أ.د. محمد العزيز ابن عاشور: شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور وواجب الاجتهاد
إذا كانت المنزلة الرّفيعة التي تمتاز بها شخصيّة العلاّمة محمد الطاهر ابن عاشور (1879 – 1973) ناتجة عن آثاره الجليلة وبخاصّة تفسيره للتّحرير والتّنوير وكتابه المرجع في علم مقاصد الشريعة فهي تعود أيضا إلى مساهماته القيّمة من أجل تجديد التّفكير الإسلامي وسعيه الحثيث للنّهوض بالشّأن العلمي والتّربوي والعناية الفائقة لإعطاء العقل المستنير ما يستحقّ من مكانة عالية ودور مركزي قصد تحقيق صحوة حضارتنا.
وتندرج مسألة الإجتهاد المعاصر عند الشيخ ابن عاشور ضمن تصوّر شامل للإصلاح ومن أهمّ عناصره ضرورة النّهوض بالتّعليم والعلوم الدينيّة والشرعيّة واللغويّة والأدبيّة.
ولا يخفى على أهل المعرفة والثقافة والتّاريخ ما كانت تعاني المنظومة التّربويّة في مبادي القرن العشرين – زمن كان ابن عاشور مدرّسا شابّا بجامع الزّيتونة – من الجمود المتراكم ومساويه الكثيرة ومن أخطرها "سلب الحرّية عن العلوم بسبب قصر العلم في نظر الجمهور على نقل كلام السّلف" (ص. 180 من كتاب أليس الصّبح بقريب، ط. 1408 هـ /1988).
فإذا أردنا أن نفهم موقف العلاّمة الإمام من الاجتهاد ووجوبه يتعيّن أن ننطلق من كتاب ألّفه الشّيخ في حدود 1905 وسمّاه "أليس الصّبح بقريب" (إشارة الى سورة هود\81) قام فيه بتشخيص الأوضاع في المؤسّسة الزيتونيّة وتقديم آرائه الإصلاحيّة. يقول الشّيخ ابن عاشور ثائرا متألّما: "وقف بنا المسير وضاقت التآليف واختلطت العلوم وأصبحنا نتابع ما وجدنا غير شاعرين ألحُسْنٍ اتّبعناه أم لقُبْحٍ نبذناه. وتبدّلت العصور وتقدّمت العلوم وطارت الأمم ونحن قعيدو علومنا وكتبنا، كلما أحسسنا بنبأة التقدّم والرّقي وتغيير الأحوال استمسكنا بقديمنا وصفدنا أبوابنا، فإنّك لتنظر الرّجل وهو ابن القرن الرّابع عشر فتحسّه في معارفه وعلمه وتفكيره من أهل القرن التّاسع أو العاشر، (...) فرزئ النّاس فائدة الانتفاع بأخلاقهم وعوائدهم ومكتشفاتهم وسلبوا شرف النّفس باعتيادهم التّقليد والإستكانة لكلام الغير واعتقادهم أنّ ما أتى به الأقدمون هو قصارى ما تصل إليه قدر البشر" (ص. 161 من "أليس...).
ومقاربة الشيخ لم تكن نظرية فقط بل سعى إلى إصلاح التّعليم الإسلامي لمّا تولّى رئاسة الجامع الأعظم جامع الزّيتونة وفروعه (في 1932-33 ومن 1945 إلى 1960) وتحقّقت بفضل جهوده نتائج هامّة في مجال النظام التّربوي والبرامج وتحسين ظروف العيش والتعلم للتلاميذ والطلبة بالرّغم من العراقيل النّاشئة عن ضعف الاعتمادات وعن الوضع الاستعماري ومنافسة النظام المدرسي والجامعي الجديد في عهد الجمهورية.
الشيج محفوفا بطلبة جامع الزيتونة في حدود سنة 1951
وفي نطاق البحث عن أسباب تراجع الاجتهاد فلم يقتصر الشيخ ابن عاشور على تقييم أوضاع التّعليم بل وضع هذه المسألة في نطاق أوسع تاريخي واجتماعي وسياسي: يقول في كتابه مقاصد الشّريعة الإسلاميّة عند تطرّقه لمسألة الإجتهاد وأسباب تراجعه بل فقدانه: "قد أثمت الأمّة بالتّفريط فيه مع الاستطاعة ومكنة الأسباب والآلات ويعدّ آثما في ذلك العلماء المتمكّنون من الانقطاع إلى خدمة التفقه الشّرعي للعمل في خاصّة أنفسهم ؛ ويعدّ آثما العامّة في سكوتهم على المطالبة بذلك بل وفي إعراضهم عمّن يدعوهم إليه إذا شهد له أهل العلم ؛ ويعدّ آثما الأمراء والخلفاء في إضاعة الاهتمام بحمل أهل الكفاءة عليه" (ص. 394 من طبعة 1425-2004).
أمّا المقاربة الشاملة لمسألة الاجتهاد عند محمد الطاهر ابن عاشور فتظهر جليا في كتابه المقاصد الذي نشر في طبعته الأولى سنة 1366 / 1946-47 (وقد اعتمدنا أيضا على طبعة 1425/2004 بتحقيق ومراجعة الشّيخ محمد الحبيب ابن الخوجة). يفتتح كلامه حول الإجتهاد ووجوبه بالتذكير بالصّلة بين الرّخصة بمفهومها الفقهي والاجتهاد ملاحظا أنّ كلمة العلماء أطبقت على أنّ الرّخصة تغيّر الفعل من صعوبة إلى سهولة لعذر عرض لفاعله ("إنّ الرّخصة مستمدّة من قاعدة رفع الحرج" كما يقول أبو إسحاق الشاطبي). وفي هذا المضمار ينتقد شيخ الإسلام ابن عاشور الفقهاء حيث فرضوا الرّخص ومثّلوها في خصوص أحوال الأفراد، و لم يعرجوا على أنّ مجموع الأمّة قد تعتريه مشاقّ اجتماعيّة تجعله بحاجة إلى الرّخصة" (ص. 392) ويواصل قائلا: "من أجل هذا كانت الأمّة الإسلاميّة بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشّريعة وتمكّن من معرفة مقاصدها وخبرة بمواضع الحاجة في الأمّة ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشّرعية لاستبقاء عظمتها واسترخاء خروقها ..." (ص. 393).
فالاجتهاد حينئذ فرض كفاية على الأمّة بمقدار حاجة أقطارها وأحوالها. وينبّه الشيخ إلى أنّ ذلك لا يتمّ لأحد إلاّ متى توافرت لديه شروط ثلاثة:
1) أن يكون الفقيه ذا نظر سديد في فقه الشّريعة.
2) وأن يكون متمكّنا من معرفة مقاصد الشّريعة.
3) وأن يكون خبيرا بمواضع الحاجة في الأمّة.
وفي مقدّمته لكتاب مقاصد الشّريعة الإسلاميّة – بعد ذكر كلام أبي إسحاق الشاطبي المتعلّق بدرجة الإجتهاد التي لا تحصل إلاّ لمن اتّصف بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشّريعة والثاني التمكّن من الاستنباط بناء على فهمه فيها – يوضّح ابن عاشور وجوب الإجتهاد في عصرنا قائلا: "هذا كتاب قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشّريعة والتّمثيل لها والاحتجاج لإثباتها لتكون نبراسا للمتفقّهين في الدّين ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدّل الأعصار وتوسّلا إلى إقلال الإختلاف بين فقهاء الأمصار حتّى يستتبّ بذلك ما أردناه غير مرّة من نبذ التعصّب". (ص. 5، من طبعة 1425).
واللاّفت للانتباه في هذا المضمار أنّ الشّيخ أشار منذ سنة 1366–1946 إلى ضرورة إنشاء "مجمع علمي يحضره من أكبر العلماء بالعلوم الشّرعيّة في كلّ قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين ويبسطوا بينهم حاجات الأمّة ويصدّوا فيها عن وفاق فيما يتعيّن عمل الأمّة عليه".
والحمد لله على أن تحقّقت أمنية الشّيخ ابن عاشور فلنا اليوم مجمع الفقه الإسلامي ومؤسسات علميّة أخرى ومؤتمرات رفيعة المستوى تساعد على العمل الاجتهادي في كنف المقارنة النظرية والوفاق لما فيه الخير لعلوم الدين.
أمّا فيما يخصّ البعد الإجتهادي عند الشّيخ العلاّمة في تفسيره للقرآن تحرير المعنى السّديد وتنوير العقل الجديد فسأقتصر على ذكر بضع مقاطع دّالة على فكره الاجتهادي والتجديدي حيث يقول في المقدّمة: "والتّفاسير وإن كانت كثيرة فإنّك لا تجد الكثير منها إلاّ عالة على كلام سابق بحيث لا حظّ لمؤلّفه إلاّ الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل". ويواصل قائلا: "فإنّي بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التّفاسير بحيث ساوى هذا التّفسير على اختصاره مطولات القماطير ففيه أحسن ما في التّفاسير وفيه أحسن ممّا في التّفاسير".
هذا ما رغبت تقديمه حول مسالة الاجتهاد في العصر الحاضر عند الشّيخ ابن عاشور. هذا العلامة الذي قال عنه الدّكتور بلقاسم الغالي "يعتبر شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور إماما مجتهدا، شمل فقهه قضايا عديدة ظهر فيه علمه الغزير وفهمه العميق لمشاغل عصره واجتهاده لحلّ الإشكاليّات الواردة على المسلمين". (شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور، حياته وآثاره. دار ابن حزم، بيروت 1417 – 1996).
أ.د. محمد العزيز ابن عاشور
- اكتب تعليق
- تعليق