فاخر الرويسي: أريانة ... من "هادريان" الى "بو الڨبرين"
خطأ أن يذهب في ظن الكثيرين أن تاريخ أريانة بدأ انطلاقا من قدوم التقي الورع المجاهد عمار المعروفي من قرية "معروف" المتاخمة للقيروان وسليانة. والمعروف عن هذا الرجل انه تتلمذ عن الشيخين أبي هلال السدادي الجريدي والمتصوّف الشهير الشيخ سالم القديدي الذي انتسب الى قرية "قديد" التي كانت توجد هي الأخرى قرب القيروان قبل اندثارها.
وقد اشتهر عمار المعروفي في اريانة بسعة علمه وشدة ورعه وغيرته على دينه ووطنه ليصبح في ما بعد وليا صالحا يستشهد بخصاله، وليتخذ أهاليها من قبره بعد استشهاده مزارا لهم، رغم مطالبة القيروانيين بدفنه بمسقط راسه باعتباره ابنا بارا لها و تبركا بمآثره وجهاده حتى انه كنّي بـ"سيدي عمار بوالڨبرين" اثر استجابته بمعية استاذه وصديقه الشيخ سالم القديدي لدعوة المستنصر بالله الحفصي للجهاد في سبيل الله والتصدي للحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع في جوان 1270 م ضد الاسلام وتونس
شيد له الأريانية قبة اشتهرت بقبة "سيدي عمار" المجاهد القيرواني التي اصبحت قبلة لهم، لكن وقعت ازالتها بتعليمات من النظام البورڨيبي في 19 افريل 1962 ليدفن وقتئذ في المكان المحاذي لمقامه الأول الذي تحول في جويلية سنة 1963 مقبرة لأبناء اريانة الذين استشهدوا في معركة بنزرت التي وقع تدشينها يوم 9 افريل 1963 من طرف السادة عبد المجيد شاكر مدير الحزب الحر الدستوري وحسيب بن عمار شيخ مدينة تونس وعبد المجيد المنستيري معتمد تونس والاحواز ومصطفى الحجيج رئيس بلدية اريانة ورئيس شعبتها.
المقام الجديد للولي سيدي عمار
إنّ مقاومة أهالي اريانة بقيادة المجاهد عمار المعروفي لحملة لويس التاسع الصليبية ليست الاّ محطة متقدمة وحلقة من الأحداث التي مرّت بها هذه القرية تاركة وقعها على مزاج اهاليها وتقاليدهم، كما أثّرت على سلوكيات الأرياني الذي صار يأبى ان تكون نشأة قريته أعرق بكثير من تلك الحقبة، رغم أنه شيد منزله على انقاذ حناياها وسورها وركام احجارها، ورغم الشواهد المنتشرة هنا وهناك والتي لم يبق منها للأسف سوى "صمعة البلّارج" التي تعدّ هي الأخرى صرحا معماريا في طريقه للتلف والاندثار، بحكم محاصرة البناء لها وتطويقها وخنقها من كل الجوانب ونتيجة ازدراء جمعيات التراث وعدم اكتراث السلط المسؤولة للمحافظة عليها واهمال ادراجها ضمن المعالم الأثرية التي يجب حمايتها.
مخطوط من مذكرات جلول المرياح
إن الأبحاث القليلة النادرة الواردة في شان أريانة تحثك على الغوص والبحث اكثر عن تاريخ هذه المدينة.
فقد اعتبر المؤرخون ان القرن الثالث عشر نقطة تحول طبع منطقة أريانة ومنعرجا لا يستهان في تاريخها إذ ان المعطيات الجديدة أفادت ان تلك القرية شهدت في تلك الفترة تحولات عميقة في اتجاه تجذير وتعميم حركة التصوف العامة التي انتشرت في المجتمعات الاسلامية وخصوصا في افريقيا الشمالية وافريقيا السوداء، فتفاعلت معه مدينة اريانة اثر بلوغ هذا الاتجاه العقائدي ذروة من الازدهار نظرية وممارسة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف كانت اريانة قبل القرن الثالث عشر وخلال القرون التي خلت؟ وما هو الدور الذي لعبته في تلك العصور البعيدة الغابرة؟
لقد اختلفت الآراء والمقاربات ولم يحسم الجدل للإجابة عن هذا السؤال لأنها كلها لا تستند الى حقائق علمية تاريخية مقنعة. ففي كتابه " وصف افريقيا" تحدث وزان الافريقي Léon l’Africain عن هذه المدينة قائلا انها شيدت زمن الغوط Les Goths.
أما مارمول Marmol فانه صرّح في كتابه "أفريقيا" ان الرّوم هم اللذين بنوها وشيدوها.
لكن "دو بيللوڨران De Pellegrin يعتقد أن تسمية أريانة تعود الى قرية متواجدة بضاحية قرطاج اسسها واختارها الفندال Les Vandales كمنطقة سكنية وأطلقوا على أهاليها تسمية "أرياني" نسبة الى أريوس.
ولئن لم يمدنا التاريخ عن المجتمعات والحضارات العتيقة والقديمة وخصوصا عن المنطقة الزراعية التي تقع بضواحي قرطاج الاّ بالنزر القليل والمحدود جدا من المعلومات، فانه يحق لنا ان نجتهد بالرجوع الى ذلك التاريخ لنسلّم بان أوتيك التي سبقت قرطاج بثلاث قرون والتي ازدهرت خلالها وتمتعت فيها بالرخاء الاناني بوصفها مصرف فينيقيا المتحضر سبق ان تحدّثت عن هذه المنطقة المخضرة المجاورة للمدينة الجديدة قرطاج حيث تناغمت فيها الاعناب والكروم والزياتين وشجر الخروب وعرجت كذلك عن حقول احد قضاة قرطاج التي تعانق فيها القرنفل بالورد والازهار وببعض التوابل التي لم يقع ذكر اسمائها. كما انه بقرب المدينة الجديدة قرطاج وقع ايواء غرباء اجانب اتوا من الجهة الشرقية عبر البر والبحر لبيع البخور الفينيقي واللوبان العربي.
كما يحق لنا ان نتصوّر أنّ أريانة كانت قبل ان تتحول الى قرية ومدينة عبارة عن حضيرة بناء ومعسكر حشد فيه العبيد لبناء القسط الاخير من مشروع الحنايا الرومانية، إذ أنّ قرطاج احتاجت الى المزيد من الماء في العصور القديمة - لانفجارها العمراني واتساع عمرانها اتساعا كبيرا- سعت الى جلبه من جبل زغوان عن طريق مشروع الحنايا التي بدأ في انشاءها الإمبراطور هادريان Hadrien ما بين سنتي 120 و 130 ميلادي، وأصبحت جاهزة عل ما يبدو في ايام سبتين سيفار SeptineSèvère ما بين 193 و 211 ميلادي.
فكان عبور هذه المياه العذبة على التراب الارياني ضرورة أملاها المخطط المديري للمشروع الذي انسجم مع طبيعة المناطق الجغرافية وتضاريسها، وأريانة من بين المناطق التي نجت أراضيها من اكتساح مياه السبخة بقطع النظر عن سهل سكرة وعين زغوان الذين عبرتهما تلك الحنايا عبر برج البكوش.
صورة حديثة: من بقايا الحنايا سمعة البلارج بنهج سيدي الجبالي
كانت حنايا "هادريان" قادرة على جلب ما لا يقل عن 32000 متر مكعب، اي بمعدل 320 لترا في الثانية. فعندما نرجع الى الدراسة القيمة التي قام بها M. Bede الباحث بمصلحة المناجم الفرنسية نستنتج انه بعد الحفريات التي قام بها سنة 1910 بمنطقة العوينة وسبخة اريانة ان البحر كان يكتسح فعلا سبخة اريانة حتى هضاب جعفر إلى جهة ما يسمى قديما بالسّور واسفل هضبة الولي سيدي عمر بوخطيوة.
كانت أريانة عبارة عن محك لا يستهان به رغم محدودية رقعتها الترابية وقتئذ، ومحورا حساسا، وهمزة وصل مثلث قرطاج/أوتيك/تونس، وقرطاج/تونس/أوتيك، ومفترق طرق تميز بالحركة الدؤوبة بين المدينتين، العريقة اوتيك والجديدة قرطاج. وهي طريقا تبدو انها كانت اكثر اهمية الى زمن ما من الطريق الرابطة بين قرطاج وتونس لان تونس وقتئذ كانت مغمورة بمياه السبخة ولم تكن بالأهمية التي عرفتها القرون التي تلت.
كان لكل مواطن قرطاجي حق الملكية في الحقول المجاورة والمحيطة بمدينته، ما وفر لقرطاج حاجياتها من قمح وشعير وزيتون وحليب وبيض ودواجن وخضر وغلال وشراب. وكان القرطاجيون يستبدلون قسطا من خيراتهم بأخرى من التي يأتي بها التجار الرحّل الذين سبق وان تكلمنا عنهم، قبل ان يعلو شانها ويتسع عمرانها واراضيها لتصبح محل اطماع القوى المجاورة لها وروما بالدرجة الأولى، لما تكتسبه هذه الاراضي من خصوبة وخيرات وحنكة ودراية أهاليها. وهو ما يفسر خضوع الارياني للقرطاجي قبل مجيء روما.
ان تطور الاوضاع وتسلسل الاحداث وحلول الحروب البونيقية حوّلوا هذا الحقل الخصب و البستان الجميل من مكان وديع آمن الى مسرح لمعارك المرتزقة، فحلّ الدمار محلّ الاخضرار، بعد ان فقدت قرطاج نفوذها وسيطرتها على اوتيك. ومرة اخرى تتخذ عجلة التاريخ من هذه المنطقة منعرجا ومنعطفا آخر رفّع من مكانتها الاستراتيجية ملصقا بها في الآن نفسه ويلات الدمار وآلام الحروب البونيقية.
لقد اختلطت الامور عند القرويين العزل وتملكهم الذعر وتمكّنتهم الحيرة ولم يدروا اي من الشقين ينحازون.
بقوا هكذا على وعلى هذا المنوال قرابة قرن كامل مليئ بالبلاء والدمار والخراب، غلبه الغموض ولحقه حقن الدماء وعدم الاستقرار والفوضى، ذهبت ضحيتها اجيال من خيرة المزارعين الذين وقع اقتلاعهم عنوة وغصبا من اراضيهم التي اتلفت، وتم حشدهم والحاقهم بالمعسكرات للمشاركة في معارك لا دراية لهم بها ولا قبل لهم بفنونها، بعيدا عن نسائهم التي اغتصبت واطفالهم الذين شرّدوا وقتلوا.
فنحن حين نتامل خريطة معارك "سيبيون" Scipion واكتافيوس Octavius نتأكد ان هضاب اريانة وحقولها لملاصقتها لقرطاج كانت مثلما اسلفنا مسرحا لهذه المعارك. ورغم ان قوستاف فلوبار Gustave Flaubert لم يستشهد بالمراجع التاريخية التي اعتمدها عند كتابته لصلامبوSalambo فان وصفه الدقيق للأماكن التي شملتها المعارك يكاد يكون حيّا وحاضرا في تلك الاحداث، وهو الاقرب حسب اعتقادنا للحقيقة. ولقد اتى هذه الرواية التاريخية بالحديث برومانسية رائعة عن اريانة وهضابها المحيطة، وموقعها الاستراتيجي خلال الحروب البونيقية.
إن ثقل وطأة العصور والحقب، وأنانية حكام المناطق المجاورة والمتاخمة لاريانة غيرت في الكثير من الاحيان مجرى التاريخ جاعلة منها البلدة المحتشمة التي تعيش بطريقتها الخاصة جدا وبطبيعتها الوديعة وراء الاسوار منغلقة عن نفسها. فقد تهيأت للتفاعل والتعامل مع الحضارات التي تعاقبت عليها عبر الزمن، رغم قسوة الاحداث والتاريخ عليها، وتفاني صناعه في ذلك، معملين فيها تناسيهم وتجاهلهم وكأنهم يترقبون ذلك اليوم الذي سوف نخلصها فيه من مركباتهم ونعيد لها اعتبارها- رغم عدم توفر البعض من المراجع التاريخية والمعلومات المادية التي من شانها تقديم البراهين والادلة الموضوعية المتمثلة في شواهد وحطام بنايات وبقايا الحنايا وامثلة اخرى اندثرت تقنعك بان لاريانة تاريخ اعرق مما كتب عنها وقيل فيها. يكفيك ان تقول لنفسك ان هذه المدينة شكلت حلقة من الحلقات الاخرى التي اوصلت الماء والحياة لحي اشمون.
فاخر الرويسي
- اكتب تعليق
- تعليق