و ترجّل فارس آخر: رحيل موسوعة الثقافة بتونس، الأستاذ المنصف شرف الدين
بقلم أ.د. عادل بن يوسف (جامعة سوسة) - الله أكبر، غيّب الموت صباح اليوم وجها من وجوه الثقافة في تونس، المربّي والصّحفي والمسؤول المسرحي والمؤرّخ للمسرح والرياضة والسينما التونسية والمنتج الاذاعي والتلفزي، الأستاذ المنصف شرف الدين.
تعرّفت على الفقيد منذ مرحلة الدراسة الثانوية حيث كان يتردد على مسقط رأسه مدينة سوسة قادما من تونس العاصمة للقيام بأنشطة ثقافية وإلقاء محاضرات حول السينما والمسرح بمناسبة مهرجانات المدينة وزيارة أصدقاءه وأبناء جيله وفي مقدمتهم صديقه وزميلي وصديقي، أستاذ التاريخ والجغرافيا سابقا، الأستاذ الهذيلي الشوّاش وأفراد العائلة، لا سيّما شقيقته المقيمة بحيّ بوحسينة ... فتطودّت بي علاقته.
وفي شهر فيفري 2014 نزل ضيفا على برنامجي الإذاعي "شهادات حية" بإذاعة المنستير وتحولت رفقة الفريق العامل معي إلى بيته بحيّ الخضراء حيث استقبلنا رفقة زوجته كأحسن ما يكون وسجلنا له 03 حلقات (ساعة لكل حلقة) حول مسيرته المهنية وعلاقاته بالمسرح والسينما وحول إصداراته وواقع القطاع الثقافي في تونس ما بعد 2011 وسبل إصلاحه. وقد تمّ بثّ هذه الحلقات أيام الأحد 09، 16و 23 أكتوبر 2014.
وفي شهر مارس الفارط تحوّلت إلى بيت الأستاذ الهذيلي الشوّاش للاطمئنان على صحته فسألته عن سي المنصف فأفادني أنه مريض وأنّ صهره اتصل به منذ أيام ليبلغه رغبة سي المنصف في التبرّع بمكتبته الخاصة (أكثر من 5.000 عنوانا دون احتساب الصّحف والمجلات والصور... ومقتطعات الصّحف "Les coupures de presse" التي تعدّ بالآلاف) لفائدة المكتبة الجهوية بمدينة سوسة.
في شهر أفريل 2014 طلب مني جاري، الأستاذ محمّد عامر حكيمة (رئيس جمعية صيانة مدينة بنبلة ومدير مهرجان الشيخ سالم بوحاجب سابقا) الاتصال بسي المنصف شرف الدين لدعوته إلى إلقاء محاضرة حول رجل المسرح، أصيل بنبلة، الأستاذ محمّد الحبيب (1903-1986)... اتصلنا به معا من مقهى الحيّ فقبل بكل رحابة صدر وقدم إلى سوسة وتوجهت قبل المحاضرة بساعة (صباح يوم الأحد 20 أفريل 2014) مع جاري إلى حيّ بوحسينة حيث جلسنا معا بمقهى قبالة بيت شقيقته و تجاذبنا ذكريات جميلة من الزمن الجميل حول المسرح والسينما وبورقيبة وسي الشاذلي القليبي... ثم استقل سيارة الأستاذ محمّد عامر حكيمة نحو بنبلة حيث ألقى محاضرته التي نالت إعجاب جميع الحاضرين بأسلوب سي المنصف المشوق والروائي المعهود ودقة معلوماته والمؤيدات بالنصّ والصورة... ثمّ أوصله إلى غاية محطة القطار بسوسة وأجلسه في عربة بالدرجة الأولى للعودة إلى بيته بالعاصمة.
بقيت على اتصال بسي المنصف أهاتفه بانتظام تقريبا بمناسبة الأعياد والسنة الإدارية الجديدة وذلك إلى غاية مرضه منذ سنتين تقريبا.
وتعميما للفائدة واعترافا بالجميل وعرفانا لما قدمه للثقافة التونسية من جليل الخدمات، رأيت من الضروري التعريف بمسيرة الفقيد الأستاذ المنصف شرف الدين للأجيال الحالية.
النشأة والتكوين
ولد الأستاذ المنصف شرف الدين بمدينة سوسة يوم 06 جوان 1928 وسط أسرة محدودة الدخل. كان والده تاجر تبغ وصحف، وطني (ينتمي للحزب الدستوري القديم) له دكان قبالة الباب القبلي بمدينة سوسة. وخلال العطل الصيفية كان يساعد والده فيلتهم كل الصحف والمجلات التي كانت تعرض بدكان والده.
الدراسة الابتدائية والثانوية بسوسة وتونس
زاول دراسته الابتدائية لمدة سنة بالمدرسة القرآنية التريكية ثمّ التحق بالمدرسة الفرنسية- العربية بسوسة التي كان يديرها الفرنسي "بورداس "Bordas" المولع بالموسيقى وباعث لفرقة في صفوف التلاميذ للعزف على الطبل وآلة الكلارينات، كانت تعزف صباحا ومساء عند دخول التلاميذ وخروجهم من المدرسة. وكان من أهمّ العازفين بها أحمد الغربي و المنصف المليّح... كما تتلمذ على أبرز معلّمي اللغة الفرنسية بالمؤسّسة مثل يونس بوراوي و محمّد شوشان... فولع باللغة والآداب الفرنسية.
إثر الحصول على شهادة ختم التعليم الابتدائي، اجتاز بنجاح مناظرة الدخول إلى المدرسة الصادقية (التاسع في الترتيب على صعيد المملكة بعد صديقه ورفيق دربه لاحقا، الأستاذ الطاهر شريعة). لكنه بسب البعد عن العائلة فقد آثر العودة إلى سوسة للدراسة بمعهد الذكور بجانب أسرته حيث تتلمذ على خيرة الأساتذة بالمملكة التونسية حينها، نذكر من بينهم: "لوي فوشي "Louis Fouchet" و "بواسّنو "Poissenot" ... من الفرنسيّين و الأستاذ الصادق مازيغ... من التونسيّين.
ناشط كشفيّ و رياضيّ منذ الطفولة
انخرط الفقيد منذ الطفولة في جمعيّة "الكشّاف الإسلامي" الذي كان يديره القائد يوسف العبيدي وذلك مع رفيق الدراسة وصديقه، حامد القروي وثلة من أبناء جيله بمقرّها بنهج العروسي زرّوق بالمدينة العتيقة بسوسة. ونشط بفوج الجوّالة الذي سيكلّف به لاحقا. كما نشط بالشبيبة المدرسية داخل معهد الذكور بسوسة وكان له لقاء مع الزعيم الحبيب بورقيبة بقصر الرباط بسوسة، نظمته الجامعة الدستورية بالساحل إثر عودة بورقيبة من القاهرة سنة 1949 وذلك في طريقه إلى مدينة المنستير، حيث ألقى خطابا حماسيا أمام دستوريّي الجهة.
كما انضمّ إلى فريق النجم الرياضي الساحلي ولعب صلبه في صنفي الأداني والأواسط. ورغم مغادرته للفريق بسبب الدراسة، فقد أصبح محبّا وفيا لفريق جوهرة الساحل يشاهد جميع مباريات بسوسة ويرافقه في جلّ تنقلاته خارجها. ولهذا السبب كلّفه رئيس النادي الدكتور وصديق الدراسة، الدكتور حامد القروي سنة 1974 بإعداد كتيّب يؤرّخ للفريق بمناسبة خمسينيته، صدر بتونس باللغة الفرنسية سنة 1975.
مسرحيّ وسينمائي إلى حدّ النخاع
إلى جانب الرياضة، انضمّ التلميذ المنصف شرف الدين إلى فرقة المسرح المدرسي بمعهد سوسة التي بعثها أستاذ الفرنسية، المسرحيّ "بواسّنو "Poissenot" بعد اختبار أجراه على البعض من تلاميذه. وقد أخرج هذا الأستاذ بعض المسرحيات لكل من "موليار" وفي مقدمتها "مدرسة النساء "L’Ecole des femmes" و "ألفراد دي موسّي" Alfred De Musset"...، قدّمها مع تلاميذه في عروض مسرحية بكل من سوسة وتونس وقابس... الخ. كما نشط بفرقة الموسيقى النحاسية "الساحلية" التي كانت لها فرقة مسرحية وقدم عروضا بها في مقرّها بنهج فرنسا بمدينة سوسة.
وفور عودته من باريس وبالتوازي مع التدريس، أسّس وأدار الأستاذ المنصف شرف الدين بداية من سنة 1959 "جمعية المسرح الحديث بسوسة" التي قامت باقتباس وتمثيل وإخراج عديد المسرحيات التي عُرضت بالمدينة وبعض مدن و قرى الساحل وبتونس العاصمة. فكان أوّل من أدخل الفتاة في المسرح بالجهة نذكر منهنّ زوجته وشقيقتها (من عائلة هلال) بعد أن كانت جميع الفرق المسرحية بالمدن الداخلية تجلب وجوها نسائية من العاصمة وفي مقدمتها الممثلة الزهرة فايزة للقيام بأدوار النساء فيها. كما أدخل المثقفين من الطلبة ورجال التعليم والموظفين... على غرار محمّد الزرقاطي الموظف ببلدية سوسة، حامد المستيري و التيجاني قريبع... الخ.
وفي سنة 1962 وبمناسبة تركيز فرع اللجنة القومية للثقافة بجهتي الوسط والساحل بمدينة سوسة التي أسندت إلى الحاج عبد الحفيظ بوراوي، دُعيت الفرقة لتقديم مسرحية "حنبعل" أمام وزير الثقافة، الأستاذ الشاذلي القليبي فأعجب بها أيّما إعجاب وصرّح في الصحافة عند عودته إلى تونس العاصمة: "... هذه الفرقة متميّزة وتضمّ عناصر موهوبة من الشبان والشابات المثقفين...". كما جعلته هذا العرض المسرحي يفكّر بعد مدة قصيرة في دعوة الأستاذ المنصف شرف الدين إلى مكتبه وتكليفه بإدارة مصلحة المسرح بالوزارة بعد خروج الأستاذ حسن الزمرلي إلى التقاعد.
وإلى جانب المسرح انضمّ الشاب المنصف شرف الدين منذ فترة الدراسة بمعهد الذكور بسوسة إلى "نادي السينما بسوسة" Ciné Club de Sousse" بالمدينة، الذي كان يديره ثلة من أساتذة المعهد الفرنسيّين على غرار أستاذ الفرنسية "لحمي"، (يهودي تونسيّ يحمل الجنسية الفرنسيّة). و كان هذا النادي يعرض كل أسبوع أشرطة سياسية وثقافية جلّها معادٍ للاستعمار، استقطبت أغلب تلامذة المعهد وشبّان المدينة فغرست فيهم حبّ الفنّ السّابع وفنّ النقد السينمائي. وقد أقلق هذا النشاط مصالح الشرطة الفرنسيّة بمدينة سوسة التي حرّرت في شأنهم عديد التقارير الأمنيّة ونشط به مساء كل جمعة مع ثلة من تلاميذ المعهد، نذكر من بينهم الهذيلي الشواش والمنصف بن عامر... الخ. وبعودته إلى سوسة مطلع الاستقلال انضمّ ثانية إلى نادي السينما ثم ترأسه إلى غاية سنة 1964.
الدراسة العليا بفرنسا
نظرا لضعفه في المواد العلمية وخاصة الرياضيات، لم يوفّق الشاب المنصف شرف الدين في الحصول على شهادة البكالوريا للشعبة العصريّة. و لأسباب مادية تقدم بطلب للالتحاق بالتعليم الابتدائي فتمّ تعيينه كمعلّم بقرية المحبوبين (بجزيرة جربة) التي قضى بها سنتين (بين 1950 و 1952). وأثناء أداءه لمهنته كانت له فرصة استقبال الزعيم الحبيب بورقيبة رفقة المناضلَيْنِ عبد المجيد شاكر وعزّوز الرباعي في رحلة لهم بالجنوب التونسي.
وقد كلفه رئيس الشعبة بالمكان بكتابة لافتات على القماش ترحيبا بزعماء الحزب وكان له حوار مطوّل مع ضيوف القرية.
غير أنّ عزم المعلّم الشاب على الحصول على البكالوريا ومواصلة تعليمه العالي، جعله يقرّر السفر إلى فرنسا. وبباريس حصل على شهادة البكالوريا ثمّ رسّم بشعبة العربية بكلية الآداب بجامعة السربون. وبالتوازي مع الدراسة تلقى دروسا في المسرح بمقرّ المسرح الوطني بباريس. كما كان يحضر كل العروض المسرحية التي كانت تقدمها فرقة المسرح الجامعي بمدرجات السر بون. وفي جوان 1959 أحرز على الإجازة في اللغة والآداب العربية من جامعة السربون.
المسيرة المهنية: بين التدريس والصحافة والثقافة
فور عودته إلى تونس من فرنسا عُيّن أستاذا بمعهد الذكور بسوسة لكن رغبة منه في الاقتراب من مركز الساحة الثقافية و استجابة لطلب الأستاذ الشاذلي القليبي سنة 1962، طلب نقلته إلى معهد بتونس العاصمة فتمّ تعيينه بالمدرسة الصادقية. حيث درّس طيلة 11 سنة إلى جانب أبرز وجوه التعليم بها كالأستاذ عبد الوهاب بكير و محمّد اليعلاوي... كما تخرّجت على يديه العديد من وجوه الفكر والثقافة بتونس على غرار رجاء فرحات و رؤوف بن عمر و الفضل الجزير و الفاضل الجعايبي و امحمِّد إدريس... الخ.
ومن أكتوبر 1964 إلى نهاية سنة 1967 ترأس مصلحة المسرح بوزارة الثقافة التونسية خلفا للمسرحيّ الأستاذ حسن الزمرلي، ليعود إليها من جديد سنة 1979. كما ترأس لجنة القراءات بالوزارة. كما عُيٍّن رئيسا مساعدا للجنة الثقافية القومية مع الدكتور محمد الطالبي. وفي سنة 1985عيّنه الأستاذ البشير بن سلامة متفقدا بوزارة الشؤون الثقافية.
كتب الأستاذ المنصف شرف الدين مئات المقالات الصحفية في المسرح والسينما والتاريخ والفنّ... كما أنتج عديد البرامج الإذاعية والتلفزية، نذكر من أهمها: "نجوم المسرح" لفائدة الإذاعة الوطنية و "أعلام بارزة" لفائدة إذاعة تونس الدولية و "عالم السينما" و "نادي السينما" لفائدة التلفزة التونسية و "حكايات زمان" لفائدة قناة حنبعل.
وفي نوفمبر 1975 أسّس مجلّة "فوروم" (Forum) الثقافيّة والرياضية باللغتين العربية والفرنسية.
كما صدر للأستاذ المنصف شرف الدين 11 كتابا باللغتين العربية والفرنسية، من أهمها:
1- تاريخ المسرح التونسي منذ نشأته إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، تونس، 1972، 163 صفحة.
2- خليفة السطنبولي: حياته وأعماله، تونس 2008، 234 صفحة.
3- قرنان من المسرح التونسي، منشورات الدار العربية للكتاب، وزارة الثقافة، تونس.
4- L’Etoile Sportive du Sahel 1925-1978, Tunis 1975.
5- Deux siècles du théâtre en Tunisie, Editions Ibn Charaf, 2003, 321 pages.
وكان آخرها كتابه:
6- بورقيبة وإخوته والمسرح ومواضيع أخرى، تونس 2016. وفي هذا السياق اتصل بي الفقيد ذات يوم من خريف 2016 ليعلمني بصدور هذا الكتاب وطلب مني عنواني وأرسل لي نسخة منه عبر البريد. و بالتنسيق مع الزميل المرحوم توفيق الخذيري تولى الفقيد تقديمه في برنامجه الأسبوعي المباشر "في الموعد" عشية سبت خلال شهر أكتوبر 2016.
هذا وقد نعت وزارة الثقافة يوم أمس 15 أفريل 2022 الفقيد. كما نعته الهيأة المديرة لفريق النجم الرياضي الساحلي اللاعب السابق ومحبّ ومؤرّخ الفريق، الأستاذ المنصف شرف الدين في بيان لها نشر على الصفحة الرسمية للفريق يوم أمس 15 أفريل 2022.
هذا وسينتظم موكب دفن الفقيد اليوم الأحد 16 أفريل 2022 إثر صلاة الظهر بمقبر ة الزلاّج بالعاصمة.
رحم الله سي المنصف ورزق أهله وذويه وجميع أصدقاءه والأسرة الثقافية عامة جميل الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.
أ.د. عادل بن يوسف
جامعة سوسة
- اكتب تعليق
- تعليق