعان من أجل ذلك -علاوة على تونسيين- بعدد من الشخصيات المشرقية الفاعلة في الميدان الموسيقي. والثابت كذلك، أنّه انبثقت عن هذا المؤتمر - الذي لم يتمكّن من حضوره لمرضه الذي عجّل بوفاته-  لوائح وتوصيات تدعو النخب وتأكد على ضرورة الارتقاء بالأغنية التونسية والعربية عموما، كلمة ولحنا، وانقاذها من "التردي" التي أصبحت عليه.

يقول الاستاذ محمد الأصرم أحد روّاد الأغنية التونسية في محاضرة ألقاها بالمسرح البلدي في ماي1934: " أيحسن بنا يا أيها الأمجاد أن تبرز هذه البلاد قطع غنائية يقال لها شعبية مثل " لا حول الله"، و "شيري حبيتك"، التي هي عبارة عن خليط من الألفاظ العربية الدارجة والإفرنجية زيادة على دعارة ألفاظها وخروجها عن دائرة الأدب والكرامة مثل «بوشمه زنـزر"، ومثل "من صابني بردقانة"، ومثل ومثل  ومثل. وبكل الأسف قد سجلت هذه المعرّات على اسطوانات الحاكي وتبعثرت في مختلف انحاء البلاد وشتى الأقاليم تسمعها كثير من الأمم وعند ذلك يحكمون بمجاجة الذوق الفني التونسي وخروجه غن التهذيب والكرامة".

لكن يجب التذكير هنا أنّه من المفارقات العجيبة والملفت للانتباه، أن عددا من الفنانين التونسيين الذين أدّوا ونظموا ولحّنوا عدد من هذه الاغاني التي امتعض منها وشهّر بها الأستاذ صفر وغيره من المهتمين بالشأن الثقافي في تلك الفترة والتي نعتوها بـ "الهابطة الخارجة عن دائرة الآداب والدعارة"، كانوا ضمن الوفد التونسي الذي ترأسه حسن حسني عبد الوهاب. ومنهم ايضا من البارزين الذين شاركوا في بعث الجمعية الرشيدية سنة 1934 كخميس ترنان وصديقتنا شافية رشدي أو نانا ومحمد التريكي ومصطفى صفر وغيرهم من الذين التحقوا بهذه الجمعية والذين أصبحوا فيما بعد من أبرز عناصرها، وسبحانه مبدّل الأحوال، الذي أعاد لهم وعيهم وأرجع لهم رشدهم.

ولقد مثّل تأسيس الإذاعة التونسية سنة 1938 منعرجا حاسما ساهم بقوة في التعريف بالشعراء الغنائيين والملحنين والمطربين والعازفين، بتخصيص حصص إذاعية أسبوعية تبث خلالها اعمال الفنانين وانتاجاتهم التي امتزجت فيها المقامات والطبوع التونسية بالمقامات الاندلسية والشرقية. وقد ذكّر الاستاذ الصادق الرزقي في كتابه الأغاني التونسية بمساهمة المذاهب الصوفية في التيار التصحيحي للأغنية   قائلا:" «ولقد انتشرت هذه الحلقات لدى مختلف «الطرق الصوفية» التي كان عددها يزيد على 10 طرق من أبرزها العيساوية والقادرية والعزوزية والسلامية والرحمانية والتيجانية والشاذلية وهي وإن كانت أذكارها وأناشيدها تحتكم إلى الضوابط الإيقاعية والنغمية للموسيقى التونسية (المالوف) فإنها لا تعتمد الآلات، إلا الطريقة العيساوية التي تصاحب أذكارها آلات الإيقاع فقط كالبندير والنغارات، أو الطريقة العامرية التي تعتمد آلة الزرنة (الزكرة) إلى جانب آلات الإيقاع، ولقد خصّص لهذه الطرق مكانا يجتمع فيها المنتسبون لطريقة ما للقيام بالإنشاد والذكر ويسّمى هذا المكان بالزاوية".

ولقد اتخذ الشعر الغنائي التونسي منحى آخر عند استقلال البلاد، فرغم أن القصائد الغنائية لم تساهم بصفة فعلية في ملحمة الكفاح الوطني باستثناء الشعر الشعبي وشعر الشابي بعض الأبيات المحشوة المتخفّية في بعض القصائد التي ضلت مجهولة، فإن النظام البورقيبي وفّر وسخّر امكانيات كبيرة بعد تأسيس الإذاعة سنة 1958، فأعطت هذه منذ ذلك التاريخ مكانة كبيرة للفن والفنانين. فغيّرت بعض المفاهيم الخاطئة المبخّسة للفن وغيّرت النظرة الدّونية له ولأهله، وبعث مصلحة للموسيقى صلبها، وألحقت ادارة بوزارة الثقافة تعنى بها. 

واعتنت بالكونسرفاتوار وأقرّت تدريسها في المعاهد كمادة علمية قارة لها مكانتها، فاسحة المجال لأساتذة فطاحل مثل محمد التريكي وصالح المهدي ومحمد سعادة ونور الدين العنابي والطاهر غرسة وعلي السريتي وفتحي زغندة أطال الله في عمره وغيرهم، لتكوين اجيال من الشبان في المجال الموسيقي نفتخر بهم اليوم. ولم تكن سلطة الاستقلال غافلة عن توظيف الأغاني بتوجيه كلماتها لتمرير سياسة الحزب الحاكم آنذاك فتعددت الاغاني والاناشيد التي تغنت بالوطنية والانتماء كأغنية "بني وطني" للشاعر عبد المجيد بن جدو ولحن الشاذلي أنور وأداء الخالدة عليّة. ولدعم برامجها ومخططاتها التنموية والاجتماعية، وبالنهوض بالتونسي وتهذيب سلوكياته. فانتشرت أغاني المورالي "حسّن هندامك يا خويا ونظف ملبوسك يهديك" وأغنية "أقرا واحفظ ياللي تسمع ما تكونش مغرور" وأغاني السملالي مثل "رينا عجايب رينا غرايب" و" الزازوات" وغيرها من الأغاني الخفيفة التي نظمت خدمة لأهداف دولة الاستقلال. فتطعم من خلال ذلك المشهد الثقافي بشعراء غنائيين تميزوا بغزارة انتاجاتهم وجماليته، برز بينهم شاعر "التونسة" والأجيال رضا الخويني الذي نظم ما يربو عن 3000 أغنية.

لقد مرّ الشعر الغنائي التونسي بفترات مدّ وجزر قبل وبعد الاستقلال، وها أن موجة أخرى من أغاني "الراب" تغزو الفضاءات السمعية البصرية وأحدث مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة جنونية، طغت فيها عبارات احتجاجية ثائرة قلبت الطاولة على السائد المتعارف، وعلى القيود والقوالب الجاهزة ، يصعب على المرء توصيفها أو تصنيفها، ويبقى حائرا في طريقة نعتها، تتضمّن ألفاظ وتوصيفات للمعناة اليومية للإنسان في كل أصقاع العالم مقترحة احيانا حلولا يمكن نعتها بالسريالية احيانا مثل "الحرقة" او حتى الانتحار، مستغلة في ذلك المساحات الخارقة التي وفرتها أحدث التقنيات الاتصالية. فـ "الراب" ظاهرة ذو حدين، لا تقتصر على بلد او قطر او قارة ما بل متأثرة بوضع عالمي جديد. 

حوصلة لما تقدم، يمكن لنا أن نستنتج أن تطوّر الشعر الغنائي وتموقعه المجتمعي، ومدى تأثيره على الفرد رهن ونتاج لجدلية قائمة، كامنة في زمن دائم التحرك لمواقع متصلة متكاملة قوامها الأخذ والعطاء.

فاخر الرويسي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.