وهم لا تحتمل خفته... التونسي والوقاية من كوفيد-19
بقلم مالك كزدغلي - يطرح الكاتب شانكار فيدامتام في كتابه الجديد "أوهام عملية" (Useful Delusions, Shankar Vedantam), فكرة أن الانسان يتميز بقدرته الكبيرة على خداع نفسه. الا أن هذا الخداع، على عكس ما قد يتبادر لنا للوهلة الأولى، لا يعبر ضرورة عن خلل في تركيبته النفسية. بل قد يتحول الى نوع من الدفاع النفسي الذي يسمح للذهن بالتعامل مع الكمية الهائلة من المعطيات التي تحيط به.
فلنتخيل مثلا لو لم تكن لنا القدرة على التغاضي على الحجم الهائل من الأخبار السلبية التي تحيط بنا، لأصبح فعل بسيط مثل الاستيقاظ والقيام باجتماع على تطبيق زوم صباحا عبئا هائلا لا طاقة لنا به.
غير أن خداعنا لأنفسنا قد يتجاوز الدور الدفاعي ليكتسي في بعض الحالات صبغة عملية. اذ أن قدرتنا على تخيل وتصديق أوهام عملية هي التي جعلتنا نشيد مجتمعات ومؤسسات شديدة التركيب والتعقيد.
تبادرت في ذهني هذه الأفكار وأنا أتجول ليلا في شوارع العاصمة بعيد الإفطار. اذ لم أجد تفسيرا مقنعا للتغاضي الغريب، والمخيف أيضا، للعشرات من رواد المقاهي والمطاعم والمحلات، عن أبسط قواعد الحماية من كوفيد-19. لا أثر للتباعد أو الكمامات أو لأي مظهر يوحي بأنك في مجتمع يودع في اليوم العشرات من أبنائه ضحية للجائحة ويرزح المئات تحت خطر نفاذ الأكسجين عن مستشفياته.
قد يجنح البعض الى تفسيرات تبسيطية وعامة من قبيل غياب الوعي الجماعي وقصور الإجراءات الحكومية. الا أن هذه الرؤية لا تأخذ بعين الاعتبار التركيبات النفسية المعقدة للأفراد. لكن ماذا إذا نظرنا الى المسألة من زاوية التنافر الادراكي dissonance cognitive الذي يعيشه الفرد التونسي في هذه الظروف الصعبة؟
التنافر الادراكي هو مفهوم نفسي يعبر عن التناقض الذي يشعر به الفرد عندما لا يتطابق سلوكه مع ما يدركه من أفكار ومعتقدات. ويخلف هذا التناقض وضعية من الضغط النفسي الشديد الذي قد يدفع بالشخص اما للعدول عن سلوكياته واما للتخلي عن أفكاره ومعقداته، واما للإضافة إدراك جديد يوفق بين تناقضاته. وقد يتخذه هذا الادراك شكل وهم "عملي" يجعل من التعايش مع التنافر الادراكي ممكنا.
إذا طبقنا هذا المفهوم على ما يعيشه التونسي يوميا سنجد أنه يرزح تحت وطأة تنافر ادراكي رهيب بين المطلوب والممكن في مسألة التوقي من كوفيد-19. فهو من ناحية مطالب بتطبيق التباعد الاجتماعي ومن ناحية أخرى مجبر على ارتياد وسائل نقل لا تتوفر فيها أدنى أسباب الحماية. كما أنه يقع ضحية نظام صحي مهترئ لا ينفك المسؤولون يهددون بانهياره. اذ فاقمت أزمة الكوفيد وضعية المرافق العمومية وكشفت عجز الدولة على توفير أدنى مقتضيات الحماية.
كما أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، إضافة الى الصعوبات المالية التي تمر بها البلاد تجعل من المستحيل التوفيق بين إجراءات التوقي الصحية والحفاظ على الدورة الاقتصادية. وهو ما عكسه مؤخرا تخبط الحكومة في مسألة الحجر الصحي والتأثير الكبير للضغط الشعبي و الشعبوي على قرارات يفترض أن تكون مدروسة.
من ناحية أخرى، تمارس وسائل التواصل الاجتماعي دورا هاما في تغذية هذا التنافر الادراكي. اذ يجد التونسي نفسه ممزقا بين الأخبار المزيفة حول الاثار المزعومة للتلاقيح ونظريات المؤامرة وأخبار تقدم الدول المصنعة في حملات تلقيح شعوبها منبئة بعودة تدريجية للحياة العادية.
أما على الصعيد السياسي فيتعرض التونسي يوميا لرسائل متنافرة من حكومة عاجزة على الإيفاء بأبسط تعهداتها ورئاسة لا ترى في الجائحة سوى حقل دلالي يغذي صراعاتها السياسوية، وبرلمان يخلط بعض أعضاءه بين الحصانة البرلمانية وحصانة تلقيح غير مشروع.
في خضم هذه التناقضات يقف التونسي أمام تحد نفسي صعب. أما أن يواجه واقعه بسكينة وواقعية واما أن يلجأ الى تبني وهم "عملي". وهم غياب الكورونا والعودة الى حياة عادية. ورغم الكلفة البشرية والاقتصادية العالية للوهم الا أنه يمثل احدى الدفاعات النفسية التي يحتمي بها الفرد من واقع مرير لا يقدر على مواجهته فينكره بخفة لا تحتمل.
مالك كزدغلي
- اكتب تعليق
- تعليق