أخبار - 2022.05.27

رحيل المثقّف والمفكّر ورجل الدولة، الأستاذ أحمد خالد

رحيل المثقّف والمفكّر ورجل الدولة، الأستاذ أحمد خالد

بقلم أ.د عادل بن يوسف (جامعة سوسة) - غيّب الموت ظهر يوم الاثنين 23 ماي 2022، رجل الفكر والمثقف ورجل الدولة والدبلوماسي القدير، الأستاذ أحمد خالد. ويعدّ الأستاذ أحمد خالد آخر عنقود بناة الدولة الوطنية بمدينة سوسة وجهة الساحل عامة. وبهذه المناسبة الأليمة وبحكم علاقتي الوطيدة بالفقيد، رأيت من الواجب تخصيص هذه الدراسة المتواضعة وفاء للرجل وروحه الطاهرة من جهة، ورغبة في التعريف به لدى الأجيال الحالية من الشبان واليافعين الذي لم يجايلوه.

علاقة وطيدة بالفقيد

لا يتسع المجال للحديث عن علاقتي الوطيدة بالفقيد الذي كان لي بمثابة الأب والمرجع أجد لديه المعلومة الدقيقة عن عديد التساؤلات التي لا أجد لها جوابا لها في المؤلفات والدراسات التاريخية. وبحكم الهاجس البحثي الذي يجمعنا، ألا وهو الاشتغال على نفس المحاور تقريبا: النخبة العصرية ورموز الفكر والسياسة بتونس زمن الحماية ومنذ مطلع الاستقلال، التي خصّها الفقيد بعديد المقالات والمؤلفات والمحاضرات والمصافحات الإذاعية والتلفزية...، فقد توطّدت علاقتي به إلى غاية أسابيع قليلة قبيل وفاته.

عرفت الفقيد كرئيس لبلدية سوسة منذ فترة الدراسة الثانوية حيث كنت أمرّ يوميا أمام بيته في طريقي إلى معهد حيّ الزهراء وكان حينها ابنه إقبال خالد (الرئيس الحالي لبلدية سوسة) يدرُس في الشعبة العلمية بمعهد الذكور بسوسة. ثمّ توطّدت العلاقة بيننا حيث جمعتنا أنشطة ثقافية ولقاءات فكرية بجهة الساحل وتونس العاصمة... حول عديد المحطات البارزة للحركة الوطنية التونسية ورموزها من محاضرات وتقديم لكتبه للعموم حول الزعيم فرحات والهادي نويرة سنة 2006 في دار الثقافة محمّد معروف، سواء بسوسة وبنادي الأجيال بالمنستير أو بتونس العاصمة في أكثر من مناسبة: الاحتفاء بخمسينية المجلس القومي التأسيسي بالمعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية سنة 2006 أو ذكرى إعلان الجمهورية يوم 26 جويلية 2007 (رفقة النائب السابق بالمجلس وابن خالة الزعيم حشّاد، المرحوم محمّد بن رمضان) أو بمناسبة أربعينية المناضل المغاربي، الدكتور حافظ إبراهيم بدار الثقافة بمدينة أكودة في أوت 2010... الخ.

وفي ديسمبر 2010 دعوته لمشاهدة ومناقشة الشريط الوثائقي "الحدث"، الموسوم "اغتيال فرحات حشّاد"، رفقة ابنة الزعيم، الأستاذة جميلة حشّاد الشعري وذلك برحاب كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة والناقد السينمائي، الأستاذ الهادي خليل.

وفي أواخر سنة 2010، قبل الفقيد برحابة صدر القيام بتدقيق لغوي للترجمة المشتركة مع الصديق، الأستاذ محسن البوّاب لرسالة دكتوراه الدولة للمؤرّخ الفرنسي وأستاذه السابق بدار المعلمين العليا بتونس، جون غانياج، "أصول الحماية الفرنسية على تونس (1861-1881)". فكنا نجتمع ببيته في آخر كل أسبوع لساعات طويلة طيلة أشهر، إلى أن صدر الكتاب عن دار برق للنشر بتونس في جانفي 2012 (580 صفحة من القطع الكبير) بتصدير من صديقنا المشترك المقيم بمدينة ليون، الأستاذ محمّد عامر غديرة.

وفي ديسمبر 2014 دعوته إلى إلقاء درس ختامي لفائدة طلبتي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة (السنة الثانية ماجستير التاريخ الحديث والمعاصر) حول "دور الصحافة الوطنية ورموزها في التحرّر من الاستعمار الفرنسي". وفي ذات السياق، قام المدير السابق للمعهد العالي للموسيقى بسوسة، الصديق والزميل الدكتور محمّد زين العابدين بدعوته إلى تدريس مادة "الموشّحات الأندلسية: دراسة شعرية وحضارية" لفائدة طلبة شعبة الموسيقى الشرقية وذلك لمدة سنتين جامعيتين.

وفي ديسمبر 2016 نزل ضيفا على برنامج الإذاعي "شهادات حيّة" بإذاعة المنستير وحاورته مطوّلا حول مسيرته المهنية وقصته مع المسؤوليات، جهويا ووطنيا والكتابة التاريخية والأدبية والبيوغرافيا وعلاقة السياسي بالديني في تونس منذ فترة الثمانيات إلى ما بعد 2011 بالتركيز على كتابه الذي أثار جدلا في عديد الأوساط التونسية فور صدوره سنة 2014 الموسوم "كيف زُرع الفكر التكفيري في ثمانينات القرن العشرين بتونس؟". وقد بثّت شهادته تلك على امتداد 04 حلقات (ساعة لكل حلقة) أيام الأحد 11، 18، 25 ديسمبر 2016 و 01 جانفي 2017.

ورغم جائحة الكوفيد قبل حضور التظاهرة الثقافية التي نظمتها إدارة جمعيّة "الاتحاد الثقافي بسوسة" برئاسة السيّدة نفيسة بن سوسية - المرابط لفائدة الفئات ذات الحاجيات الخصوصية واحتفاء بالناجحين منهم في الامتحانات الوطنية وتحوّل معي عشيّة يوم الأحد 19 جويلية 2020 إلى مقرّ الجمعيّة بساحة سيدي يحي، حيث قدّم شهادة عن تجربته كأستاذ وإطار تربوي سابق بمعهد الكفيف بسوسة في السبعينات.

و كان آخر نشاط مشترك جمعنا معًا في جويلية 2021. فبحكم إصداره لمؤلفَيْنِ عن المناضل ورجل الدولة، الأستاذ الهادي نويرة وبوصفي مديرا علميا لجمعية "ذاكرة الهادي نويرة" (التي يرأسها الأستاذ أحمد الكرم ويشغل خطة كاتبها العام، السيّد عبد الكريم بوجمعة)، والتي حاضر بها في أكثر من مناسبة بمقرّ البنك المركزي وبلدية المنستير...، فقد قبل الفقيد دون تردّد أن ينزل الفريق التابع لقناة الجزيرة المكلّف بإنتاج الشريط الوثائقي الخاص بالأستاذ الهادي نويرة برئاسة المخرجة سماح الرياحي، ببيته وقدم كلّ منا شهادة مصوّرة بحوالي ربع ساعة.

المولد والنشأة والدراسة الابتدائية والثانوية

ولد الأستاذ أحمد خالد بمدينة سوسة في 13 جويلية 1936 وسط أسرة متوسطة الدخل أصيلة مدينة قفصة وكثيرة العدد تتألف من ستة أبناء و ستّ بنات، هو الرابع فيهم. غادر والده السيّد محمّد خالد مدينة قفصة لأداء الخدمة العسكرية بالجيش الفرنسي سنة 1914 فتمّ توجيهه، مثل الآلاف من الشبان التونسيّين للقتال فوق التراب الفرنسي دفاعا عن الدولة الحامية وحلفائها طيلة الحرب العالمية الأولى. وفور عودته قرّر الانضمام إلى الجيش الفرنسي فتمّ تعيينه بثكنة "مون توزان" (Mont Touzain) بمدينة سوسة حيث استقرّ وتزوّج بالآنسة بشيرة بنت حامد نور الدين، التي كان عمّها زميلا له بالجيش الفرنسي. أمّا والدتها عائشة حمادو، فكانت "عْرِيفة" المدينة تدير مدرسة لتعليم الخياطة والطريزة والطبخ والتدبير المنزلي لفتيات المدينة وقرى الساحل وذلك قرب ببيت والديها بحومة سيدي بوراوي بالمدينة العتيقة، وبذلك سيجمع والده بين وجاهة المهنة وحضوة النسب بمصاهرته لكبرى عائلات جوهرة الساحل.

بعد ترددّه على كتّاب الحيّ وعبر خاله معلّم الفرنسية، التحق الطفل أحمد خالد في أكتوبر 1942 بالمدرسة الفرنسية شارع "بوشس" Avenue Bouchet" بسوسة (مدرسة شارع 18 جانفي 1952 اليوم). لكن بسبب الحرب اضطرّت العائلة إلى مغادرة المدينة نحو مدينة المهدية حيث كانت تقطن شقيقته الكبرى المتزوجة ثمّ نحو قرية الزقانّة المجاورة للمهديّة وأخيرا إلى مدينة حمّام سوسة وذلك بسبب القصف الجوي الذي طال الأسطول الألماني المرابض بميناء سوسة وسيطرة قوات المحور على جلّ مدن جهة الساحل المعروف بـ "عام الهجّة". فتعطّل التعليم بالجهة وبكامل أنحاء البلاد لمدة سنة دراسية كاملة تقريبا (من نوفمبر 1942 إلى ماي 1943).

وبتوقّف العمليات العسكرية وعودة الدراسة، التحق الطفل أحمد خالد بالمدرسة القرآنية التريكية، حيث تتلمذ على مؤدبين ومعلمين تونسيّين متشدّدين، نذكر من بينهم: المؤدب كشّيش وكل من المعلّمَيْنِ حسن بن سعيد ومحمّد بوراوي...الخ. وقد دفعه هذا المنهج في التدريس لاحقا إلى الاشتغال على التعليم ومناهجه بتحقيق مخطوط تونسي حول تعليم الصبيان لأبي الحسن علي القابسي القيرواني. وفي نهاية تلك السنة طلب من والده الانتقال من المدرسة التريكية إلى المدرسة الفرنسية- العربية (مدرسة الباب الشمالي) حيث تتلمذ على أفضل المدرّسين وفي مقدمتهم المعلّم دلدول (في مادة العربية) وكل من: الصادق الوحشي ويونس بوراوي والزرقاطي والدبابي (في مادة الفرنسية)... الخ.

وإثر حصوله على شهادة ختم التعليم الابتدائي التحق بالمعهد الثانوي الكلاسيكي بسوسة وتحديدا بالشعبة العصريّة حيث تتلمذ على يد خيرة أستاذته وفي مقدمتهم: علي سليم وأحمد بن صالح و الصادق مازيغ (الذي ترجم القرآن إلى الفرنسية)... في مادة العربية والهاشمي زين العابدين في التربية الإسلامية و "لوي فوشي" "Louis Foucher" في مادة الفرنسية (تخصّص لاحقا في تاريخ مدينة سوسة وناقش سنة 1964 أطروحة دكتوراه في التاريخ القديم عن هذه المدينة خلال الفترة الرومانيّة بعنوان: "حضرموت "Hadrumetum"، إضافة إلى إشرافه على أغلب عمليات التنقيب الأثري بالمدينة وأحوازها وبكامل جهة السّاحل وتنظيمه في سنتي 1959 و 1963 لمؤتمَرَيَنِ علميَيْن دوليَبْن حول تاريخ المدينة بالتوازي مع إدارته للمتحف الأثري بالمدينة إلى أواخر الستينات) و الأستاذ "جيرار ديلدال" "Gérard Deledalle" في مادة الفلسفة و الأستاذ " لحمي "Lahmy" (تونسي يهودي)... وغيرهم من الأستذة الذين كانوا يدرّسون بمعد سوسة في مطلع الخمسينات وبقوا يدرّسون بتونس طويلا بعد استقلالها وكان من بين أتراب الدراسة بنفس الفصل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

و إثر تحرّك التلاميذ داخل المعهد يوم 26 أفريل 1952 تضامنا مع زميلهم حسن الصادق الأسود (أصيل سيدي علوان قرب قصور الساف) الذي أهانه أحد الأستاذة الفرنسيّين، أذن مدير المعهد "ناتيّي" Mattei" لقوات الجيش والجندرمة باقتحام المؤسّسة، فألقي عليه القبض مع العديد من التلاميذ الذين أودعوا الثكنة العسكرية (المجاورة لمقرّ الولاية اليوم) ثمّ السجن الجديد (قرب نزل سوس بلاص اليوم) لمدة 15 يوما وحُوكم مع مجموعة من أترابه ولم يتجاوز بعدُ عمره السادسة عشرة. وفي هذا السجن وجد رموز الحركة الوطنية بالساحل الموقوفين منذ أحداث 22 جانفي 1952 الدامية وفي مقدمتهم رئيس الجامعة الدستورية بالساحل، المناضل والصيدلاني جلّول بن شريفة.

الدراسة العليا بكل من تونس وباريس وتكوّن هاجس البحث لدى الرجل

إثر حصوله على البكالوريا في دورة جوان 1956 انتقل في خريف نفس السنة إلى دار المعلمين العليا بتونس لمزاولة تعليمه العالي حيث تحصّل على الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة سنة 1961 وتتلمذ على خيرة أساتذة الجامعة التونسية على غرار: محمد الطالبي ومحمود المسعدي والشاذلي بويحى وأحمد عبد السلام... الخ. كما اجتاز الاختبار الشفوي للسنة الأولى أمام عميد الأدب العربي بتونس، الدكتور طه حسين بمناسبة زيارته لتونس بين 28 جوان و 04 حويلية 1957 وإلقائه لمحاضرته التاريخية بحضور رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمسرح البلماريوم.

ومنذ تخرّجه التحق بالتعليم كأستاذ تعليم ثانوي بمعهد سوسة حيث تتلمذت على يديه أجيال عدة من التلاميذ أصبح الكثير منهم من كبار المسؤولين في أجهزة الحزب والدولة نذكر من بينهم الوزيرين السابقين محمّد جغام ومحمّد الجريء... الخ.

رغم زواجه من السيّدة نجاة كاهية وإنجابه لابنه البكر إقبال (نسبة للشاعر والمفكّر الهندي محمّد إقبال) فإنّ طموح الرجل في البحث والتحقيق التاريخي قد دفعه إلى الحصول على رخصة تفرّغ ومنحة فشدّ الرحال في خريف 1964 نحو باريس لمواصلة تعليمه بالمدرسة الوطنية للتوثيق "L’Ecole Nationale des Chartes" المختصّة في التوثيق والعلوم المكمّلة للتاريخ. لكنه سرعان ما حنّ لاختصاصه الأول، اللغة والآداب العربية فرسّم بالمرحلة الثالثة بجامعة السربون. وفي جوان 1965 تحصّل على ديبلوم الدّراسات العليا فـي اللّغة والآداب العربيّة من جامعة باريس ثمّ على شهادة التبريز في نفس الاختصاص من نفس الجامعة، دورة جوان 1967 (الثالث على دفعته) بعد أن تتلمذ على كبار المستشرقين المختصّين يتقدمهم الأستاذان "شارل بلاّ" Charles Pella" و "رجيس بلاشير "Régis Blachère" ... وغيرهما من أساطين الاستشراق العربي بفرنسا.

فور عودته إلى تونس حاملا لشهادة التبريز، اقترح عليه التدريس بالجامعة التونسية بتونس العاصمة لكن بحكم التزاماته العائلية بمدينة سوسة فقد آثر العودة للتدريس بمعهد الذكور بسوسة بالتوازي مع مواصلة البحث حول رجال الفكر الإصلاحي ورموز الفكر التنويري مشرقا ومغربا. فكان يتحول في نهاية الأسبوع وخلال العطل المدرسية إلى تونس العاصمة والبقاء لساعات طويلة بالمكتبة الوطنية والأرشيف الوطني للاطلاع على أمهات الكتب والوثائق الأرشيفية. وقد مكنته بحوثه تلك من إصدار باكورة مؤلفاته حول الطاهر الحداد ثمّ حول بعض الشخصيات الإصلاحية بتونس والحوار بين الشيخين المُصلحين، الشيخ الحداثي، سالم بن حميدة (1881-1961) والشيخ التقليدي، راجح إبراهيم (1882-1933).

وقد شدّ كتابه المذكور أعلاه حول المصلح الاجتماعي "الطاهر الحدّاد ونضال جيل" اهتمام الرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان له معه حوارا مطولا (قرابة نصف ساعة) بمناسبة استقباله للإطارات الجهوية بمقرّ ولاية زغوان في خريف 1967 للخوض في مضمون الوثائق والتقارير التي أوردها الباحث في متن الكتاب: مقال بورقيبة "الحجاب" Le Voile" الصادر بصحيفة "الرائد التونسي "L’Etendard Tunisien" يوم 11 جانفي 1929، المؤتمر الأفخارستي في ماي 1930، الاحتفال بخمسينية الحماية الفرنسية على تونس في ماي 1931... الخ.

وقد وقف بورقيبة خلال هذا اللقاء على الحسّ البحثي للرجل واهتمامه بالوثائق والأرشيفات... وبعد أيّام قليلة أشار على وزيره الأول، الأستاذ الباهي الأدغم بدعوته إلى مكتبه بالقصبة لتكليفه بالإشراف على أرشيف القصر الرئاسي وما يوجد به من وثائق ومراسلات عامة رسمية وخاصّة...، لكنه عمله بمدينة سوسة وارتباطه بعائلته الصغيرة هناك، جعله يرفض بكل لطف هذا المقترح.

في سدّة الوظائف الجهوية والوطنية لمدة ثلاثة عقود

شغل الفقيد عديد الوظائف والمسؤوليات: مستشارا في التّربية والتّعليم لدى الوزير الأوّل (1971) فمتفقّدا عاما للتّربية فمُدِير معهد بورقيبة للّغات الحَيَّة بِسُوسَة فرئيس بلديّة سوسة (بين 1975 و1980). وفي هذه الخطّة حصلت له عديد المشاكل مع بعض القوى المتنفذة اقتصاديا تسببت في مرضه بالسكري. لكنه لم يرمِ المنديل، بل سعا إلى تغيير وجه المدينة وتعصيرها بإنجاز عديد المشاريع التي لا تزال قائمة الذات على يومنا هذا من أبرزها: المشروع السياحي سوسة الشمالية أو القنطاوي، إخراج الثكنة العسكرية من وسط المدينة إلى قرية مسجد عيسى وتحويل الثكنتين المتبقتين لاحقا وتحويل مكانهما إلى عاصمة إدارية وذلك بعد مفاوضات عسيرة مع وزير الدفاع حينئذ، الأستاذ عبد الله فرحات. كما أحدث النصب التذكاري لشهداء معركة الساحل يوم 22 جانفي 1952 في مدخل المدينة العتيقة وتعصير وتوسيع الميناء التجاري وتجديد كامل شبكة التطهير بالمدينة وتهذيب المدينة العتيقة وبداية استغلال البلدية للملعب الأولمبي بسوسة وإحداث الحيّ السكني الجديد بسهلول... الخ.

وفي ماي 1977 كان عضوا مؤسّسا للرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان. وقد لفتت كل هذه النجاحات أنظار السلطة المركزية فتمّت دعوته ليشغل منصب رئيس ديوان بوزارة الثّقافة مع الأستاذ البشير بن سلامة (بين 1981 و 1986) والترشّح لخطة نائب بمجلس النّوّاب في الانتخابات التشريعية لخريف 1989.
  وفي سنة 1991 عُيّن كاتب دولة للتّربية مع وزير التربية والتعليم العالي والبحث العلمي، الأستاذ محمّد الشرفي (بين 1989 و 1990). ومن 03 مارس 1990 إلى غاية 20 فيفري 1991 شغل منصب وزير للثّقافة والإعلام.

الدبلوماسي القدير

بعد تجربتي وزارتي التربية والثقافة عيّن الفقيد سفيرا لتونس بالرّباط (من ماي 1991 إلى جويلية 1992). ورغم دقّة هذه الفترة سياسيا بسبب حرب الخليج وبتكليف من وزير الشؤون الخارجية حينها، الأستاذ الحبيب بو الأعراس فقد تمكّن من التحوّل إلى أكثر من رئيس وملك بدول الخليج لتوضيح موقف تونس من احتلال الكويت. وقد حضي بمقابلة الشيخ أحمد جابر الصباح بنزل الميرديان بالطائف بالمملكة العربية السعودية وشرح له موقف تونس من المسألة ومناداتها بخروج الجيش العراقي من الكويت وكل القوى الأجنبية من المنطقة وضروة التعويض للمدنيين المتضرّرين... فكان ردّ الشيخ الصباح: "أنا الغريق فما خوفي من البللِ" !

و من سبتمبر 1992 إلى أوت 1996 شغل منصب سفير لتونس بموسكو حيث عاين عن قرب تفكّك الاتحاد السوفياتي والتحركات الشعبية أمام مبنى الدوما وعبث "بوريس يلتسين" ودخول البلاد في المنظومة الليبرالية... وفي مقرّ إقامة سفير تونس عاش كابوس الأصوات التي كانت تخرج من البيت كل ليلة وبالتنسيق مع السلطات الأمنية السوفياتية وبعد القيام بحفريات تبيّن أنّ أسفل البيت كان يحتوي على حوض تولى وزير الداخلية "بيرا" زمن حكم ستالين جمع كل المعارضين للحزب الشيوعي وتصفيتهم في حوض من الحامض الكبريتي. ومن وحي هذه الأصوات نظم قصائد تولى نشرها بعد عودته من موسكي في دوان أسماه "الأزاهير في جحيم بيت بيرا".

الكاتب والمؤلف دون انقطاع

فور انتقاله للدراسة بتونس العاصمة انضمّ الطالب أحمد خالد إلى أسرة مجلة "الفكر" فجمعته بمؤسّسها الأستاذ محمّد مزالي والفريق العامل معه: عامر غديرة والبشير بن سلامة والميداني بن صالح وفرج الشاذلي... علاقات وطيدة ونشر بها عديد الدراسات والمقالات الأدبية والتاريخية. كما كان سنة 1972 مع فريق "الفكر" عضو مؤسسا لاتحاد الكتاب التونسيّين.

وإثر خروجه إلى التقاعد سنة 1996 تفرّغ للتأليف والكتابة والنشاط الثقافي، إضافة إلى المؤلفات التي أصدرها منذ منتصف الستينات. وقد صدر للأستاذ أحمد خالد 11 مؤلّفا في الأدب والشعر والتاريخ والسيرة، باللغتين العربية والفرنسية دون احتساب الكتب التي كلف بالإشراف عليها من طرف وزارة الثقافة والخاصة بكل من المصلح الطاهر الحداد والشيخ عبد العزيز الثعالبي وأبي القاسم الشابي... وهي تباعا:

1- الطاهر الحداد والبيئة التونسية في الثلث الأول من القرن العشرين، الدار التونسية للنشر، تونس 1967.

2- شخصيّات وتيّارات، الدار العربية للكتاب، تونس،.1982

3- Documents secrets du deuxième Bureau: Tunisie-Maghreb dans la conjoncture de pré-guerre : 1937-1940, Tunis, STD 1983.

4- تحقيق الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلّمين والمتعلمين مع ترجمة للفرنسية لأبي الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي (324-403 هـ)، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1986.   

5- الزعيم فرحات حشاد : حياته ونضاله وفكره وكتاباته، منشورات زخارف عربية، تونس، جانفي 2005، جزءان (بالعربية والفرنسية).

6- الزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي وإشكالية فكره السياسي، منشورات وزارة الثقافة، تونس 2001، 679 صفحة.

7- الأزاهير في جحيم بيت بيريا، منشورات زخارف، 2005.

8- محمّد علي الحامي رائد الحركة النقابية الوطنية بتونس، منشورات زخارف عربية، تونس، 2006.

9- الهادي نويرة مسيرة مثقّف مناضل ورجل الدولة، منشورات زخارف عربية، تونس، جانفي 2006، جزءان (بالعربية والفرنسية) وأعيد طبعه ثانية مع مراجعة جوهرية للمضمون سنة 2016.

10 - في حوار الحضارات والأديان: الفقيه ابن فضلان ورحلته إلى حوض الفولغا، منشورات: زخارف، تونس 2009.

11 - كيف زرع الفكر التكفيري في ثمانينات القرن العشرين بتونس؟: شهادة للتاريخ، منشورات زخارف، 2014.

هذا وقد حضر موكب جنازة الفقيد يوم الثلاثاء 24 ماي 2022 بالمقبرة القبلية بمدينة سوسة (طريق المنستير) جموع غفيرة من أصدقاءه وتلاميذه وزملائه والمسؤولين في الحقل الثقافي والسياسي بمدينة سوسة ومدن وقرى الساحل وتولى تأبينه مندوب الثقافة بولاية سوسة، الأستاذ الشاذلي العزابو.
رحم الفقيد رحمة واسعة وأسكنه فراديس جنانه ورزق زوجته الفضلة السيدة نجاة وأبنائه الثلاث: إقبال وضياء ولسعد وأبنائهم وبناتهم وكامل أفراد العائلة جميل الصبر والسلوان وإنما المرء حديث من بعده.

أ.د عادل بن يوسف
(جامعة سوسة)

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
محمد المنجي كاهية - 28-05-2022 11:14

شكراً لكم على كل ما ذكرتموه وجزاكم الله كل خير ورحم الله فقيدنا واسكنه الفردوس الاعلى

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.