تونس زهرة الشرق...
تعريب علي الجليطي - اطلعنا في العدد الماضي على الحلقة الأولى من محاضرة الطبيب السويسري الدكتور بول لوي لادام (Paul Luis Ladame) الذي زار تونس ربيع سنة 1896 في إطار مشاركته في مؤتمر قرطاج الذي عقدته الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة. وبعد عودته إلى سويسرا قدم الطبيب خلاصة حول مسار رحلته أمام أعضاء جمعية الجغرافيا بجنيف في جلستها المنعقدة يوم 9 افريل 1897 تحت عنــوان: تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة(1).
واليوم نواصل الاطلاع على أحوال تونس في عهد ولى وانقضى بعيون أجنبية لا تفوتها شاردة ولا واردة مثل هذا الطبيب الرحالة، مع لفت انتباه القارئ الكريم إلى ما تضمنته هذه المحاضرة من مواقف وعبارات قد تبدو في بعض الأحيان سلبية وربما حتى عنصرية، ولكن وضع النص في موقعه وفي سياق وإطاره التاريخي، قد يخفف من تلك النظرة المعادية والمتعالية. وعلاوة على بعض الملاحظات التي أضفتها أسفل الصفحات لمزيد التوضيح والبيان، فاني أعوّل على ذكاء القارئ وفكره الثاقب لترك الشوائب وفرز الغث من السمين والخروج من المحاضرة بما يفيد منها.
تونس "زهرة الشرق"، كما يسميها العرب، يتراوح عدد سكانها بين 140 ألف و150 ألف نسمة، منهم 70 ألف إلى 80 ألف مسلما. وهي مقسّمة بطبيعة الحال إلى مدينتين مختلفتين بشكل واضح: المدينة العربية المحاطة بأسوار ذات شرفات، والمدينة الأوروبية توجد خارج الأسوار. تتكون المدينة العربية من ثلاثة أرباض: في الوسط، هناك المدينة العتيقة مع ضاحية شاسعة من كل جانب، ونجد في الشمال باب سويقة، وباب الجزيرة في الجنوب. ويشكّل الحي الفرنسي من الشرق، أو حي البحرية وهو الجزء الرابع من تونس العاصمة، حيث يعيش الأوروبيون بشكل شبه حصري. ومع ذلك، فقد بدأت هذه المنطقة عرضة للغزو من قبل اليهود الأثرياء في حين أن مواطنيهم المعوزين البالغ عددهم حوالي 40 ألف فقد تكدّسوا في الجزء الشمالي الشرقي من ضاحية باب سويقة.
تعود هجرة اليهود إلى تونس إلى أبعد العصور القديمة. فحتى قبل تأسيس قرطاج، سنة 950 قبل الميلاد(2)، شارك اليهود من قبيلة "زبولون" بالفعل في رحلات الفينيقيين من مدينة صور. كما جاؤوا مع الغزوات العربية، لكن هجرتهم كانت خاصة عند تدمير القدس من قبل تيتوس سنة 70 بعد الميلاد(3)، حيث تم نقل يهود فلسطين بشكل جماعي إلى المقاطعة الرومانية. وحدثت عدة هجرات يهودية كبيرة في تونس في القرنين الرابع عشر والثامن عشر، عندما طرِد اليهود والموريسكيون من إسبانيا. وأخيرًا، قدموا من ليفورن(4) ومن فرنسا، كما جاؤوا خاصة من القسطنطينية وآسيا الصغرى. تونس هي بالتأكيد مدينة البحر الأبيض المتوسط التي تضم أكبر عدد من اليهود. إنهم يشكلون طبقتين متميزتين. تتكون الطبقة العليا الأرستقراطية من الجالية القادمة من ليفورن وإسبانيا. وتتكون الطبقة الفقيرة وهي الأكثر عددا من الجالية الإسرائيلية الأصلية، والذين يختلفون حتى في اللباس عن جماعة ليفورن.
وخلال مدة طويلة، فرضت قوانين التقشف الشديدة التي سنّها البايات زيًا خاصًا باليهود. فقد تم تحريم أي غطاء للرأس دون الشال الأسود. وحصل السكان القادمون من ليفورن على حظوة تمثلت في ارتداء قبعة قطنية بيضاء، فيما كانت الملابس الأوروبية ممنوعة عليهم. وكذلك كان محظورا على اليهود العيش في مكان آخر غير الغيتو(5). وعلى الفور يمكن التعرف على النساء اليهوديات، فهنّ غير محجبات بالرغم من أنهن قد التحفن جزئياً بزي المرأة البرجوازية المسلمة على غرار بلوزات قصيرة بألوان زاهية، وسراويل ضيقة إلى حد ما. وتختصّ الأغطية الطويلة لرؤوسهن بأقماع مُدبّبة ومُذهّبة بما يعطي مظهرًا غريبًا لعجائز اليهود البدينات.
فالسمنة في تونس هي الشرط الأول لجمال المرأة سواء بالنسبة للمسلمين أو اليهود، وإذا صدّقنا الرواة، فهم يباشرون تسمين الفتيات المُقبلات على الزواج تقريبا كما هو معمول به في ستراسبورغ بالنسبة للإوز. وقبل الاحتلال الفرنسي، كان اليهود دون سواهم محافظين على دينهم في تونس. فيما أجبر جميع السكان الآخرين على اعتناق الإسلام(6). لذلك فإن مسلمي تونس ينتمون إلى شعوب متنوعة للغاية. سنعود لاحقًا إلى أصل السلالات الموجودة في تونس وتنوعها. دعنا حاليا نواصل مسيرتنا عبر المدينة.
انطلاقا من الميناء، يصل المرء إلى المدينة الأوروبية عبر شوارع واسعة، هي شارع البحرية ثم شارع فرنسا وتفصل بينها ساحة قصر الإقامة. هذا القصر محاط بحديقة بديعة من النباتات ذات الطابع الأجنبي التي تغلب عليها أشجار النخيل الرائعة. وفي المقابل، نجد الكاتدرائية الجديدة بصدد الإنشاء لتعويض الكنيسة المؤقتة الصغيرة ذات الصحن الواحد التي أقامها الكاردينال لافيجيري. في الحي الفرنسي، تتقاطع معظم الشوارع بزوايا قائمة وتحمل أسماء الأمم أو المدن الأوروبية. ومع ذلك، يوجد أيضًا شارع قرطاج ونهجان جانبيان صغيران يذكّران بالجنرالات القرطاجيين العظماء، وهما نهج اميلكار ونهج حنبعل. وعلينا الذهاب إلى حلق الوادي حتى نجد المجلس البلدي الذي أطلق على نهجين أسماء أبطال مثل إينيس وديدون(7) . وفي مدينة تونس الأوروبية نجد محطتين للقطارهما المحطة الإيطالية لخطوط باردو والمرسى وحلق الوادي التي تديرها شركة روباتينو منذ عام 1880 ، ومحطة بون (Bône) الفرنسية(8) التي تؤدي إليها أيضا شبكة ثالثة من السكك الحديدية للأيالة، وهي خطوط حديثة أو لم تكتمل بعد متجهة نحو بنزرت وسوسة وزغوان والقيروان. في المنطقة الأوروبية توجد مؤسسات للتعليم الثانوي، ومدرسة للفتيات في شارع روسيا، ومدرسة ثانوية في شارع باريس، والتي حصلت على اسم معهد كارنو في جوان 1894. وفي هذا المعهد انعقدت جلسات مختلف أقسام الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم خلال دورة مؤتمر قرطاج في أفريل 1896.
يتم التعليم العالي في المساجد، وبالأحرى يتركز اليوم في جامع الزيتونة وهي بالنسبة للبلدان البربرية(9) المدرسة الكبرى للفقه الإسلامي وعلوم الدين. وتعتبر هذه المؤسسة إلى حد ما بمثابة جامعة العصور الوسطى (في الغرب) حيث استوعبت كلية اللاهوت كل شيء وفرضت نفسها على كل شيء بمناقشاتها الدقيقة والمعقدة حول النصوص والكلمات. ولكن لا يمكن للمرء أن يجد هناك أثرا لذاك الطب العربي الذي أشرق بنوره الساطع (على أوروبا) من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر، مع الرازي وابن سينا و الزهراوي وابن زهر(10)، والذي كان حلقة الوصل الحقيقي، خلال العصور الوسطى، بين الطب اليوناني والعلم الحديث، بين أبقراط وفيصال(11). وفي النهاية ينبغي أن أشير إلى المدينة الأوروبية، وعمارة البريد والسوق المغطى. ويعتبر بدون شك مكتب البريد في تونس، الذي اكتمل بناؤه عام 1892، أبرز معْلمٍ أنشئ زمن الحماية الفرنسية. وبجانبه هناك مصنع للنور الكهربائي تم إلحاقه سنة 1893 ويوفر أيضًا الإضاءة للإقامة العامة. ويستحق تاريخ تنظيم مصلحة البريد والبرق في تونس وصفاً مفصلاً. فتاريخ هذه الخدمة يعود إلى سنة 1847، لكنها لم ترتق إلى عمل منتظم إلا حينما دخل الديوان التونسي حيز التشغيل يوم 1 جويلية 1888. وقد شهد تاريخها مغامرات مثيرة للغاية بسبب عداء السكان لها. ولسوء الحظ، لا يمكنني هنا مزيد التفصيل. فاليوم، بات ديوان البريد ينمو بسرعة عامًا بعد عام.
أما السوق الكبير المغطى أو "فندق الغلة"، سوق الفواكه والخضروات والأسماك ، فهو مبنى شاسع يفتح على شارع ايطاليا، مقابل مكتب البريد تقريبًا.
تعريب علي الجليطي
(1) نشرة عدد 1 مقتطف من محاضر جلسات الجمعية/ دورة 1896-1897/جلسة 9 أفريل 1897 برئاسة السيد إذ. دوفرين Dr Ed. DUFRESNE المرجع: المكتبة الوطنية الفرنسية/ مجلة الكرة الأرضية (LE GLOBE) صحيفة جغرافية- لسان حال جمعية الجغرافيا بجنيف/المجلد السادس والثلاثون الحلقة الخامسة.
(2) حسب المراجع الحديثة، يعود تأسيس قرطاج إلى سنة 814 ق. م.
(3) الإمبراطور تيتوس هو الإمبراطورالرماني العاشر، وهو ثاني إمبراطور من السلالة الفلافيانيه التي حكمت الإمبراطورية الرومانية وقد تم هدم غرور اليهود على يد تيتوس، لذلك تعد هذه الحادثة من أهم الأحداث من المنظور اليهودي.
(4) مدينة القرنة الايطالية.
(5) المقصود بها "الحارة".
(6) النص الأصلي يستخدم عبارة « l’islamisme » أي ما نسميه اليوم "الإسلام السياسي".
(7) عليسة أو ديدون هي ابنة ملك صور وأخت بيغماليون وزوجها اينيس. وهناك رواية مشكوك فيها تقول أنها كانت زوجة خالها الذي كان الكاهن الصوري الأعظم المسمى عاشر باص أو ما عرف بـزيكار بعل.
(8) محطة برشلونة اليوم.
(9) الراوي يستعمل كلمة " barbaresques" وتعني الشعوب القاطنة شمال إفريقيا.
(10) الطبيب الفارسي أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 925 م، و أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا المولود ببخارى والمتوقي سنة 1037 م، والطبيب الجرّاح أبو القاسم بن خلف بن العباس الزهراوي المتوفي بقرطبة سنة 1013 وأبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المتوفى سنة 1162..
(11) أندري فيصال André Vésale" أستاذ العلوم الطبية المولود ببروكسل سنة 1514 وطبيب الإمبراطور شارلكان.
قراءة المزيد
رحلة الدكتور السويسري "بول لوي لادام" إلى تونس ومداخلته سنة 1897 أمام جمعية الجغرافيا بجنيف
- اكتب تعليق
- تعليق