أخبار - 2021.05.03

رحيل الكاتب والمستشرق الفرنسي - التونسي الأب جون فونتان 1936-2021

وترجّل فارس آخر من فرسان القلم والفكر في تونس: رحيل الكاتب والمستشرق الفرنسي - التونسي الأب جون فونتان  1936-2021

بقلم: أ. د عادل بن يوسف - غادرنا ليلة غرّة ماي 2021 الباحث والمفكّر والوجه الثقافي البارز، المستشرق المقيم في تونس منذ سنة 1956 وصديق الجميع، الأب "جون فونتان" (Jean Fontaine) بعد صراع مع فيروس كورونا عن سنّ ناهز 85 سنة.

وإثر هذا المصاب الجلل، رأيت من الضروري أن أخطّ هذه الكلمات البسيطة تحيّة وفاء للصّديق الراحل الذي عرفته منذ أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات إبان مسيرتي البحثية في التاريخ الثقافي لتونس بوصفه مديرا لمكتبة الآباء البيض ومجلة "إيبلا" التابعيْن لمعهد الآداب العربية بتونس وبوصفه صديقا وأخا أكبر وأبا أستشيره في كل ما يتعلق بأطروحتي ثم ببحوثي وكتاباتي اللاحقة وذلك منذ لقائي به بمحض الصدفة ذات عشية خريف 1992 إثر خروجي من التدريس بمعهد الذكور بسوسة بإحدى مقاهي وسط المدينة رفقة زميله في الدراسة بالجامعة التونسية، الأستاذ والصديق والزميل المرحوم البشير المخينيي فتوطدت علاقتنا إلى سنوات قلية خلت رغم الانقطاع بسبب خروجه للتقاعد واستقراره بضاحية قرطاج... التقيت آخر مرة في خريف سنة 2009 بمناسبة اليوم الدراسي الذي نظّمه "مخبر تاريخ الاقتصاديات والمجتمعات المتوسّطية" (الذي يرأسه الأستاذ الصادق بوبكر وأنشط به منذ تأسيسه كوحدة بحث في خريف سنة 2001) بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، حول "الأدب التونسي ومسألة النوع الاجتماعي منذ الاستقلال إلى اليوم" حيث أبدع في رسم وتفكيك مسيرة الأدب التونسي شعرا ونثرا وقصة...) والتطرّق إلى ظاهرة "الجندرة" التي بدأت تحظى باهتمام الباحثين المدرسين والطلبة بالجامعة ومراكز البحث العلمي في تونس في مختلف الاختصاصات.

وقبل الخوض في مسيرة الرجل ونشاطه الأدبي والثقافي، جدير بنا التذكير معهد الآداب العربية بتونس المعروف اختصارا بمكتبة "إيبلا (IBLA) "بدلا عن "معهد الآداب العربية" (Institut des Belles Lettres Arabes de Tunis).

معهد الآداب العربية بتونس مؤسّسة بحثية رائدة

هو مؤسّسة بحثيّة أسّسها الآباء البيض بتونس في 18 نوفمبر 1926 بعد أن فشلوا في تأسيس معهد لهم في غرداية بالجزائر توجهوا نحو تونس وبعثوا هذا المعهد. وكان مقرّه في البداية في ضاحية المرسى تحت عنوان "دار الدّراسات" (Maison d’Etude )، وبدأت الدّروس فيه يوم 25 نوفمبر 1926. ثم انتقل إلى تونس العاصمة ليحمل اسمه الحالي منذ 30 مارس 1931 لينتقل أخيرا منذ 15 فيفري 1932 إلى موقعه الحالي بزنقة وراء نهج جامع الهواء بساحة معقل الزعيم على مسافة بضعة أمتار فقط من بيت بورقيبة العلوّ الذي تسوّغه كمحام فور عودته من باريس في صائفة 1927.

ورغم تأسيسه بعد سنة من تركيز تمثال الكاردينال "لافيجري" (Le Cardinal Lavigerie) في مدخل المدينة العتيقة والذي لقي احتجاجات واسعة. إلاّ أن المعهد كان مستقلاّ عن سياسة نظام الحماية بميله إلى سياسة التعاون التونسي الفرنسي. أما بعد الاستقلال فأصبح يتمتع باستقلالية كبيرة مقابل تبني الفاتيكان والسلطات الدينية المسيحية بروما جميع نفقات ونشاطات المعهد.

كان المعهد يهدف إلى التعرّف على الثقافة التونسية في مختلف مظاهرها، وقد تجسم ذلك من خلال إصداراته ومن بينها خاصة مجلة "إيبلا" التي تصدر منذ جانفي 1937، والتي يكتب فيها تونسيون وغيرهم بالعربية والفرنسية.

ويضمّ المعهد مكتبة مهمّة تأسّست عام 1949 ويبلغ رصيدها 34 ألف كتاب نصفها باللّغة العربية بالإضافة إلى مئات الدوريات. وهي في الأساس مكتبة بحثيّة بعد أن كانت في بدايتها مفتوحة للتلاميذ.

وتتكوّن هذه المكتبة من جزء مخصّص للدراسات العلمية في الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، وجزء ركّز على مقالات وقراءات نقدية للمنشورات الجديدة. وفي أغلب الأحيان تكون النصوص المنشورة على صفحاتها ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمسائل تونسية. وفي شهر ديسمبر 2007 احتفلت المجلة بصدور عددها رقم 200.

ولعلّ سرّ النجاح الذي عرفه معهد "إيبلا" ومجلته يكمن في سياسة "الحياد الإيجابي" كما يقول الأب "جون فونتان" و "الحياد الإيجابي" يعني لدى الأب "فونتان" الابتعاد الصارم عن التدخل في الشؤون السياسية التونسية، وكذلك الامتناع الواضح عن كل محاولات الاحتواء، سواء من جهة الأحزاب السياسية أو أجهزة السلطة. إلا أنه لا يخفى على أحد في تونس بأن السمعة الممتازة التي يحظى بها معهد "إيبلا" إنما تعود في جزء كبير منها إلى الأب "جون فونتان" شخصيا.

لكن للأسف فجر يوم 5 جانفي 2009 شبّ في مكتبة "إيبلا" حريق هائل أسفر عن موت أحد العاملين فيها وهو الأب الإيطالي "جيان باتيستا مافي "Gian-Battista Maffi"  (54 سنة). وحسب تقارير صحفية، فقد أتى الحريق والمياه التي استعملت للإطفاء على حوالي ستين بالمائة من رصيد هذه المكتبة. وكان جناح الدوريات الأكثر تضررا حيث فقدت المكتبة صحفا ومجلات (باللغتين العربية والفرنسية والايطالية) يعود بعضها إلى نهاية القرن 19م...

مسيرة وحياة الأب "جون فونتان"

ولد "جون فونتان" يوم 02 ديسمبر 1936 بقرية "سان أندري" (Saint-André lez- Lille)  شمال فرنسا على الحدود البلجيكية. درس الابتدائي بمسقط رأسه والثانوي بمعهد "روبي"(Roubaix)  حيث حصل سنة 1953 على شهادة البكالوريا شعبة الرياضيات. عزم هذا الشاب في البداية على دراسة الرياضيات، لكنه سرعان ما وجّه اهتمامه إلى العالم العربي للقيام بدراسة مستفيضة للغة والآداب العربية...

في 15 سبتمبر 1955 شدّ الرحال إلى الجزائر كتلميذ بمعهد الآباء البيض بالجزائر لكن بطلب منه تمّت نقلته في السنة الموالية إلى "معهد الآباء البيض سان جوزاف" بتيبار  (Saint-Joseph de Thibar)  قرب باجة لمواصلة دراسة الدين المسيحي.

وفي سنة 1958 عُيّن معلما بالجزائر إلى غاية سنة 1959. وبين 1959 و 1962 درس الدين بقرطاج وبمنوبة ثمّ عاد لتحقيق حلمه الأول، ألا وهو دراسة اللغة والآداب العربية بكلية الآداب بتونس.

وفي سنة 1965 توجه لمواصلة دراسة اللغة العربية بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلام بروما (l’Institut pontifical d'études arabes et d'islamologie de Rome). وفي سنة 1968 حصل على الإجازة في اللغة والآداب العربية من كلية الآداب بتونس بتفوّق.

ومن سنة 1968 إلى سنة 1977 شغل خطة مدير مكتبة معهد الآباء البيض بتونس ومدير مجلة "إيبلا" من سنة 1977 إلى سنة 1999. وبالتوازي مع ذلك رسّم في المرحلة الثالثة بجامعة "إيكس- آنبروفانس" (Université d’Aix-en-Provence) بجنوب فرنسا حيث حصل على شهادة دكتوراه الدولة في اللغة والآداب العربية بامتياز. 

وفور مناقشة لرسالة الدكتوراه، قضى خمس سنوات في التنقل بين كل الدول العربية ودون استثناء مشرقا ومغربا لجمع أمهات الكتب ونفائس الأدب والتراث العربييْنِ. وقد ركّز الأب اليسوعي (Jésuite) ذو الاختصاصات المتنوعة اهتمامه بدرجة أولى على الأدب التونسي الجديد الناطق باللغة العربية. وكان له النصيب الأوفر في التعريف بالمؤلفات القيّمة في هذا المجال في مقالاته ودراساته الصادرة بتونس أو بالخارج. وإلى جانب ذلك يعتبر "جون فونتان" من أفضل الشّخصيات الخبيرة بشؤون البلاد التونسية. وحسب عديد المختصّين لا يوجد فرنسيّ على معرفة دقيقة بمجالات الحياة اليومية وبهموم الناس وكذلك بالظروف العامة للبلاد وبالظاهرة السلفية والإسلام المتشدّد بعد 2011 (التي خصّها بكتاب قيّم صدر له سنة 2016) وبالسجون والمساجين المسيحيّين الأفارقة والأوروبيّين القابعين في السجون التونسية بعد تنامي ظاهرة الهجرة السرية إلى الضفة الشمالية للمتوسط...، أفضل من "جون فونتان"!

ورغم مغادرته المعهدَ وتقدمه في السن فقد بقي "جون فونتان" يشارك بانتظام في النقاشات العمومية وإلقاء المداخلات والمحاضرات وإرشاد ومساعدة المساجين المسيحيين في السجون التونسية متنقلا على سيارته الجديدة من نوع "بيجو 206" التي حلت منذ الألفية الثانية محل سيارته سيتروان الزرقاء (Citroën 2 CV) المعروفة من قبل الجميع في كامل أنحاء البلاد.

خصاله

لئن انسحب هذا الأب من تحمّل مسؤوليات مباشرة داخل المعهد ومجلة "إيبلا"، فإنّ هذا الأب الفرنسي دما و"التونسي" روحا ولسانا والملتزم بقضايا البلاد... قد ظلّ مع ذلك يعمل في الخفاء، وكل من يريد الحصول على معلومة منه لا يلقى منه غير الابتسامة والبشاشة والود والقبول الحسن وذلك إلى غاية منتصف سنة 2017...

وهو إضافة إلى كلّ ذلك محبّ للمسرح والسينما والموسيقى الهادئة والمألوف التونسي... وعازف ممتاز على آلة الكلارينات.

كتاباته ومؤلفاته

سار "جون فونتان" في مجال البحث والكتابة والتأليف على خطى سباقيه من الآباء البيض بالمعهد وفي مقدمتهم الأب المؤسّس للمعهد والمجلّة وصاحب الأبحاث الرائدة حول الثقافة والتعليم والنخب السياسية بتونس...، الأب "أندري ديمرسمان "André Demeerseman" (1901-1993) وصاحب الأبحاث الاتنوغرافية المتميزة حول جزير قرقنة والجنوب التونسي...، الأب "أندري- ماري لوي" André- Marie Louis" (1912-1978)... وغيرهما.

وقد اشتهر الراهب الفرنسي "جون فونتان" منذ خمسينات القرن الماضي بدراساته وبحوثه العميقة في الأدب التونسي والعربي، وأتقن اللغة العربية منذ قدومه إلى تونس منتصف الخمسينات، ليصبح من أبرز المتخصّصين والمحاضرين والكتاب في الأدب التونسي نثرا وشعرا وقصة.

فكانت كتباته من مؤلفات ومقالات ومداخلات في ندوات علمية داخل تونس وخارجها في الأدب التونسي واللغة والآداب العربية ورموزها لا غنى عنها للباحثين. ونظرا لكثرتها سنورد قائمة موجزة في 25 عنوانا لأبرز المؤلفات والمقالات الصادرة له في تونس دون سواها - حسب تسلسل زمنيّ – وذلك بين 1977 و2016 وهي تباعا:

1. Vingt ans de littérature tunisienne 1956-1975, Tunis, éd. Maison tunisienne de l'édition, 1977.
2. Mort-résurrection : une lecture de Tawfiq al-Hakim, Tunis, éd. Bou Slama, 1978.
3. Aspects de la littérature tunisienne 1976-1983, Tunis, éd. Rasm, 1985.
4. Histoire de la littérature tunisienne par les textes, tome I : Des origines à la fin du XIIe siècle, Le Bardo, éd. Turki, 1988.
5. Histoire de la littérature tunisienne par les textes, tome II : Du XIIIe siècle à l'indépendance, Tunis, éd. Sahar, 1994.
6. Histoire de la littérature tunisienne par les textes, tome III : De l'indépendance à nos jours, Tunis, éd. Cérès, 1999.
7. Études de la littérature tunisienne 1984-1987, Tunis, éd. Nawras, 1989.
8. La littérature tunisienne contemporaine, Paris, éd. CNRS, 1990.
9. Écrivaines tunisiennes, Tunis, éd. Gai Savoir, 1990.
10. Regards sur la littérature tunisienne, Tunis, éd. Cérès Productions, 1991.
11. Romans arabes modernes, Tunis, éd. Ibla, 1992.
12. La crise religieuse des écrivains syro-libanais chrétiens de 1825 à 1940, Tunis, éd. Ibla, 1996.
13. Bibliographie de la littérature tunisienne contemporaine en arabe 1954-1996, Tunis, éd. Ibla, 1997.
14. Propos de littérature tunisienne 1881-1993, Tunis, éd. Sud, 1998.
15. La blessure de l'âne, Tunis, éd. Script, 1998.
16. Recherches de littérature arabe moderne, Tunis, éd. Ibla, 1998.
17. Itinéraire dans le pays de l'autre, Tunis, éd. L'Or du Temps, 1998.
18. Le roman tunisien de langue arabe. 1956-2001, Tunis, éd. Cérès, 2002.
19. Kalimâtmuhâjira, Tunis, éd. El Bustan, 2002.
20. Le roman tunisien de langue française, Tunis, éd. Sud Éditions, 2004.
21. Points de suspension…, Tunis, éd. Arabesques, 2008.
22. Le roman tunisien a 100 ans (1906-2006), Tunis, éd. Arabesques, 2009.
23. Traduction de Noureddine Alaoui. Une musette de mirages, Tunis, éd. Centre national de traduction, 2010.
24. Bréviaire des prisonniers étrangers en Tunisie, Tunis, éd. Arabesques, 2012.
25. Du côté des salafistes en Tunisie, Tunis, éd. Arabesques, 2016.

رحم الله الفقيد والصديق "جون فونتان" ورزق أسرته وكامل الفريق العامل معه سابقا وحاضرا بمعهد الآداب العربية بتونس وزملاء الدراسة معه بكلية الآداب بتونس وكافة أصدقائه وقرّاءه... جميل الصبر والسلوان.

صدقا أيها الصديق والأب والمناضل بالقلم والفكر... يصحّ فيك القول: "كم من أجنبيّ أفضل وأكثر وطنية وغيرة على تونس وثقافتها ومثقفيها وتراثها وتاريخها من أبناء البلاد  !
أخيرا لا يسعني إلا أن أوجه دعوة ملحّة إلى الساهرين على وزارة الثقافة وبلدية مدينة تونس وأصحاب القرار أن يطلقوا اسم الفقيد على فضاء ثقافي أو مؤسّسة بحثية أو مكتبة عمومية أو نهجا أو ساحة عمومية بتونس العاصمة أو بقرطاج... الخ.

أ. د عادل بن يوسف

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.