الأستاذ عبد السلام القلال: عبد المجيد شاكر مناضل كبير ومتواضع
كلمة الأستاذ عبد السلام القلال بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته في 4 ديسمبر2021 بالفضاء الثقافي برج القلال بصفاقس.
حضرت السيدات والسادة والحضور الكريم.
يقول الروائي الروسي الكبير " دوستويفسكي تيودور" " لن يذكرك الناس كثيرا بعد الموت ... ما هي إلا أيّام قلائل ثم تكون في عداد المنسيين فكأنك لم تولد ولم توجد"
لست ممن يشاطر هذا الرأي، الأقليّة المبدعة بالفكر والساعد في المجتمعات تنسحب ولا تموت وتبقى على الدوام ذاكرة الشعوب وهويتهم ومخزونهم الحضاري.
ليس من حق المجتمعات أن تنساهم بل عليهم المحافظة على ذكراهم لاستلهام العبرة من أعمالهم وتضحياتهم وإنارة السبيل للأجيال القادمة حتى ينسجوا على منوالهم، وترسخ فيهم شعلة النضال والعطاء والتضحية ويتعمق فيهم شعور المواطنة والانتماء.
هذا البرج كفضاء ثقافي جعل من أولويّة نشاطاته إحياء الذاكرة الجهويّة والوطنيّة للعديد من المبدعين والمصلحين الذين خدموا جهتهم ووطنهم لنذكّر بهم وبأعمالهم ونخرجهم من آفة النسيان.
لقاءنا اليوم في هذا الفضاء الثقافي" برج القلال" هو من أجل إحياء ذكرى وفاة أخ عزيز علينا من أبناء صفاقس البررة عبد المجيد شاكر والذي مرّ على وفاته أربعون يوما، حيث وافاه الأجل المحتوم يوم 26 أكتوبر 2021 بقرطاج.
1- أصوله
عبد المجيد شاكر ينتمي لعائلة عريقة في النضال، عائلة الزعيم الهادر شاكر، الذي تولى قيادة الحزب الحر الدستوري بصفاقس والجنوب التونسي منذ انبعاثه بمؤتمـر قصر هلال سنــة 1934.
كان المسؤول الأول على الحركة الوطنية بجهة صفاقس والجنوب التونسي، وعند اندلاع معركة التحرير من المستعمر ترأس المؤتمر السرّي، الذي قرّر الدخول في الكفاح المسلّح، والمنعقد في تونس بمقر الجامعة الدستوريّة في 18 جانفي 1952، وتم إيقافه ووضعه تحت الإقامة الجبريّة مع عائلته بمدينة نابل، وهناك طالته يد الغدر من طرف عصابة اليد الحمراء الاستعماريّة اختطفته من أحضان عائلته واغتالته على قارعة الطريق في 13 سبتمبر 1953.
وكان ثاني شهيد من جهة صفاقس بعد اغتيال فقيد الوطن فرحات حشّاد يوم 5 ديسمبر 1952 بنفس الطريقة البشعة. وهكذا دفعت جهة صفاقس الثمن غاليا من أجل تحقيق الاستقلال، لكن كل شيء يهون في سبيل الوطن، وهو شرف لجهة صفاقس، كان المرحوم عبد المجيد شاكر من هذا المعدن الذي امتاز به المناضلون الصادقون الذين بفضل تضحياتهم تحقق الاستقلال وأرجعت السيادة للشعب.
كان عبد المجيد شاكر مناضلا كبيرا دخل السجن في المعركة الحاسمة من أجل الاستقلال وقاد الحركة التلمذيّة في سنة 1952، وترأس الاتحاد العام لطلبة تونس سنة 1956، وأصبح في نفس السنة أصغر عضو للديوان السياسي في الحزب ومديرا له مدة سنوات ونائبا بمجلس الأمة عن جهة صفاقس ورئيس بلديّة صفاقس 1960 والرئيس الشرفي للنادي الرياضي الصفاقسي وتحمّل مسؤوليّة كتابة الدولة للفلاحة وكتابة الدولة للإعلام، ثم دخل السلك الديبلوماسي كسفير في الجزائر، ويوغسلافيا، وأسبانيا وسويسرا، والسويد.
2- رئيس اتحاد الطلبة
التحق عبد المجيد شاكر بالحزب الحر الدستوري منذ الصغر من المدرسة الابتدائيّة إلى المعهد الثانوي بصفاقس وكذلك بالمنظمة الكشفيّة وأصبح قائدا للتجوال فيها، شارك في إعداد جريدة الكفاح السريّة صحبة رفيقه حامد زغل إلى أن انتقل إلى المعهد الصادقي بخزندار كقيّم لمواصلة تعليمه العالي في تونس ومواصلة الكفاح في صفوف التلاميذ، تعرفت عليه وقتها، وكنّا نحن كتلامذة مسيسين بالمعهد الصادقي باتصال به وكان يشجعنا على التحرك والتظاهر.
وقد زار الزعيم الحبيب بورقيبة في منفاه بطبرقة في شهر فيفري سنـــــــــــة 1952 بعد انطلاق شرارة الكفاح المسلّح لتلقي تعليماته صحبة الأخوين الشريف الماطري وعبد الستّار العجمي رحمه الله، فكانت دعوة الزعيم صريحة: على التلاميذ في مختلف المعاهد الثانويّة النزول إلى الشارع للتظاهر وإحداث الشغب ليكونوا في مقدّمة الشعب الذي انطلق في المقاومة المسلحة وأكد لهم أنه على الجميع المساهمة في هذه المعركة التي ستكون الحاسمة وستفضي حتما إلى الاستقلال، على عكس مواقف بعض المسؤولين في الديوان السياسي الذين كانوا يرون أنه على التلاميذ مواصلة دراستهم ولا شأن لهم بالسياسة والمقاومة.
استجبنا جميعا إلى هذا النداء ونزل جموع التلاميذ إلى الشوارع وشاركنا في المظاهرات وأغلقنا المعاهد وعلّقنا الدراسة سواء في جامع الزيتونة أو في المعاهد الثانويّة بتونس وصفاقس وسوسة والقيروان، منهم من أطرد من معهده ومنهم من استشهد أو دخل السجون. عبد المجيد شاكر كان في خضمّ هذه المعركة وكان من قادتها، ترأس مؤتمر المناضلين من التلامذة بجامع صاحب الطابع في بداية سنة 1952 للتنسيق بين نشاطاتهم في مختلف المعاهد الثانويّة، وبقي رئيسا للجنة التنسيقيّة المنبثقة على هذا المؤتمر إلى أن تم إيقافه بعد مدّة في نفس السنة وحكم عليه بعشر سنوات سجنا ولما أفرج عنه سنة 1954 بمناسبة زيارة منداس فرونس إلى تونس، انتقل إلى فرنسا ليواصل دراسة الحقوق في جامعة أكس أون بروفانس Aix en Provence.
3- مدير الحزب
عملت معه كمساعد مندوب الحزب بصفاقس سنة 1960 إلى جانب عبد اللطيف شاكر ومحرز بالأمين وفيما بعد كمساعد له في المستوى الوطني سنة 1963 مع مساعدين آخرين منهم محمود المعموري، وحسيب بن عمار، والهادي البكوش، والمنجي الكعلي ومحمد الصياح وكل واحد من هؤلاء مهتم بقطاع معيّن، كانت علاقاتنا مع الأخ عبد المجيد على أحسن ما يكون فكان لنا بمثابة الأخ الأكبر يفوض ويتابع في نطاق ثقة متبادلة.
كانت مهمتنا متابعة أجهزة الدولة ومساعدتها على القيام بمسؤولياتها والسهر على تنفيذ مخططات التنمية في أحسن الظروف وتذليل الصعوبات التي تعترضها إلى جانب هذا، الاتصال المباشر بالشعب من أجل توعيته وتعبئته نحو التغيير والإصلاح، فكانت علاقتنا بالإدارة ومختلف كتابات الدولة علاقة تعاون على فض المشاكل التي تطرأ من حين لآخر في مستوى هياكل الدولة والحزب، فكانت لمدير الحزب المرونة ما يؤهّله إلى التغلّب على المشاكل بالحوار والاحترام المتبادل.
كان الأخ عبد المجيد كمدير للحزب ممن ساعد وتعاون مع قادة الثورة الجزائريّة وتولى الدفاع عن قيادتها لدى المحاكم الفرنسيّة وقاد معركة السدود إلى جانب سي الباهي لدغم وسي الطيب المهيري إثر حادثة ساقية سدي يوسف بالكاف سنة 1958 التي كانت سببا في إخراج الجيش الفرنسي من ثكناته بالوسط والجنوب، وساهم كذلك الأخ عبد المجيد في قيادة معركة بنزرت في جولية 1961.
عبد المجيد شاكر كان اشتراكيّا معتدلا وهو من منظري الاشتراكيّة التونسيّة، تقلد مسؤوليات وزارة الفلاحة سنة 1963 لتخطيط الإصلاح الزراعي و تصور الحلول المناسبة لاستغلال أراضي المعمرين التي شرعت الدولة في استرجاعها على طريق الشراء قبل تأميمها من طرف رئيس الدولة في 12 ماي 1964 و أعد الإطار القانوني للنظام التعاضدي الذي كان الحل الأنسب لاستغلال هذه الأراضي من طرف أبناء و أحفاد مالكيها الأوائل و التي و قع اغتصابها من النظام الاستعماري لفائدة المعمرين الأجانب.
كان عبد المجيد شاكر من مساندي أحمد بن صالح في مستوى الفكر والتوجه، لكن رغم هذا لم تكن علاقتهما السياسيّة على أحسن ما يرام، لأسباب يطول شرحها. كان عبد المجيد أقرب سياسيّا إلى شق الطيب المهيري وأحمد التليلي، لكن رغم فتور علاقاته مع بن صالح وقف معه وسانده مع الحبيب بورقيبة الابن في مجلس الجمهوريّة المنعقد في 2 سبتمبر 1969 حول ضرورة وقفة التأمّل لتعديل سير التجربة الاشتراكيّة.
4- رئيس بلديّة صفاقس
تولى عبد المجيد شاكر رئاسة مجلس بلديّة صفاقس إثر الانتخابات البلديّة لسنة 1960 وكنت ضمن الهيأة المنتخبة وأذكر أنه كان يحرص على انسجام أعضاء المجلس و التعاون بينهم وأخذ القرارات بعد التحاور والاقناع وكان متواضعا ويعطي أهميّة لمشاغل المواطنين وكان يستمع إليهم كلما يحل بمدينة صفاقس واهتمت هيئة البلدية برئاسته بإعداد مثال التهيئة الجديد وتوسيع الطرقات وتطوير المرافق الأساسيّة والحرص على نظافة المدينة وجماليّتها.
إن خصوم عبد المجيد شاكر حمّلوه مسؤولية انتصاب مشروع الصناعات الكيمياوية NPK وما انجر عنه من تلوث ,للمدينة و ضررا للمواطنين، فجاءت الفرصة بهذه المناسبة لأجيب على هذه الانتقادات بالقول أن انتصاب المشروع كان يعد مكسبا للجهة وكان محل تجاذب من طرف عدّة جهات كانوا يريدون انتصاب هذا المشروع بها، لكن استطاع الأخ عبد المجيد أن يظفر به إلى جهته خاصة أن المستثمر كان من شروطه أن ينتصب بصفاقس أين توجد مادة الفوسفاط ومشتقاتها وكل المرافق الأساسيّة.
وكان في ذلك الوقت لا حديث عن التلوّث لا في تونس ولا في بقيّة دول العالم ومفهوم التلوّث كان مجهولا لدى كل دول العالم، ولم يظهر إلا بعد سنوات في المصانع الكيمياويّة مثل SIAP والصناعات المغاربيّة في قابس و الصناعات المماثلة في بقية الدول، ظاهرة التلوّث التي أصبحت تغزوا كل المناطق وكل المجالات على الكرة الأرضيّة هي بمثابة الوباء الجديد الذي يحظى باهتمام العالم الذي أصبح مجندا للتصدي له بالتكنولوجيات الحديثة. هذا المشروع كان في ذلك الوقت كسبا كبيرا لجهة صفاقس ولقى استحسانا من المواطنين و كان الجميع على حسن نية.
أثرت هذا الموضوع قصد رفع المظلمة والمغالطة والتجني أمام التاريخ على من وهب حياته كاملة في خدمة جهته ووطنه بصدق وتفان رحمه الله رحمة واسعة.
كان من الهوايات المفضلة للأخ عبد المجيد شاكر لعبة كرة القدم أولى اهتماما خاصا بالنادي التونسي بصفاقس وطلب مني كمساعد مندوب الحزب أن أتولى رئاسته وبقي هو متابعا وفاعلا كرئيس شرفي يشارك بالرأي ويحضر المباريات سواء في تونس أو في صفاقس كنا ننزل معا يوم السبت والأحد لحضور المباريات قصد تشجيع اللاعبين وإشعارهم بأننا قربين منهم.
وأول عمل قمنا به هو تغيير اسم النادي من النادي التونسي إلى النادي الرياضي الصفاقسي وغيّرنا لون زييه وانتدبنا ممرنا يوغسلافيّا يدعى كريستيك وأدخلنا الطرق والأساليب الجديدة في تسيير النادي والعناية بلاعبيه حتى أصبح قدوة في رياضة كرة القدم و نجح العديد من لاعبيه في دراستهم و أصبحوا من أكفئ إطارات الدولة مثل "منصف القايد" و "محمد خروف" و "رؤوف النجار" و غيرهم، و من ألمعهم "حمادي العقربي" و مما لا يعرفه الكثيرون أن النادي الرياضي الصفاقسي كان أول من دعى إلى تطوير العلاقة بين جامعة كرة القدم و النوادي و كان وراء اهتمام رئيس الدولة برياضة كرة القدم و كذلك صدور الميثاق الرياضي سنة 1961
5- التقاعد
عبد المجيد شاكر هو المناضل الخلوق والمتواضع كان نزيها نظيف اليدين عرف بكفاءته وتفانيه في العمل وحسه الوطني وقدرته على الخطابة والاقناع وعلى تحمل إكراهات السياسة وعند بلوغ سن التقاعد فكر في الرجوع إلى مهنة المحاماة وشجعته شخصيا على ذلك والتحق بمكتبي مدة تسعة أشهر شعر أثنائها أنه غير قادر على الاندماج من جديد في الواقع المجتمعي المتغير فخير الانزواء وغاب عن الأنظار ومرد ذلك إلى طبعه وإلى رغبته في الكتابة فألف كتابين الأول يتعلّق بنضال الزعيم الهادي شاكر ودوره في قيادة الحزب والمقاومة، والكتاب الثاني خصصه لمعركة بنزرت حيث كان فاعلا وشاهدا لإلقاء الأضواء على سير المعركة وتفنيد الكثير من الترهات والمغالطات.
كرس الأخ عبد المجيد حياته كاملة في خدمة الوطن بكل تفان وتواضع والتحق بالرفيق الأعلى وهو حزين وغير مرتاح على مصير تونس والدولة الوطنيّة التي ساهم في بناءها وهذا الشعور الذي كان ينتابه هو شعور كل من بقي من جيل الاستقلال وبناة الدولة الوطنيّة، كيف لا ونحن نرى دولتنا المدنيّة الحداثيّة تتهاوى من سنة إلى أخرى وتشرف و مؤسساتها على الإفلاس والاندثار دون أن يكون لنا حولا ولا قوّة للتصدي لهذا الانهيار فكأننا بها و هي كذلك سياسة ممنهجة ممن تولوا الحكم بعد انتفاضة 2011 للقضاء على دولة الاستقلال، و على مشروعنا المجتمعي الحداثي.
انظروا يا أهل صفاقس ما فعلوا بكم في هذه العشريّة، أساؤوا إدارة الجهة، سدوا كل آفاق التنمية، أوقفوا الاستثمار وقضوا على قدراتها وطموحاتها، وأخيرا جعلوها تغرق في الفضلات والنفايات فأصبحت جهتنا ومدينتنا في أتعس حال، لكم الله يا أهل صفاقس، كان بورقيبة رحمه الله يقول لي" لما أجيء إلى صفاقس أشعر كأني خرجت من تونس إلى دولة أوروبيّة لنظافتها وجديّة أبناءها كلها ورشات عمل وإنتاج".
كانت صفاقس في السابق رغم كل العراقيل زهرة المدائن وقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة بامتياز، يجب أن تستعيد دورها الطلائعي ويعود لها بريقها لتكون أفضل مما هي عليه ولتخرج سريعا من هذا النفق المظلم، يجب أن لا نيأس وأن لا نستسلم، رغم أن المستقبل غير مطمئن وأملنا في أن يقف الشباب لتونس لإنقاذها من الوضع الكارثي الذي تردّت فيه.
الله أكبر رحم الله أخي وصديقي المناضل الكبير عبد المجيد شاكر الذي كان مثالا للتضحية ونكران الذات وأدى مهامه على أحسن وجه، تقبله الله برحمته الواسعة وأسكنه فراديس جنانه.
الأستاذ عبد السلام القلال
من جيل الاستقلال وبناة الدولة الوطنية
- اكتب تعليق
- تعليق